موليير يثير شغفا متجددا في بلد شكسبير

حاول المؤرخون الفرنسيون التعرف على حياة موليير الشخصية من خلال تحليل مسرحياته، لكنهم مع ذلك لم يجدوا الكثير عن سيرته الذاتية وحياته الخاصة.

Portrait of the author Moliére (1622-1673). Private Collection. (Photo by Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images)
بورتريه للمؤلف الكوميدي والمسرحي والشاعر الفرنسي جون بابتيست بوكلان الملقب بموليير (غيتي)

بعد جفاء طويل مع الجمهور في بلد شكسبير، عادت المسرحيات المستندة إلى نصوص موليير أخيراً لتستقطب متفرجين كثيرين من الإنجليز المتعطشين لكوميديا عابرة للزمن، أبدع بكتابتها المؤلف المسرحي الفرنسي الذي يُحتفل اليوم السبت بالذكرى المئوية الرابعة لولادته.

وخلال حياته التي امتدت قرابة 50 عاما، انعكست خبرته الحياتية على أعماله المسرحية التي قدم من خلالها عرضا لفئات مختلفة من البشر، وهي الأعمال التي أمتعت الجمهور لعقود وظلت واسعة الانتشار حتى بعد رحيله في 17 فبراير/شباط 1673.

ومن أبرز مسرحيات موليير التي اشتهرت عالميا: مدرسة الأزواج-1661، ومدرسة الزوجات-1662، وطرطوف-1664، وطبيب رغم أنفه-1666، والبخيل-1668، وعدو البشر-1670، والنساء المتعالمات-1672، والمريض بالوهم-1673.

موليير في لندن

وفي قاعة المسرح الوطني في لندن حيث اعتاد الجمهور على المشاهد الجدّية العميقة، علت ضحكات الحاضرين خلال مشهد يغطي فيه الممثل الأميركي دنيس أوهير بدور شخصية طرطوف Tartuffe الشهيرة لموليير، خيانته من خلال محاكاة ساخرة لمشهد فروسية بريء وتتناول مسرحية طرطوف لموليير نقائص الإنسانية ومشكلة النفاق، واستفاد المؤلف المسرحي من مشاهد رحلاته في أرجاء فرنسا كلها مدة 13 سنة (1645 – 1658).

وقال الممثل أوهير لوكالة الصحافة الفرنسية إن "الكوميديا يمكنها أن تعبر القرون إذا عرفنا ماذا نفعل".

وأشار إلى أن "جزءاً من الفكاهة كان قائماً على اللغة، في حين استند جزء آخر على البلاهة المطلقة… لكن ثمة أيضاً لحظات عظيمة من الشفقة والعاطفة تغني العمل كثيراً".

وأثبت نجاح هذا الإنتاج المسرحي المستند إلى قصة "طرطوف" عام 2019 أن موليير قادر على استقطاب جمهور واسع في بلد شكسبير، لكنّ الحال لم تكن كذلك على الدوام.

يقول نويل بيكوك من جامعة غلاسكو، وهو متخصص في أعمال موليير في البلدان الناطقة بالإنجليزية "غالبا ما كان عدد الحاضرين على خشبة المسرح يفوق أولئك الموجودين في الصالة".

وفي الثمانينيات، حذر ناقد في صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية من الفجوة بين فرنسا والمملكة المتحدة، متسائلا "كيف يمكننا عقد اتفاقات تجارة حرة مع بلد لا يمكنه تصدير أفضل كوميديا لديه؟".

لكنّ الوضع "انعكس تماماً" مذاك، بحسب بيكوك، إذ شهدت خشبات المسرح الإنجليزية عرض العشرات من أعمال موليير في السنوات الأخيرة.

إسقاطات معاصرة

فقد قُدّم من "طرطوف" -التي ساهمت في تطوير المسرح الأوروبي- وحدها 3 نسخ في لندن بين عامي 2016 و2019. كما تم تقديم مسرحية "عدو البشر" (Le Misanthrope) عام 2009، وكذلك مسرحية "دون جوان" (Don Juan) عام 2017.

ويعزو الأستاذ الجامعي بيكوك هذا الاهتمام المتجدد إلى ترجمات جديدة يركز أصحابها على نقل روحية الكتابة أكثر من الحرص على حرفية نصوص موليير.

يقول الممثل المسرحي الأميركي دنيس أوهير "المسرحيات العظيمة تستمر لسبب ما"، مضيفا "طرطوف يمثل شخصية الوغد الفاسد المحتال. لكنه أيضاً الشخص الذي يفصح عن الأشياء، بحسب تقاليد الكوميديا الفرنسية. هو يتمرد على قواعد المجتمع واصطلاحاته".

 "جوانب كثيرة"

يقول أحد المشاهدين "لقد تساءلت في الماضي عما إذا كانت تنشئتي الفرنسية وحدها تدفعني للإعجاب بموليير"، مضيفا "لكني لا أعتقد ذلك. هناك جوانب كثيرة للغاية في موليير، إنه غني ومتنوع للغاية، يبرع بنصوص الكوميديا والتراجيديا على السواء، وبالنصوص الهزلية بالمقدار عينه للمسرحيات الفلسفية. هو يخاطب الجميع".

وقد حققت اقتباسات مسرحية لأعمال موليير نجاحا أيضا في غير مكان حول العالم، بما يشمل ألمانيا وروسيا واليابان.

كما يشير كتاب عن موليير في العالم العربي إلى أن أعمالا للمسرحي الفرنسي الشهير تُعرض في بلدان عربية منذ عام 1847 على الأقل، وأنه أصبح "الأب الروحي للمسرح" في بلدان كثيرة.

وتؤكد أمينة المحفوظات في دار "كوميدي فرانسيز" المسرحية أغات سانجوان أن "مسرحيات موليير كانت مهمة للغاية في العالم. حتى أنه شكّل الأساس لبعض المسارح الوطنية التي كيّفت أعماله مع اللغة والثقافة المحلية".

في إنجلترا، واجه موليير منافسة شديدة مع شكسبير، رغم أن أعمال الكاتب المسرحي الفرنسي عبرت إلى الجانب الآخر من بحر المانش منذ ستينيات القرن الـ17.

لكن كان لموليير صدى أكبر في أسكتلندا، وفق بيكوك، إذ "كانت ميزته الرئيسية هي أنه لم يكن إنجليزيا".

PARIS, FRANCE - NOVEMBER 29: A visitor looks at French writer Jean-Baptiste Moliere grave at Cimetierre du Pere Lachaise on November 29, 2011 in Paris, France. (Photo by Antoine Antoniol/Getty Images)
قبر موليير بالعاصمة باريس (غيتي)

رائد الكوميديا الفرنسية

لم تتوفر معلومات دقيقة حول نشأة موليير الذي ولد بالعاصمة الفرنسية باريس، لكن الباحثين أظهروا أن أمه كانت متدينة برجوازية بينما عمل والده بالقصر الملكي خادما. وعاش موليير مع والده وزوجته الجديدة، وتعلم في مدرسة يسوعية على يد عدد من نوابغ فرنسا مثل فولتير، بحسب مصادر عديدة.

وبسبب قرب محل والده من مسرح فرنسي بسيط لممثلي الشوارع، تعرف موليير في صغره على عالم المسرحيات، وبعدما درس الحقوق والفلسفة عمل محاميا لفترة وجيزة لكنه تحول للمسرح لاحقا.

بداية العشرينيات من عمره ترك المحاماة وتفرغ للمسرح على خلاف إرادة أبيه وتقاليد العائلة، وفي يونيو/حزيران 1643 اشترك مع 3 من أسرة بيجارمادلينا وجوزيف وأخته جنيفيف و7 آخرين وأستاذه القديم جورج بينيل -الذي سمى نفسه لاكوتور- في تكوين فرقة "المسرح الباهر".

ويقال إنه قام بتغيير اسمه إلى لقبه الذي اشتهر به "موليير" حتى لا يتسبب لوالده وعائلته بالحرج.

تفرغ للفن تماما رغم المتاعب المادية والاقتصادية التي واجهته، وتسببت مسرحية "طرطوف" التي تتناول النفاق الديني في غضب الكنيسة، وطالب أحد القساوسة بحرقه حيا، لكن الملك لويس الـ 14 قدم له الحماية والمساندة.

دخل بداية حياته المسرحية في منافسة صعبة مع كبار المسرحيين في باريس، ورغم أن فرقته التمثيلية لم تكن مشهورة لكنه أثبت جدارته سريعا عندما قدمت الفرقة عروضا مميزة في الأرياف واستطاعت الحصول على تصاريح رسمية، واكتشف موليير أن التراجيديا ليست خياره وأن الكوميديا تميزه وتصقل موهبته في عرض النماذج الإنسانية في مسرحياته.

وبعد عودته إلى باريس سنة 1658 قدم موليير أول مسرحيتين مشهورتين له وهما "المغفل" و"شجار حب" وطورت فرقته من أدائها واكتسبت ثقة وجدارة مستحقة.

ولاحقا تمت دعوة موليير من قبل شقيق الملك لويس الـ 14، وكانت هذه بداية الشهرة الحقيقية خاصة بعدما قدم تراجيديا في قاعة الحرس أمام الملك، ثم أدى مسرحية "الطبيب العاشق" من تأليفه أمام الملك وحاشيته ونال إعجاب الحاضرين.

وحاول المؤرخون الفرنسيون التعرف على حياة موليير الشخصية من خلال تحليل مسرحياته، لكنهم مع ذلك لم يجدوا الكثير عن سيرته الذاتية وحياته الخاصة.

وبقيت أعماله المسرحية شاهدا على مكانته الفنية وروحه الإنسانية، وصار نجاحه في تكوين فرقة فنية منضبطة مضرب الأمثال، ويعود لموليير فضل كبير في تأسيس الكوميديا الشعبية والإنسانية على المستوى العالمي.

المصدر : الجزيرة + الفرنسية