تعرف على مدينة الأرجوان التي سكنها الملوك وتعانقها السحب

صورة لمدينة كوكبان وهي تعانق الغمام (الجزيرة)

ما إن ينفك الغمام من معانقة المكان حتى تأسرك المدينة الأرجوانية بهيئتها المبهرة المتوجة لقمة الجبل، وتفاصيل تضاريسها الجبلية الناطقة كمنحوتة فنية آسرة.

هكذا بدت لنا مدينة كوكبان التاريخية للوهلة الأولى ونحن نسترق النظر إليها من مدخل مدينة شبام الواقعة أسفل جبل ذخار بوديانها الخضراء الوارفة.

قطعنا قرابة 45 كيلومترا من العاصمة صنعاء حتى وصلنا مدينة شبام كوكبان، وخلف بياض الغمام بدا لنا اللون الأرجواني الذي يستقبلك به المكان جبلا ومنازل.

شدنا مشهد عناق السحب والمدينة لنجد أنفسنا مسرعين في منحنيات الجبل نصافح الغمام الذي يتراقص في الأرجاء، وما إن وصلنا أعلى جبل ذخار حتى تراءت لنا المدينة بلون مبانيها وسورها الأرجواني التي لم يبارحها الغمام بعد.

تعلو مدينة كوكبان جبل "ذخار" الاسم القديم في ما يطلقون عليه حاليا جبل ضلاع، ويرتفع عن سطح البحر 2800 متر، ويحيط بالمدينة سور من جهتها الشمالية، فيما تسيج المدينة بحافة الجبل الشاهقة من بقية الجهات.

مآثر المدينة

ولجنا المدينة من بابها الوحيد الذي يسمى "باب الحديد"، واستقبلتنا منازلها ذات اللون الأرجواني، والطابع المعماري اليمني الخاص، وشوارعها الترابية وكأننا ولجنا أغوار التاريخ التليد.

بنيت المدينة بحجر يسمى العمش، وهو حجر ذو لون أرجواني وهو اللون السائد في المكان، ويتوسط المدينة الجامع الكبير الذي شيده الأمير سعد بن يعفر الذي حكم اليمن بتكليف من الخليفة العباسي خلال الفترة من 282 هـ إلى 331 هـ حسب مصادر تاريخية.

بوابة المدينة تسمى "بوابة الحديد" وبناها العثمانيون (الجزيرة)

كما تمتلك المدينة مساجد أخرى كمسجد المنصور الذي بناه الإمام عبد الله بن حمزة قبل حوالي 10 قرون، كان سوق المدينة بجوار الجامع لكن لم يعد في اليوم نشاط بعد أن سحب منه سوق مدينة شبام كوكبان بساط النشاط التجاري.

وللمدينة سلالم حجرية كانت هي طريق الصعود إليها، ولا يزال أبناء المدينة يستخدمونها حتى اليوم.

قصف وخراب

توقفنا لبعض الوقت بجوار منزل في وسط المدينة تعرض لقصف طيران التحالف العربي في فبراير/شباط 2016، صدمنا بآثار الخراب في المدينة التي تعاني من الإهمال الذي طال بعض مبانيها وأجزاء كبيرة من سورها.

في أعلى المنزل المهدم يعتلي الخراب تلفزيون قديم يقول الأهالي إنه من بقايا القصف، لكن هيئته تبدو أنه وضع بعد القصف كرمزية تدين ما حدث.

يقول علي حسين -وهو من أبناء كوكبان- إن قصف الطيران استهدف منزل شيخ المدينة، وعندما هربت أسرته من القصف إلى منزل في أطراف المدينة تعرض هو الآخر للقصف، مما خلف ضحايا في الأرواح والممتلكات.

ويضيف علي أن الحرب لم تحترم آثار البلد ومعالمه التاريخية والثقافية، خصوصا أنه يقع في منطقة لا توجد فيها مواجهات عسكرية.

سكنتها الدول والثقافة

بدوره، يقول الباحث إبراهيم أحمد إن كوكبان مدينة أثرية جذورها ضاربة في أعماق التاريخ، ويعود تأسيسها إلى القرن السابع قبل الميلاد.

ويوضح أن كوكبان سكنها الحميريون أثناء الدولة الحميرية، وأيضا السبئيون، كما سكنها اليعفريون في الفترة العباسية، ووصل إليها العثمانيون الذين سكنوا المدينة وبنوا فيها سورها وقلعة القشلة وبوابة المدينة.

بوابة الحديد من الداخل وبنيت في العهد العثماني (الجزيرة)

ويشير إلى أن كل الدول كانت تتعامل مع مدينة كوكبان كموقع حربي لارتفاعها الشاهق وتحصنها بتضاريس المنطقة.

ويضيف الباحث المتخصص بالآثار أن اسم كوكبان ورد في النقوش اليمنية القديمة وبالتحديد في نقش يسمى "نقش النصر" دونه الملك اليمني كرب آل وتر ذمار علي، وهو أحد ملوك الدولة السبئية الذي حكم في أوائل القرن السابع قبل الميلاد، ويفيد النقش التاريخي بأن مدينة كوكبان تتبع مملكة "نشن" التي استوطنها السبئيون بهدف توسيع رقعة الدولة السبئية.

وكانت للمدينة برك تخزن الماء، وتفنن اليمنيون القدماء بطريقة تدفئ الماء في فصل الشتاء القارس عن طريق مدافئ توقد بالحطب تحت برك الماء.

ولكوكبان فصل آخر هو فصل الثقافة والإبداع الذي ارتوى من جمال المكان ودهشته، فبرز الكثير من الشعراء كابن شرف الدين، ناهيك عن فنانين مشهورين أتوا من هذا البيئة الساحرة كالثلاثي الكوكباني، والفنان محمد حمود الحارثي، بحسب إبراهيم.

ويضيف إبراهيم أحمد أن كوكبان تميزت بالعلم والعلوم الدينية، وبرز فيها العديد من مشايخ العلم، وكانت محط إشعاع معرفي خلال فترات متعددة من التاريخ.

شبام ووديانها الوارفة

من مشارف المدينة أطللنا على مدينة شبام كوكبان التي تستريح على سفح جبل ذخار وتطل عليها مدينة كوكبان التاريخية من الأعلى.

تحيط الوديان والأراضي الزراعية بشبام كوكبان، ودب فيها النشاط بسبب السياحة الداخلية في هذه المنطقة خلال فترة الصيف.

يقول حميد الوصابي -وهو أحد زوار المدينة- إن الحرب خلفت آثارا نفسية كبيرة في نفوس الناس، خصوصا في ظل مخاطر التنقل بين المدن، فكانت مدينة كوكبان مقصدا له ولأسرته للتفريج عن النفس بجمال المنطقة وقيمتها التاريخية.

هي الزيارة الأولى لحميد الذي يبدي اندهاشه من المدينة وأجواء المنطقة، وبنهدة حزينة يقول: لدينا مناطق أثرية عريقة لكنها طي الإهمال والنسيان، ولو كانت في بلد آخر لاستثمرت بشكل جيد في مجال الثقافة والتراث.

استمتاع واستجمام

في وسط جبل ذخار المطل على شبام كوكبان ترتص سيارات المتنزهين مستمتعين بجمال المناظر المطرزة بالوديان والمباني ذات الطراز المعماري الخاص، وفي كهوف ومنحوتات الجبل يستريح كثير من الزوار في حالة استجمام وترويح عن النفس.

الغمام يخفي مدينة كوكبان (الجزيرة)

أتى محمد الحفاشي من مدينة المحويت بدراجته النارية لقضاء ساعات استجمام وسط الغيوم، ويقول محمد إنه يزور هذا المكان كلما شعر بالضيق من حياة المدينة وضجيجها، آملا لو يتم استثمار المكان بشكل سياحي جيد، وأن تتوفر فيه الخدمات السياحية المريحة للزوار.

زيادة الزيارات للمدينة خلقت فرص عمل إضافية ونشطت الحركة التجارية، خاصة في المأكولات والمشروبات، حسب علي الشبامي أحد تجار المدينة.

في متنزه كوكبان المتباهي بإطلالته وسط الجبل يبيع كثير من الأطفال بعض الملبوسات الخزفية والعقود المشغولة يدويا بالفضة والعقيق.

ويكسب حسن ابن الـ13 عاما قرابة 10 آلاف ريال في اليوم (قرابة 16 دولارا)، ولا يكتفي حسن ورفاقه بمهنة البيع فقط فهم يجيدون أيضا دور المرشد السياحي، حيث يرشدون الزوار بأسماء المواقع الأثرية.

كانت يده تشير صوب سد حبابة الذي انهار الصيف الماضي وغمر الوديان والسهول بمائه وخلف أضرارا كبيرة في المناطق الزراعية، ويلوح في الأفق صوب مدينة ثلاء ويعرفها بمدينة الحمدي إشارة إلى الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي الذي اغتيل في نهاية العام 1977.

مدينة شبام كوكبان من أعلى جبل ذخار (الجزيرة)

وشبام كوكبان هي مدينة على سفح جبل ذخار في وادي خصب، تمتاز بمزارع الخوخ والمشمش، وهي محط جذب سكان صنعاء والمدن الباحثين عن هدوء الطبيعة وسكون الريف والمجتمع الزراعي.

تفترش الأسر الأرض تحت ظلال الأشجار الوارفة مستمتعة بجمال المكان، فيما يجول الأطفال بين الأشجار بشغف.

ولا يمكن لزائر مدينة شبام كوكبان ألا يزور مطعم حميدة، وهو مطعم قديم أنشأته امرأة تدعى حميدة ويقدم الوجبات الشعبية، فيما طاقم عمله من النساء بزيهن الشعبي، ورغم وفاة مؤسسته قبل 7 سنوات فإنه ما زال يقدم خدماته بعد أن قامت بنات حميدة بتشغيله.

وتبقى مدينة كوكبان شاهدة على تاريخ تليد ودول ذهبت متحدية الإهمال وعوامل الفناء والخراب في بلد غني بالتراث الثقافي والتاريخي وتتناوبه الصراعات والحروب بين الحين والآخر.

المصدر : الجزيرة