ما قصة القطع الأثرية العراقية المهربة إلى إسرائيل؟

هناك تساؤلات أثيرت بشأن أحقية تملك تلك التحف المهربة ومدى قانونية تداولها في إسرائيل.

ألواح طينية مدوّنة بالخط المسماري هرّبت من العراق (رويترز)

شهد متحف "أرض التوراة" في مدينة القدس المحتلة عام 2015 فعالية مثيرة للجدل عرض خلالها نحو 200 لوح طيني مدوّن بالخط المسماري واللغة البابلية الحديثة، هرّبت من العراق في أوقات سابقة.

ومع إعلان إدارة المتحف آنذاك أنها عرضت تلك الألواح بإذن مالكيها، أثيرت تساؤلات عن أحقية تملك تلك القطع الأثرية المهربة، ومدى قانونية تداولها.

يقدّر الخبراء أن عمر هذه الألواح التاريخية يبلغ نحو 2600 عام (رويترز)

أهمية تاريخية

ويبلغ عمر هذه الألواح نحو 2600 عام تقريبا، فهي ترقى من حيث الأقدمية إلى زمن آخر حكم عراقي وطني إبان الدولة البابلية الحديثة (الكلدية)، التي دامت من 626 إلى 539 قبل الميلاد، حسب الباحث المختص بالآثار عبد السلام صبحي طه.

ويضيف طه -للجزيرة نت- أن هذه الألواح لم توضع عليها اليد في تنقيبات رسمية موثقة وبعلم الحكومة العراقية، ويرجح أنها قد تكون استخرجت بالنبش العشوائي ثم نهبت في التسعينيات خلال الحصار الاقتصادي على العراق.

وتأتي أهمية هذه القطع -حسب طه الذي أصدر عام 2017 كتاب الكارثة (نهب آثار العراق وتدميرها) وأفرد فيه فصلا خاصا عن مجموعة المقتني الإسرائيلي شلومو موساييف- كونها توثق لمرحلة تاريخية حرجة تتعلق بالترحيل البابلي لليهود وبأسلوب المدرسة العراقية القديمة في التدوين، الذي يحرص فيه كاتب اللوح على ذكر اسمه وتاريخ التدوين مع اسم الملك الحاكم وسنة حكمه آنذاك.

ويشير طه إلى أنه ليس هناك أي نص عبري يرقى إلى ذلك العصر، فهذه الألواح تسبق زمن ظهور الكاتب اليهودي "عزرا" الذي جمع ودوّن نصوصا مهمة في العهد القديم، وبذلك فهي تسبق التدوين الرسمي للسردية الدينية اليهودية، لأن تدوينها كان بعد العودة من بابل وباللغة الآرامية القديمة.

جرار بابلية عرضت في أحد المتاحف الإسرائيلية قبل سنوات ( رويترز)

ويلفت إلى أن تلك الألواح تنقض كثيرا من الأكاذيب التي أشيعت بخصوص الكارثة الإنسانية الأليمة التي حلّت بيهود فلسطين من المنفيين إلى أرض بابل وبكائهم على أرض عودتهم، في حين يبدو أنهم قد اندمجوا مع أهل البلاد في العراق القديم وفق النصوص المسمارية، ومارسوا التجارة والزراعة بل حتى إقراض المال، بدليل أن النصوص تتحدث عن نوع من بيت ربوي كان يقرض المال حتى للبابليين، وهذا دليل على سعة أفق الحرية التي كانوا يتمتعون بها، ولا إثبات أقوى من أن غالبيتهم رفضوا العودة إلى فلسطين وفضلوا البقاء في العراق .

ويلفت طه إلى أن أقدم تلك الألواح المعروضة يرقى إلى عام 572 قبل الميلاد حين كانت بلاد النهرين تحت حكم السلالة البابلية الحديثة (الكلدية)، وأحدثها يرقى إلى عام 477 قبل الميلاد خلال الاحتلال الأخميني الفارسي لبلاد النهرين، وأهم تلك الألواح هي التي تورد تفاصيل عن الحياة اليومية للمستوطنين اليهود.

طه يرجح أن الألواح استخرجت بالنبش العشوائي خلال الحصار الاقتصادي على العراق في التسعينيات (الجزيرة)

محتوى الرقم الطينية

وفي نهاية التسعينيات من القرن الماضي كانت المرة الأولى التي ذكرت هذه الرقم التاريخية التي تتعلق بالمرحّلين من يهود فلسطين في بابل، وذلك في مقال فرنسي استعرض فيه باحثان معلومات مفصلة عن حياة المرحّلين، وترجم فيها 6 ألواح من التي كانت بحوزة المقتني الإسرائيلي "شلومو موساييف"، كما يقول طه.

ويضيف الباحث المتخصص بالآثار أنه في بداية القرن الـ21 تبين أن الأمر لا يقتصر على الرقم الستة فقط، بل يوجد نحو 200 رقيم آخر، تعود لمقتن اسمه "ديفيد صوفر"، لافتا إلى أن تلك الألواح تكشف عن بروز بعض ميسوري الحال من اليهود وأصحاب الإمكانات الاقتصادية في السوق، مثل أسرة "رافي بن سما يهوه".

ويشدد طه على دراسة تلك الألواح لأنها توفر توثيقا مهما لحقبة تاريخية حرجة تتعلق بالترحيل البابلي لليهود، وتعطي فكرة عن التلاقح الثقافي الذي نشأ بين الوافدين الجدد والشعب البابلي آنذاك.

وقال إن "المغالطات والأكاذيب التي روّج لها منذ تدوين العهد القديم إلى يومنا هذا تدّعي المظلومية التاريخية في الشتات اليهودي، في حين تثبت تلك الألواح أنهم كانوا يتمتعون بحقوق وامتيازات كثيرة".

عطية: هناك مافيات متخصصة بسرقة وتهريب الآثار ازدهرت خلال سنوات الحصار في التسعينيات (الجزيرة)

تهريب الألواح

وكان هناك تعتيم إعلامي بشأن مسألة تهريب الآثار العراقية مع غياب الشفافية، إلا ما طرح في الفيلم الروائي العراقي "الرأس" الذي أنتج سنة 1976، ويتناول قصة حقيقية لسرقة رأس تمثال الملك سنطروق الثاني، ويسلط الضوء على مافيات التهريب حينئذ، كما يفيد علي جبار عطية رئيس تحرير جريدة أوروك التي تصدر عن وزارة الثقافة العراقية.

وفي حديثه للجزيرة نت رجّح عطية وجود مافيات متخصصة بسرقة وتهريب الآثار، انتعشت خلال سنوات الحصار في التسعينيات مستفيدة من ضعف الدولة، ودعم بعض المسؤولين المتنفذين.

ويبين أنه حسب المعلومات المتوفرة فإن بعضها بيع في أسواق دول الجوار، ثم ظهرت في أسواق لندن، ونيويورك، ولوس أنجلوس، وكشفت تقارير إخبارية عن أن الألواح السومرية والبابلية التي عرضت في متحف القدس بيعت في أسواق لندن، ونفى جامع الآثار ديفيد سوفر الذي أقرض المجموعة المسمارية لمتحف أراضي الكتاب المقدس، أن يكون له نشاط غير قانوني مضيفا أنه اشترى الألواح الطينية في الولايات المتحدة في التسعينيات من شخص حصل عليها في مزاد عام أقيم في سبعينيات القرن الماضي.

ويؤكد وجود جهود دولية تبذل بالتعاون مع المسؤولين العراقيين لملاحقة هذه الأعمال، وأن هناك مساعي من وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية لاستعادة 3817 قطعة آثارية مهربة، وهي بحوزة شركة هوبي لوبي الأميركية، ومتحف الكتاب المقدس في مدينة واشنطن.

الخفاجي يقدر آثار العراق المهربة بنحو 50 ألف قطعة أثرية ومئات آلاف المخطوطات (الجزيرة)

وفي السياق ذاته يقول الدكتور مزهر الخفاجي أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة بغداد إن تراث البلدان العربية والإسلامية عرضة للتهريب والسرقة والعبث مرة لغرض تجاري لبيعه في متاحف أوروبا وأميركا، ومرة بغية إتلافه لتدمير مفهوم السبق الحضاري.

وفي حديثه للجزيرة نت يسلط الخفاجي الضوء على دور المستشرقين وبعض قناصل الدول الأجنبية وبعثات التنقيب وتورطهم في تهريب الآثار العراقية على مدى عقود.

ويضيف أن كثيرا من تجار الآثار في المتاحف البريطانية وأسواق بيع الآثار كانوا من اليهود، والأغرب أن معظم الآثار المهربة من العراق وسوريا ولبنان وحتى فلسطين اشتراها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان وزوجته عام 1967.

ويلفت إلى أن كل الآثار التي وصلت إلى إسرائيل كانت مسروقة من بابل أو بعض الأديرة والمعابد العراقية القديمة، فمثلا كثير من الكتابات التوراتية التي كتبت في بابل كانت قد هرّبت إلى أوروبا واشتراها اليهود بسبب عقدتهم التاريخية وحلمهم في تخريب بابل.

ويقدر الخفاجي آثار العراق المهربة منذ الاحتلال الأخميني عام 539 قبل الميلاد حتى الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 بنحو 50 ألف قطعة أثرية ومئات آلاف المخطوطات، وقال "لنتخيل كم المبالغ المدفوعة لهذه الآثار".

علوان: المتاحف الإسرائيلية تمتلك عددا كبيرا من الألواح المسمارية من أرض الرافدين (الجزيرة)

اهتمام إسرائيلي

هذه المجموعة من الألواح التي عرض جزء منها في متحف الشعب اليهودي عام 2004، وعرضت كاملة في متحف بلدان الكتاب المقدس في 2015، لا تعود ملكيتها للمتاحف التي عرضت فيها، وإنما لمجموعات خاصة، لثلاثة من كبار جامعي تحف وآثار حضارة وادي الرافدين في العالم، وهم الإسرائيليان من أصل بريطاني ديفيد صوفر وشلومو موساييف والنرويجي مارتين شوين، كما يؤكد سرمد علوان رئيس الجمعية السويسرية لحماية الإرث الحضاري لأرض الرافدين.

ويبيّن علوان -للجزيرة نت- أن كلا من هؤلاء الثلاثة تمكن من الحصول على مجموعته بطريقته الخاصة وفي مرحلة تمتد من 1990 إلى 1999 وهو تاريخ صدور أول دراسة عنها.

الألواح توثق حقبة تاريخية حرجة تتعلق بالسبي البابلي لليهود وبأسلوب المدرسة العراقية القديمة في التدوين (رويترز)

ويرى علوان أن سرّ اهتمام إسرائيل بهذه الألواح كونها تغطي مرحلة محددة جدا لتاريخ اليهود ببلاد ما بين النهرين لم تدرس من قبل، وهي المرحلة التي تلت الترحيل البابلي لليهود على يد نبوخذ نصر الثاني مباشرة في 597 قبل الميلاد، واستمرت إلى ما بعد سقوط بابل بيد الفرس في 539 قبل الميلاد، ولأنها جميعها تعود إلى منطقة محددة هي منطقة (ياهودو) على ضفاف الفرات بالقرب من بابل، ومن هنا جاءت تسميتها بألواح ياهودو.

ويلفت إلى أن المتاحف الإسرائيلية تمتلك عددا كبيرا من الألواح المسمارية من أرض الرافدين، وهي الأرض الممتدة اليوم من جنوب تركيا إلى الخليج العربي بين حوضي دجلة والفرات وما جاورهما في سوريا وإيران، ويعود اهتمام إسرائيل بهذه الألواح لكونها الوثائق التاريخية الوحيدة الشاهدة على الترحيل البابلي والآشوري لليهود المذكور في الكتاب المقدس وعلى تاريخ اليهود في أرض الرافدين.

ويضيف أن هذه الدراسة حظيت باهتمام الدارسين والجامعات والمتاحف في إسرائيل، إذ أوضحت ترجمة الألواح أسماء الأسر اليهودية والمناطق التي قدموا منها التي لا تزال تحمل تلك الأسماء، وعرضها متحف بلدان الكتاب المقدس كاملة أول مرة عام 2015 رغم التحفظات الشديدة على طريقة اقتنائها وزمنه ومخالفتها الواضحة لاتفاقية جنيف لحظر استيراد وتصدير الممتلكات الثقافية بوسائل غير مشروعة.

مجيد كشف عن تحريك العراق مئات القضايا القانونية لاستعادة آثاره المهربة (الجزيرة)

الوضع القانوني

هذه الألواح مسروقة من أرض العراق ومهربة، سرقتها عصابات التهريب، وتراها اليوم في هذه المتاحف جراء تداولها غير المشروع أو الحفريات أو النبش العشوائي للمواقع الأثرية، ثم تهرب إلى خارج العراق، وتعرض بطريقة غير قانونية في متاحف العالم وهي مسروقة من أرض الرافدين، حسب الدكتور ليث مجيد رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث في العراق.

ويضيف مجيد -للجزيرة نت- أن موقف منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (​يونسكو) والمنظمات الدولية رافض لتداول هذه الرقم الطينية وأنها تكافح مع العراق من أجل استردادها بأي شكل من الأشكال لأن وضعها القانوني غير صحيح.

ويكشف عن تحريك العراق مئات القضايا القانونية لاستعادة الآثار المهربة من كل بلدان العالم، ولكن ليس لديه علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ويمكن لليونسكو ودول أخرى التحدث مع القائمين على هذا الأمر، لكي يستعيد العراق آثاره بالقانون ودون مفاوضات.

المصدر : الجزيرة