"شجاعة الخوف".. التفلسف الأوروبي زمن كورونا وخلط الفكر بالسياسة

Outbreak of coronavirus disease (COVID-19) in Rome
الجدل الفلسفي في إيطاليا وعموم أوروبا يدور حول دلالات الإغلاق الحكومي وإجراءات التباعد الاجتماعي والحجر الصحي (رويترز)

في 22 فبراير/شباط الماضي، أعلن المجلس الوطني الإيطالي للبحوث تعميمًا يشير فيه إلى عدم تسجيل إصابات بفيروس كورونا في إيطاليا، لكنه أقر في الوقت ذاته بتفشّي إنفلونزا معدية يمكن أن تسبب أعراضًا خفيفة لدى 80% من الحالات. وفي اليوم نفسه جرى الإبلاغ عن 79 حالة عدوى بالفيروس في جميع أنحاء إيطاليا.

بعد ذلك بأربعة أيام فقط، ارتفع عدد المصابين إلى 470، وكتب الفيلسوف الإيطالي البارز جورجيو أغامبين مقالا بعنوان "اختراع وباء" أدان فيه "حالة الطوارئ الجنونية واللاعقلانية واليائسة بالكامل في الاستجابة لوباء فيروس كورونا المزعوم". كما ألقى باللوم على السلطات في نشر حالة من الفزع والرعب "وإعلان حالة طوارئ استثنائية تضمنت قيودًا صارمة على الحق في التنقل وتعليق سير الظروف الطبيعية للحياة والعمل".

وأشار الفيلسوف الإيطالي ريناتو كريستي في تقرير نشرته "المجلة الأوروبية للتحليل النفسي" إلى مقال أغامبين الذي اعتبر أن ما تحتاجه بلاده هو تطبيق إجراءات للتعامل مع الإنفلونزا الموسمية، محذرًا من أن ما يكمن وراء محاولة التدخل هذه يشكل "ذريعة مثالية" لتوسيع حدود هذه الحالة الاستثنائية التي ولّدت بدورها حالة من الفزع الجماعي، الهدف منها إرغام الناس على اللجوء إلى الدولة بحثا عن الحماية، على حد تعبيره.

بالإضافة إلى ذلك، فإن "الدولة تثير الخوف من التقارب وتحثنا على الالتزام بممارسة التباعد الاجتماعي والحفاظ على مسافة بين بعضنا البعض، وهذا الأمر سيؤدي إلى إلغاء الروابط الاجتماعية واندثار التضامن، وهي حلقة مفرغة تستغلها الدولة لإحكام قبضتها على الشعب"، بحسب أغامبين. 

استدعاء كارل شميت
تبدو أفكار أغامبين متأثرة بجدل أوروبي قديم يعود إلى تاريخ الحرب العالمية الثانية، فمن خلال إشاراته المتكررة إلى الحالات الاستثنائية، يحاول أغامبين دحض فكرة الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت المتعلّقة بالدولة التنفيذية القوية، حيث يربط شميت سيادة الدولة بالاستثناء. 

ويعد شميت من أكبر نقاد الفلسفة الليبرالية في القرن الماضي، وانتُقد بشدة لمساندته النظام النازي بعد وصول النازيين إلى سدة الحكم في ألمانيا عام 1933، ومع ذلك لا يزال تأثيره الفكري على المثقفين المعاصرين هائلا.

انتقد شميت جمهورية فايمار الديمقراطية الألمانية التي نشأت عام 1919 واستمرت حتى تسلم النازيين السلطة، معتبرا أن نظامها الدستوري الليبرالي وتعدديتها السياسية يمثلان إضعافا لسلطة الدولة، ومؤكدا أن الديمقراطية البرلمانية ما هي إلا "طريقة حكم برجوازية متقادمة".

وفي ظل انعدام ثقة أغامبين بالدولة، يمكن أيضا ملاحظة تأثره بالفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي يلخّص عدم ثقته بالسلطة وجميع تجسيداتها من خلال كناية "قطع رأس الملك"، التي تنطوي على تهميش الدولة.

وفي كتابه "المراقبة والمعاقبة"، خصص فوكو قسما يصف فيه كيفية تطبيق السلطة خلال الأوبئة. ومثلما توصل الفلاسفة ورجال القانون إلى فكرة "حالة الطبيعة" من أجل تفسير الحقوق والقوانين، حَلُم الحكام "بحالة الوباء" لوضع مخططات تأديبية مثالية.

شجاعة الخوف
أشار صاحب التقرير الفيلسوف كريستي إلى أن هذه الصور توضح الفلسفة الخطيرة والمخيفة التي يعتنقها أغامبين، وأورد ردا عليه من الفيلسوف سيرجيو بنفينوتو حين أنه في إطار الحرب على هذا الوباء، من شأن المسافات أن تقربنا من بعضنا البعض، وأن تكون إستراتيجية الخوف أفضل طريقة لضمان علاقات ودية.

ويرى بنفينوتو أن "نشر الخوف قد يكون أكثر حكمة من التفكير فلسفيا"، مضيفا أن "الخوف في بعض الأحيان يتطلب شجاعة".

ويشير كريستي إلى أن قراءة أغامبين لفلسفة شميت ليست مكتملة، ذلك أن "شمولية" الفيلسوف الذي دعم النازية تستبطن فكرة وجود سلطة تنفيذية قوية هي التي تقرر اختيار الاستثناء، لكن الإجراءات التي اتخذتها إيطاليا لمواجهة الوباء ليست نتيجة الغريزة الاستبدادية للنخب الحاكمة التي تبدو مستعدة للبحث عن تبرير لاعتماد الاستثناء كما يتصور أغامبين، بل -على العكس من ذلك- إن الإجراءات التي اتخذتها للتعامل مع الوباء هي تلك التي يجب على الأنظمة الإدارية اتخاذها من أجل الاستجابة بفعالية لاحتياجات الناس.

ويتابع كريستي قائلا "باعتباره مؤيدا لفكرة سلطة تنفيذية قوية، يعد (الرئيس الأميركي) دونالد ترامب عدوا صريحا للسلطة الإدارية التي يطلق عليها اسم الدولة العميقة، فحملته المناهضة للدولة وخوفه من السلطة الإدارية، مسؤولان مسؤولية مباشرة عن الفوضى الوبائية التي نشهدها اليوم في الولايات المتحدة".

وحسب "وول ستريت جورنال" الأميركية، فإن منتجي وموزعي المستلزمات الطبية اللازمة لإنقاذ الأرواح من أقنعة وأجهزة تنفس اصطناعي، "يفتقرون إلى التوجيه من قبل الحكومة الاتحادية بشأن الأماكن التي يجب أن يرسلوا إليها الإمدادات، في ظل تهافت المستشفيات على الأقنعة وأجهزة التنفس التي تحتاجها لمكافحة فيروس كورونا المستجد".

ويعتبر كريستي أن هذه الفلسفة المضللة تعرّض قدرة الحكومة على الحفاظ على حياة الآلاف من المواطنين للخطر، ويرى أن البديل هو سياسة جمهورية "الحكم برضا الشعب"، تكون فيها الدولة راعية ومدافعة عن الصالح العام، بدلا من غرس "رهاب الدولة" في النفوس خلال الوقت الحالي الحرج. 

وإذ تعارض فكرة "الجمهوريانية" في جوهرها السياسة الليبرالية، لأن هدفها الرئيسي ليس إطلاق الحرية الفردية وإنما تحقيق مصلحة المجموع مثلما بيّن فوكو، فإنها أيضا تشجع على المراقبة الدستورية للسلطة وتأطيرها ولا تبحث عن تحطيم فوضوي لها، بحسب كريستي.

ويختم تقريره بالقول إنه إذا حاول المرء أن يضمن -بأي ثمن- حرية فردية مجردة ومقدسة وشجع فلسفيا على رهاب الدولة، فسيصبح من المستحيل حينها توحيد المواطنين حول مهمة التخفيف من هذه الجائحة، إذ تتطلب سياسة الصالح العام بيروقراطية محترفة محكومة بمبادئ أخلاقية، مما يشجع على ازدهار المجتمع المدني والجمعيات الخيرية بفضل التعاون الذي تقدمه الدولة القوية التي تحمي الضعفاء من الأوبئة وغيرها من الآفات الاقتصادية والاجتماعية.

المصدر : الجزيرة + وكالات