أسلم في عمر الصبا وترجم شيخ الأزهر كتابه.. وفاة الفيلسوف الفرنسي ميشيل شودكيفيتش

الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل شودكيفيتش
صورة للفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل شودكيفيتش في شبابه (مواقع التواصل)

عمران عبد الله

توفي -أمس الثلاثاء- الفيلسوف الفرنسي المرموق ميشيل شودكيفيتش عن عمر ناهز 81 عاما، وقد عُرف باحثا كبيرا في الصوفية ومختصا بدراسات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الأندلسي، وكان أكاديميا معروفا ينحدر من عائلة أرستقراطية بولندية قديمة، استقرت في فرنسا منذ منتصف القرن 19. 

اشتهر الفيلسوف الراحل شودكيفيتش بكتابه "بحر بلا ساحل: ابن عربي، الكتاب والشريعة"، وهو بمثابة مدخل لدراسة فكر ابن عربي الذي استلهم منه المؤلف عنوان الكتاب، حيث يصف المتصوف الكبير القرآن الكريم بأنه بحر لا ساحل له؛ معتبرا آن كل آية وكلمة وحرف تحتمل وجوها للتفسير يفهمها الإنسان بحسب الحالة التي هو فيها، مؤكدا أن قارئ القرآن يجب أن يعود لحالة "الأمّية" أي "كما ولدته أمه"، وفي هذه الحال فقط يتسنى للمخلوق أن يستقبل كلام الخالق، بحسب ما نقله الفيلسوف الفرنسي الراحل عن المتصوف الأندلسي. 

وتحوّل الفيلسوف الفرنسي للإسلام في سن مبكرة، عندما كان يبلغ السابعة عشرة من العمر، ووصف ذلك التحول بأنه "نتيجة للبحث الشخصي الذي قام به في سن المراهقة"، معتبرا أن الكاثوليكية لم تقدم له إجابات كافية.

ويشرح شودكيفيتش لماذا ظل ابن عربي ملهما ومثيرا للجدل على مدى سبعة قرون حتى الآن، مستعرضا الجدل الطويل بين من يعتبرونه أعظم معلم روحي في التاريخ الوسيط، وبين من يرونه زنديقا.

ويرى الفيلسوف أن القرآن الكريم متجذر بقوة في كتابات ابن عربي، وقد حلل شودكيفيتش في الكتاب ذاته عددا من الألغاز حول نص الشيخ الأكبر المحير "الفتوحات المكية"، وكذلك "فصوص الحكم".

أسفار وتجارب
وبخلاف اهتمام الفيلسوف الفرنسي الراحل بشخصية المتصوف الكبير ابن عربي، صدر له كتاب "الكتابات الروحية للأمير عبد القادر" في منتصف العام 1995، يتناول فيه شخصية الأمير عبد القادر الجزائري بخلاف صورته كمجاهد ومناضل كبير. 

ويرى شودكيفيتش في الكتاب أن الأمير الجزائري كان معلما روحيا ذا نسب مباشر لابن عربي، واختار للتدليل على فكرته 39 نصا للأمير الجزائري، فيها كثير من التعليقات على كتابات ابن عربي. لتضيء هذه الفكرة. 

كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل عن تأثر الأمير عبد القادر الجزائري بابن عربي في كتابه
كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل عن تأثر الأمير عبد القادر الجزائري بابن عربي في كتابه "الكتابات الروحية للأمير عبد القادر" (الجزيرة)

يذكر أن ميشيل شودكيفيتش ولد عام 1929 في العاصمة الفرنسية باريس، وكان أخا لخمسة أشقاء، وعمل والده قاضيا في فرنسا، وأكمل المفكر الإسلامي الفرنسي تعليمه في باريس ليبدأ السفر بعد تخرجه من الجامعة. وقد تزوج من إيطالية، وأثناء عمله ورعايته لعائلته تعلم اللغة العربية بجهوده الذاتية.

تعرف الفيلسوف الفرنسي الراحل على ابن عربي بفضل أعمال ترجمها باحث إسباني، وكانت هذه نقلة هائلة في حياته، إذ فتحت له نصوص ابن عربي عالما روحانيا من التصوف وحب الله تعالى والنبي الكريم، وبدأ رحلاته في العالم الإسلامي في المجتمعات المغاربية ومصر وتركيا وإندونيسيا التي كثرت أسفاره إليها، وأتاحت له هذه الرحلات فرصة لاكتشاف التصوف. 

الولاية عند الشيخ الأكبر
وللفيلسوف الفرنسي الراحل عدد من المؤلفات عن التصوف، وترجم الفتوحات المكية للشيخ الأكبر، وتناول "الولاية والنبوة عند محيي الدين بن عربي"، وترجم الكتاب شيخ الأزهر أحمد الطيب من الفرنسية للعربية.

وقال شودكيفيتش في مقدمة كتابه الولاية إن دراسات ابن عربي دخلت دوائر الاستشراق منذ منتصف القرن 19، مستشهدا بترجمة المستشرق الإنجليزي نيكلسون لديوان ابن عربي "ترجمان الأشواق" عام 1911، وترجمات أخرى لرسائل ابن عربي للغات الإنجليزية والإيطالية والفرنسية، مما جعل ابن عربي موضوعا حافلا في أبحاث المستشرقين.

ورغم ذلك يعيب الفيلسوف الفرنسي على المستشرقين غياب القراءة الجادة والمعمقة لتراث الشيخ الصوفي، بينما ينتقد توظيف بعض الباحثين الغربيين للموضوع، مثل المستشرق الإسباني والقس الكاثوليكي آسين بلاثيوس الذي وصف ابن عربي بأنه "مسيحي بدون مسيح، وأنه مدين لآباء الصحراء (الرهبان) في كل ما جدد به الروحانيات الكاثوليكية".

وانتقد شودكيفيتش كذلك نظر مؤرخ التصوف والفلسفة المصري أبو العلا عفيفي لتراث ابن عربي من منظور فلسفي بحت كواحد من المفكرين، وهو ما يراه شودكيفيتش "تفسيرا هزيلا ومختزلا".

وفي المقابل يرى شودكيفيتش أن "اتحاد الولاية بالعبقرية في شخصية ابن عربي، وامتزاج معظم العلوم المتباينة بالصور الأدبية المتنوعة في تراثه، كل ذلك جعل من طبيعة هذه الشخصية وطبيعة تراثها ومحاولة سبر أغوارها -شكلا ومضمونا- أمرا بالغ الصعوبة".

‪(الجزيرة)‬ ترجم شيخ الأزهر أحمد الطيب كتاب
‪(الجزيرة)‬ ترجم شيخ الأزهر أحمد الطيب كتاب "الولاية" لشودكيفيتش

وتعرض شودكيفيتش في كتابه لنقد الفقيه والمفسر تقي الدين بن تيمية لموضوع التبرك بقبور الأولياء عند ابن عربي، واعتبر شودكيفيتش -الذي تأثر بشخصية ابن عربي- أن ظاهرة التبرك لم تكن بدعة ابتدعها المسلمون في القرن 13 و14 (زمن نقد ابن تيمية للظاهرة)، وإنما عبر المسلمون منذ صدر الإسلام عن تعظيمهم لآل البيت النبي والصحابة، ثم بدأ في بغداد تشييد الأضرحة على قبور الأولياء الذين اشتهروا في القرن الثالث الهجري تكريما لهم وتعظيما لشأنهم، وقد حدث ذلك في بداية القرن الرابع الهجري على أقل تقدير، بحسب الفيلسوف الفرنسي. 

وينقل شودكيفيتش عن أدب الرحلات -كما يلاحظ عند ابن جبير في القرن 12 الميلادي- وجود سلوك إسلامي راسخ يتمثل في التبرك ببعض الأمكنة، وهو تقليد يعتبر شودكيفيتش أنه يصعب تحديد بدايته التاريخية، وربما كانت كتب السير وطبقات الصوفية وراء هذا التقليد العميق الجذور، كما يرى الفيلسوف الفرنسي الراحل الذي لا ينفي تأثير الأبعاد السياسية في الجدل العقائدي والفقهي الطويل حوله.

‪‬ في كتابه
‪‬ في كتابه "بحر بلا ساحل" يناقش الفيلسوف الفرنسي الراحل أفكار ابن عربي من زوايا غير استشراقية

عصر جديد
ورغم أن شودكيفيتش يرفض تقسيم التاريخ لمراحل فاصلة، فإنه لا يرى مفرا من اعتبار عصر ابن عربي بداية لعهد جديد؛ إذ شهد ميلاد صياغات نظرية وسلوكيات عملت على توجيه "إلهام" كل ما استجد بعدها من تطورات في التصوف الإسلامي حتى يومنا هذا، وكذلك يمثل هذا العصر فترة تحول وانتقال على صعيد التاريخ السياسي للأمة الإسلامية، فقد كان سقوط بغداد على يد المغول سنة 1258، وانهيار الخلافة العباسية، متزامنا مع انتقال التصوف في هذا العصر لمرحلة جديدة صار فيها مستقلا وواضح الملامح والقسمات، وتحول اجتماعيا إلى التنظيم والتعقيد مع مفاهيم ابن عربي ليصبح التصوف مذهبا له معارف ومناهج وطرق صوفية ظهرت للوجود .

ويرى شودكيفيتش أن الأبحاث الاستعمارية في مجال التصوف غالت في تقدير خصائص الشعوب الإسلامية العرقية (مثل البربر والأفارقة وأبناء الملايو) على حساب الإسلام أو العقيدة الجامعة للشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها، ويرجع شودكيفيتش ذلك لأن الجامعة الإسلامية كان يمكنها أن تتحول لسلاح خطير يقض مضاجع المستعمرين وأنصارهم.

وينفي في كتابه التفرقة الحادة بين "إسلام العلماء وإسلام الطرق الصوفية" مؤكدا أنها مصطنعة، ومعتبرا أن التصوف في غالب أمره كان لصيقا بأوساط البسطاء من الجماهير، ويشهد على ذلك أن "أهل الصفة" في المدينة المنورة -في صدر الإسلام- كانوا نماذج وصورا مثلى يقتدى بها، مع أنهم كان يعيشون على ما يقدم لهم من صدقات، بحسب قوله.

المصدر : الجزيرة