جدل الاستشراق مجددا.. رودنسون ووائل حلاق في مواجهة إدوارد سعيد

Omran Abdullah - لوحة فرانسوا دورليان في المشرق ، ١٨٣٦، قلم رصاص أسود وألوان مائية على ورق أزرق، ويكي كومون - الاستشراق وصورة الشرق الأوسط "غير المستنير" .. من الاستعمار إلى الاستيطان
لوحة الفنان فرانسوا دورليان "في المشرق" (1836) (مواقع إلكترونية)

عبد الرحمن مظهر الهلوش-القامشلي

منذ أن أصدر المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد عام 1978 كتاب "الاستشراق" لم يتوقف النقاش حول الموضوع، وكشف سعيد الصاعد من قلب المؤسسة الثقافية الغربية ذاتها ما اعتبره تواطؤا معرفيا استمر قرونا طويلة، وشارك في صياغته أشهر عقول الغرب بقصد أو من دون قصد.

ولم يكن الهيام بالشرق وحضارته حكرا على فئة معينة، فاشترك فيه المهندس والباحث والرحالة والفنان والأديب والجاسوس ومغامرون ولصوص آثار؛ الكل يبحث عن ضالته. 

وحاز إدوارد سعيد (1935-2003) ثقافة واسعة بالإنجليزية والفرنسية، مما أعطاه قدرة على الاطلاع على المؤلفات الاستشراقية الأصلية حول الشرق الذي فكك خيوطه المتشابكة نتيجة كثرتها وغزارتها، وكشف سعيد عن الآليات التي يوظفها الغرب ليبلور هوية واضحة، تعتمد أساسا على اختراع أو تنميط ما يسمى "الشرق".

المتن الاستعماري
فتح إدوارد سعيد باب تفكيك المتن الأدبي الاستعماري على مصراعيه، ليصبح في غضون سنوات قليلة جدا رائد مدرسة فكرية نقدية تحمل اسم "ما بعد الكولونيالية"، التي تتناول الآثار الثقافية والاجتماعية التي خلفها الاستعمار في الشعوب التي خضعت له، وتركز هذه الدراسات على علاقات القوة في المجتمعات.

وأكد سعيد أن الاستشراق ليس مجرد خيال أوروبي، بل كيان له وجوده النظري والعملي، واستثمرت فيه إمكانات كبيرة على مر الأجيال، وهو ما جعل الاستشراق مذهبا معرفيا عن "الشرق"، من خلاله تحكمت الإمبريالية في مجال كامل من الدراسات والإبداعات والمؤسسات البحثية بقصد أو من دونه. 

وبنى سعيد جدليته على أعمال الفيلسوفين الفرنسيين جاك دريدا وميشيل فوكو، وعرف الاستشراق بأنه ليس مجرد حقل أكاديمي، بل "نمط فكري مبني على تمييز أنطلوجي و ابستمولوجي بين الشرق وفي معظم الأحيان الغرب، مؤسساً لثنائية متجذرة بين الشرق والغرب".

السجالات الأيديولوجية
لكن النقد الحاد لإدوارد سعيد جاء من قبل أكاديميين مستشرقين، وبعضهم من أصول شرقية، وكان أول من أثار الردود من كبار المستشرقين الفرنسي مكسيم رودنسون (1915-2014) الذي كان صاحب أطروحات متفهمة عن العرب والإسلام وغير معادية لهم.

وألف رودنسون عدة كتب تناولت في مجملها القضايا العربية والإسلامية، ومنها "الإسلام والرأسمالية" 1966، والماركسية والعالم الإسلامي 1972، ومحمد ص 1979، والعرب 1979، وجاذبية الإسلام 1980- 1989.

ويؤكد رودنسون أن "مفهوم الاستشراق نفسه ناتج عن ضرورات علمية عابرة، التقى عندها علماء الاستشراق الأوروبيون المتمرسون في دراسة الثقافات الأخرى، وشوّهت هذه الحالة بقوة رؤيتهم للأشياء". 

كما رد رودنسون على أطروحات إدوارد سعيد الواردة في كتابه "الاستشراق"، بالقول إن المستشرقين الأوروبيين ليست لديهم كلهم النية المبيتة للتآمر على الشرق واحتلاله. وضرب مثالاً بالألمان، الذين لم يحتلوا أيا من بلدان الشرق، بل كانوا متعاطفين مع سكانه.

ورغم أن الألمان كانوا أمهر الغربيين في النطق باللسان العربي وأكثرهم نبوغا فيه، فإنهم كانوا يملكون رغبات استعمارية شرهة وشرسة، حيث لم يظهروا نواياهم الاستعمارية، إلا بعد الوحدة الألمانية عام 1870م. 

وما تجدر الإشارة إليه أن رودنسون لم يكن يحب مصطلح المستشرق، فحسب تصوره أن الاستعمار شوهه، ولذلك كان يعتبر نفسه مستعربا، همه الاطلاع على الثقافة العربية والإسلامية.  

جاذبية الإسلام
وفي مقدمة كتابه "جاذبية الإسلام"، تعرض رودنسون لما كتبه سعيد، ويعترف بأن قسما كبيرا من نقده يظل صحيحا في نطاق ما يسمى الاستشراق التقليدي، ولكنه يأخذ على بعض أفكار إدوارد سعيد أنها تقود لدائرة نظرية تنبني على علمين متضادين: أحدهما برجوازي، والآخر بروليتاري. لكن ذلك لا يعني موافقته في كل أحكامه وتصوراته، حيث يبرر بعض انتقادات المستشرقين كالنزعة النسبية التامة التي يعدها غير مؤسسة عند إدوارد سعيد.

ويعود فيقول "وتكمن مأثرة سعيد في أنه أسهم في تعريف أوسع لأيديولوجية الاستشراق الأوروبي، وفي الواقع الأنكلوفرنسي خصوصا في القرنين 15 و20، وتجذرها في الأهداف السياسية والاقتصادية الأوروبية آنذاك".

كما يرد رودنسون على سؤال حول رأيه في سعيد وتخصصه في نقد الاستشراق؛ "لم أحبه منذ البداية، وبالنسبة إلي فهو برجوازي، ثم إنه مثالي جدا، كذلك فإن له أفكارا سطحية حول الإسلام أسميها أنا البرجوازية، من جهة أخرى فهو يستغل ذلك في أعماله الأدبية، كما أنه ينتمي إلى حقل ثقافي لا أحبه إطلاقا، هو الحقل الذي أسميه الحقل الفلسفي الأدبي"، ويتابع "حسب رأيي، إن المنتمين إلى هذا الحقل مطلعون على أمور كثيرة ومتفرقة، ولكنهم لا يجيدون مجالا معينا".

أما إدوارد سعيد فقد أثنى في كتابه "الاستشراق" على مواقف رودنسون، وعده من القلائل الذين خرجوا عن الاستشراق، وأشاد بالمستشرق الفرنسي جاك بيرك. 

ويعود رودنسون فيقول إن الفضل الكبير للكتاب هو أنه هز الرضا الذاتي لكثير من المستشرقين عن أنفسهم، وجعلهم يفكرون في مصادر أفكارهم وصلاتها، والتوقف عن النظر إليها على أنها استنتاج طبيعي ومحايد لحقائق درست من دون أية افتراضات.

جدل متجدد
وفي كتابه "قصور الاستشراق" (2018) قدم المفكر الفلسطيني وائل حلاق نقدا متأخرا لسعيد، معتبرا أنه أساء فهم الاستشراق، ولم يستطع أن يقرأ هذه النصوص خارج العالم الاستعماري، الذي أنتجت خلاله؛ في حين كان عليه -كما يرى حلاق- أن يتنبه لضرورة تسكين هذا الإنتاج في بنى تحتية أعمق، عبر النظر لخطاب الاستشراق، ليس كانعكاس أو تبرير لمشروع استعماري، بل كانعكاس للمشروع الحداثي.

وتوصل حلاق من خلال كتابه إلى مفارقة مفادها أن سعيد كان مستشرقا بحسب تعبيره؛ لأن الاستشراق -وفق حلاق- لا يعنى فقط بتفكيك صورة شرق المستشرقين المختلف الذي أنتج تحيزاتهم، بل هو أيضا نقد للبنى التحتية التي أنتجت التنوير الغربي، معتبرا أن سعيد بقي وفيا لأفكار عصر التنوير الإنسانية العلمانية.

ويبقى تسليط سعيد الضوء على موضوع الاستشراق، وسعيه لإبراز فوقية الفكر الاستشراقي -الذي أُنتج ضمن سياقات سياسية واجتماعية وعقائدية محددة- مؤثرا، لدرجة أن الجدل بخصوص أفكاره لم يتوقف حتى يومنا هذا، وهي الأفكار التي كشف فيها سعيد عن تمركز الغرب حول ذاته؛ برسم عالم الشرق كعالم مضاد بطريقة تنزع إلى موضعته في حدود المهمش والمنتقص، وإعادة كتابة التاريخ الثقافي الأوروبي بصورة تحقق له الوحدة والاستمرارية من جهة، وتجعل منه التاريخ العام للفكر الإنساني برمته من جهة أخرى.

المصدر : الجزيرة