طلبة عسكريون بالإجبار في جنوب تونس.. رواية المنفى والوطن المهمش في "محتشد رجيم معتوق"

غلاف كتاب “ الطريق إلى محتشد رجيم معتوق
الروائي والشاعر التونسي عمار الجماعي دوّن تجربته في التجنيد العقابي بعد أكثر من ربع قرن

في عهدي الرئيسيْن الراحلين زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة، اعتقلت السلطات التونسية مئات الطلبة من تيارات فكرية مختلفة، وأبعدتهم إلى منفى بمنطقة نائية في تجنيد عسكري عقابي (محتشد)؛ بهدف إخماد احتجاجات طلابية متزايدة.

واستعرض الروائي والشاعر التونسي عمار الجماعي في روايته الجديدة "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق"، الصادرة عن دار "ورقة" للنشر التونسية؛ رحلة المعاناة في المعتقل النائي والتجنيد العقابي القاسي بأقصى جنوب الصحراء التونسية في أواخر عهد الحبيب بورقيبة (حكم من 1956-1987).

وتقع "رجيم معتوق" على بعد 120 كيلومترا عن مدينة قبلي قرب الحدود الجزائرية، وأقيمت فيها ثكنة عسكرية، اعتقل فيها المئات من الطلبة من قبل النظام التونسي زمن حكم بورقيبة وبن علي في ثمانينيات القرن الماضي.

زمن الاستبداد
وجرى تجنيد عمار الجماعي -كاتب الرواية وأحد أبطالها في الوقت نفسه- قسريا عام 1987، عندما كان طالبا في السنة الثانية من المرحلة الجامعية في اختصاص الأدب العربي، وذلك لمعاقبته على خلفية خطاب ألقاه في ساحة جامعة منوبة بالعاصمة، انتقد فيه نظام بورقيبة، ووصفه "بالقمعي والظالم".

وجد الجماعي في الجامعة مناخا منفتحا وحرا بشكل نسبي؛ مما شجعه على السعي للانعتاق من الديكتاتورية ليدفع ثمن ذلك شهورا صعبة من حياته قضاها في المنفى الإجباري.

وسبرت الرواية أغوار تجربة الاعتقال التي انطلقت في البداية بسجن المؤلف في سراديب وزارة الداخلية وسط العاصمة وتعذيبه، مرورا بمرحلته في الإصلاحية العسكرية بمنطقة "قرعة بوفليجة" في صحراء محافظة قبلي (جنوب)، حيث تلقى "تدريبا" قاسيا، وصولا إلى مرحلة ترحيله إلى معتقل رجيم معتوق الصحراوي، حيث بدأت المعاناة.

ووثقت الرواية معاناة الجماعي وآخرين مثله، وأرّخت لمرحلة من تاريخ تونس بعد الاستقلال (1956)، وقبل ثورة 2011.

ويقول المؤلف في تدوينة نشرها نهاية العام الماضي إنه قرر كتابة الرواية عندما اقتنى عددا من مجلة صادرة عن جامعة منّوبة ووجد فيها مغالطات لما حدث.

ويضيف الجماعي في صفحته على فيسبوك أنه انزعج من التوظيف السياسي لتجربة مؤلمة لا يعرفها إلا من عاشها وعاشر أصحابها وشهد لحظات ضعفهم، وقرر المؤلف آنذاك أن يحكي تفاصيل تكتم عليها طيلة 26 عاما.

بين نظاميْن
دخل الراوي المعتقل في ربيع عام 1987 قبل أشهر من انقلاب بن علي على نظام بورقيبة (7 نوفمبر/تشرين الثاني)، وخرج منه منتصف الشهر نفسه عقب حصوله على عفو خاص.

ووصف الروائي المعتقل بـ"المنفى الصحراوي الذي كانت تغيب عنه جميع مقومات الإنسانية".

ووفق الرواية، كان المعتقل مقسما حسب الأيديولوجيا، فهناك خيام تجمع الطلبة المنتمين للفكر الإسلامي (حركة الاتجاه الإسلامي التي تحولت إلى حركة النهضة لاحقا)، وخيام أخرى تجمع اليساريين (تيارات ماركسية مختلفة)، وبعض القوميين (الطلبة العرب التقدميين الوحدويين وناصريين)، وبين هذه التجمعات الأيديولوجية كان هناك المحايدون أو المستقلون غير المنتمين، مثل راوي القصة.

شكل المعتقل مزيجا متنوعا وفسيفساء فكرية في جيل حاول أن يرث بورقيبة عبر مفاهيم متصارعة، ولكنها منسجمة في هدف الإطاحة به.

ولم يكن المؤلف منتميا لأي تيار سياسي، ولكنه كان رافضا للديكتاتورية، وكان الجماعي المنحدر من منطقة الحامة بمحافظة قابس (جنوب شرقي البلاد) معارضا لاحتقار النظام الحاكم لأهل الجنوب التونسي وتهميشهم.

وحسب نص الرواية، كان الجماعي يبحث عن "جنوبيته" الرافضة للسلطة التي جوعت أهله، وهمشت تاريخ بلده، وصنفته منذ الصراع البورقيبي واليوسفي (نسبة لصالح بن يوسف)، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وصولا لصراع اليسار والإسلاميين مع بورقيبة (في السبعينيات والثمانينيات)، معتبرا أن "الجنوب كان محتقرا من قبل بورقيبة".

طلبة عسكريون
لم تقتصر الرواية على حديث الراوي عن تجربته فحسب، بل تطرقت لعلاقته الإنسانية والشخصية ببعض الطلبة ممن كانوا رفاقه في الكفاح، وأصبحوا الآن سياسيين بارزين، مثل شكري بلعيد، القيادي اليساري الذي اغتيل عام 2013. وسالم الأبيض، النائب عن حركة "الشعب" (قومية ناصرية). ومحسن مرزوق، رئيس حزب "مشروع تونس" (ليبرالي اجتماعي).

وأراد الراوي من خلال الحديث عن تجربته أن يكرم رفاقا له أغفلهم التاريخ، مثل حمادي حبيق (الاتجاه الإسلامي حينها، النهضة لاحقا)، الذي وصفه "بشهيد الحركة الطلابية"، حيث توفي عطشا في الصحراء خلال محاولته الفرار من المعتقل حينها.

وتدفع الرواية بالوعي الجماعي التونسي لاستحضار فصول قريبة من تاريخه تمزج بين السياسي والاجتماعي والثقافي في زمن الديكتاتورية الآفلة.

المصدر : وكالة الأناضول