الطاعون المتفشي بالبيت الأبيض.. ماذا يقول ألبير كامو عن زمن ترامب؟

ألبير كامو
كامو يثير جدلا متواصلا بين المثقفين الجزائريين بشأن هويته وفكره (مواقع التواصل)

في روايته الشهيرة "الطاعون" بنى الأديب الفرنسي ألبير كامو الأحداث بطريقة التورية والرمزيات المخبأة بإحكام بين السطور، ويقول النقاد إن الرواية -التي أهلت كاتبها لنيل نوبل للأدب- يمكن أن تقرأ على عدة طبقات وتعكس مفاهيم إنسانية عميقة وجدلا فلسفيا يتدرج من الوجودية إلى العبثية وتتعرض لموضوعات تتجاوز أحداثها الظاهرة.

ولاحظ اللغويان جورج لاكوف ومارك جونسون ذات مرة أننا نستخدم في حياتنا المجاز أو الرمز ليتحكم في طرائق تفكيرنا، وتجاربنا وتصرفاتنا. فنحن لا نعيش بالمجاز أو الاستعارة والرمز بل نموت بها أيضا.

وهكذا يستهل روبرت زاريتسكي أستاذ التاريخ الفرنسي الحديث بجامعة هيوستن مقاله في مجلة فورين أفيرز الأميركية.

مجازات مميتة
في تسعينيات القرن الماضي، درجت محطات الإذاعة التابعة لقبيلة الهوتو في رواندا عام 1994 على وصف خصومهم من قبيلة التوتسي بالثعابين، فكان أن استخدموا ذلك التوصيف المجازي مبررا لقطع رؤوسهم بالسواطير.

وفي ألمانيا صور النازيون اليهودَ على أنهم "هوام" ثم أعملوا فيهم تقتيلا بمعسكر أوشفيتز للاعتقال في بولندا إبان الحرب العالمية الثانية، ولم يكن استعمال النازيين للمبيد الحشري "زيكلون بي" في ذلك المعسكر من قبيل الصدفة، بحسب زاريتسكي.

طاعون الرئيس
وكمثل معاصر للطاعون كتعبير مجازي استشرى كالوباء منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. وسواء تجلى ذلك في مقال رأي بصحيفة واشنطن بوست بعنوان "طواعين ترامب العشرة" أو تحليل بصحيفة أميركان بروسبكيت الإلكترونية بشأن الطاعون المتفشي داخل البيت الأبيض، أو مقال بمجلة ذا هيل يدعو إلى استئصال ما يسميه "طاعون ترامب" فإن هذا المجاز بالذات صار معديا كما الوباء تماما.

وفي وقت نشر رواية "الطاعون" عام 1947، كان كامو قد نال سمعة عالمية بسبب روايته "الغريب" وكتابه الفلسفي بعنوان "أسطورة سيزيف". وكلتا الروايتين نشرتا أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا وكان لهما الفضل في إرساء سمعته لفترة ما بعد الحرب الكونية الثانية باعتباره كاتبا وجوديا، وهي صفة طالما رفضها.

‪(الجزيرة)‬ حين ينسج المؤلف روايته من وحي الخيال وليس أطروحة أخلاقية
‪(الجزيرة)‬ حين ينسج المؤلف روايته من وحي الخيال وليس أطروحة أخلاقية

دائرة العبث
وفي الروايتين رسم كامو عالما فاقد الأهمية، تصوغه أحداث عرضية ويكتنفه العبث، ووصف الأديب الفرنسي كتبه تلك بأنها تندرج ضمن "دائرة العبث". وفي تلك الأثناء كان مستغرقا في كتابة مسودة رواية تنتمي إلى ما سماها "دائرة التمرد".

وبسبب داء السل الذي ألم به، ترك كامو الجزائر الأرض التي نشأ وترعرع فيها ليستقر به المقام في مزرعة بالقرب من قرية لو تشامبون (سور) لينون في جنوب شرقي فرنسا. كانت الساعات هناك في ذلك الوقت مضبوطة على التوقيت الألماني. وما إن حل في وطنه حتى بدأ أديبنا يعيد النظر في توجهاته الأولى إزاء الواجب الأخلاقي.

وكان صدور روايته الطاعون وقراره الانضمام إلى المقاومة نابعين من هذا الإدراك، ففي عام 1943 التحق كامو بالعمل محررا بصحيفة كومبات التي كانت توزع سرا، حيث شرع في وضع مسودة روايته الثانية.

حقيقة الطاعون
ويسرد الراوي الأفعال التي كان يقوم بها حفنة من الرجال عندما اجتاح وباء الطاعون مدينة وهران الجزائرية، لم يكن ذلك الراوي سوى الطبيب برنار ريو، وجان تارو الغريب الذي استغرق في تأملاته الأخلاقية، وكلاهما قادا فرق الإصحاح البيئي الطوعية التي كانت تنقل الجثث وتعزل المرضى مما ساعد في حماية الأصحاء من السكان.

بيد أن فداحة الوباء تضاءلت أمامها كل تلك الجهود، فرغم محاولات تلك الفرق، استجمع وباء الطاعون قواه وبدأ يصرع الرجال والنساء والأطفال دون تمييز، ولم يكن لجهود أبطال الرواية أي تأثير يذكر، ومع ذلك ظل الرجال مفعمين بالعزيمة وسلامة القصد، وهما غايتان سعى كامو لهما لكنه لم يعثر عليهما في أعماله السابقة.

فهل بالإمكان العثور على مغزى وقواعد أخلاقية معا -شيء يشبه الأخلاق المعيارية- بهذه الرواية؟ إن أي محاولة من هذا القبيل لهي أمر معقد، ذلك أن كامو كتب عملا من وحي الخيال قبل كل شيء وليس أطروحة أخلاقية.

الطاعون كمجاز
تساءل النقاد الأولون عن سبب استخدامه الطاعون كمجاز أو رمز لوصف تجربته في العيش زمن الاحتلال، وزعموا أن الرواية أحالت إلى هذا الوصف الغزو َالألماني المدفوع بأيديولوجية نازية تتضمن الإبادة الجماعية؛ فالطاعون قد يكون مجازا يحيل على شر محدق في العالم مثل الحروب والمرض والبؤس، أو الجيش الألماني الذي غزا أوروبا بسرعة تشبه تفشي الوباء، وقد يرمز إعلان الحجر الصحي على مدينة وهران لعزلة الكون ووحدته.

وسبق للفيلسوف الفرنسي رولان بارت أن أعرب عن قلقه من أن المجاز أو الاستعارة يجعل من الحدث التاريخي مجرد حادث عرضي. 

الديمقراطية
تعالج رواية كامو بعض استجابات الأنظمة الديمقراطية التي ترزح تحت الأزمات للمصائب في عالمنا اليوم.

ولعل أبلغ دليل هو إلحاح تارو على استخدام لغة واضحة وبسيطة، فهو يحكي لريو حادثة كان لها بالغ الأثر في حياته عندما كان يصغي لوالده -الذي يعمل مدعيا عاما- وهو يترافع بإحدى القضايا. ولاحظ تارو وهو يتفحص ملامح المتهم ربطة عنقه المميزة، وتعابير وجهه التي تشع حكمة وذكاء.

وفي مرافعته، طالب والد تارو بإنزال عقوبة الإعدام على المتهم مستخدما عبارات طويلة وفارغة ليحيله إلى مجرد خيال. وخلص تارو من هذه التجربة إلى أن الإنسان الصالح هو من تقل غفلاته وهفواته، ليس في إنصاته للآخرين بل في استخدام الألفاظ كذلك.

وفي الرواية التي نحن بصددها، يلاحظ ريو نهاية المطاف أن الطاعون أثبت أنه داء "يقض مضاجع الجميع". إن مكافحة الطاعون لم يعد ذلك القرار المثير الأعجاب، وليس أقل منطقية من العملية الحسابية التي تثبت أن اثنين زائد اثنين تساوي أربعة، ولن يحظى هذا الجهد بالإشادة إلا إذا أقر من يتولون زمام السلطة أن ناتج العملية الحسابية هو أربعة بالفعل.

وحتى في مثل تلك الحالات، يشدد ريو على أن اللباقة -وليس العمل البطولي- هي الدافع الذي يُحرك الناس على مقاومة الطاعون. ويعلق قائلا "في حالتي، فإن اللباقة تقتضي قيامي بعملي".

ويعترف ريو أن هذه الفكرة القائلة إن اللباقة المثلى تكمن في أن يظل المرء وفياً لواجباته "قد تجعل بعض الناس مبتسمين". وقد كان كامو مدركا لتلك الحقيقة.

ففي خضم حرب الجزائر من أجل الاستقلال عن فرنسا، كتب كامو بالصحيفة التي يعمل بها "إن القيم التي يتعين عليّ الدفاع عنها عادية، وهذا يتطلب موهبة بسيطة أشك في أنني أمتلكها".

وعندما لم تبلغ جهوده المضنية في الدفاع عن تلك القيم غاياتها، التزم كامو الصمت ولم يتحدث قط علنا عن الحرب. ومثل ريو، واصل كامو خفية أداء عمله، وسعى مرارا لثني السلطات الفرنسية عن إعدام المعتقلين الجزائريين.

وكما ريو في صراعه مع الموت، تعرض كامو للهزيمة حتى أن كل المعتقلين الجزائريين الذين سعى لإنقاذهم كانت المقصلة مصيرهم. 

المصدر : الجزيرة