أصدر 15 كتابا وواجه الموت على الجبال.. العراقي باسم فرات من هيروشيما إلى منابع النيل الأزرق

Omran Abdullah - باسم فرات في البجراوية- آثار (أهرامات) سودانية، 220 كلم، شمال الخرطوم، الجزيرة - زار 39 بلدًا وأصدر 15 كتابًا وواجه الموت على الجبال.. العراقي باسم فرات من هيروشيما إلى منابع النيل الأزرق

صدام أبو مازن-صنعاء

باسم فرات شاعر ورحالة ومصور فوتوغرافي، غادر العراق مبكرا جهة الأردن في أوائل التسعينيات بعد أن أنهى الخدمة العسكرية، وقاده شغف دفين للسفر بين العوالم ظل محبوسا بين جوانحه، لم يجرؤ أن يبوح به حتى لأقرب الأقربين له، بسبب ظروف مادية واجتماعية قاسية.

بعد أربع سنوات قضاها في الأردن منح حق اللجوء إلى نيوزيلندا، وهنا بدأت مغامرات باسم فرات الذي زار حتى الآن (39) بلدا، مترحلا بين الأصقاع، متسلقا الجبال، موغلا في الغابات، متواصلا مع الثقافات والحضارات واللغات والإثنيات ومتأملا إلى أين تمضي حكاية هذا الإنسان في عمارة الأمكنة وتدميرها في الآن نفسه.

شغف السفر والكتابة لا يزال حافزا له لاكتشاف بلدانا بكرا جديدة، ويبدو أن وجهته الحالية أفريقية، لينهي ما كان بدأه مؤخرا من مغامرة في بلاد أعالي النيل كانت حصيلتها كتابا خامسا له في "أدب الرحلات" صدر حديثا بعنوان "لؤلؤة واحدة وألف تل.. رحلات بلاد أعالي النيل" 2019، سبقته أربعة كتب هي على التوالي "مسافر مقيم.. عامان في أعماق الإكوادور"، و"الحلم البوليفاري.. رحلة كولومبيا الكبرى"،  و"لا عشبة عند ماهوتا.. من منائر بابل إلى جنوب الجنوب" 2017، و"طواف بوذا.. رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا" 2019. 

ولا يتوقف باسم فرات في تدوين رحلاته ومغامراته حول العالم في كتب، لكنه بالمقابل يكتب هوسه بالمكان شعرا، وقبل أيام فقط صدر له عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ديوانه الشعري التاسع بعنوان "مبكرا في صباح بعيد".

شغف منذ الطفولة
متذكرا المغامرة الأولى التي ترك فيها العراق وصولا إلى الأردن في 23 أبريل/نيسان 1993 يقول باسم فرات للجزيرة نت "كان الترحال شغفي منذ طفولتي، ولكن ظروفي المادية والاجتماعية منعتني من التصريح به لأقرب المقربين لي".

هجرة الأردن -التي استمرت أربع سنوات و26 يوما- توجت بحصول باسم فرات على اللجوء إلى نيوزيلندا، دون أن يدري أن قدميه تنزلقان به في أنحاء مترامية على هذه الأرض، وأن بلدانا تتناثر على خريطة شغفه بالمكان تنتظره لاكتشاف الدهشة ولمواجهة غير محسوبة مع الموت دافعها الوحيد هوس الترحال وعشق المكان الذي في البعيد.

يقول فرات عن محطته الثانية (نيوزيلندا) "أقمت بها لثماني سنوات وعشرة أسابيع، وأستطيع القول إنني شاهدت جميع مدنها وبلداتها وقصباتها ومناطقها الجغرافية".

‪وصل فرات نيوزيلندا لاجئا في مايو/أيار 1997‬ (الجزيرة)
‪وصل فرات نيوزيلندا لاجئا في مايو/أيار 1997‬ (الجزيرة)

إلى هيروشيما
بعد الإقامة في نيوزيلندا شاءت الظروف أن ينتقل باسم فرات إلى هيروشيما في اليابان في يوليو/تموز 2005، وتزامن ذلك مع ترتيبات لإحياء الذكرى الستين لإلقاء قنبلة هيروشيما "هنا كانت بداية حقيقية للسفر والتنقل والبحث المعرفي والاكتشاف الثقافي" يقول باسم.

زار الشاعر والرحالة باسم فرات من البلدان العربية سوريا، الأردن، الإمارات، قطر، البحرين، مصر، السودان، لبنان، تونس، ومن البلدان الآسيوية زي الجديدة (نيوزيلندا)، اليابان، أستراليا، تايوان، كوريا الجنوبية، لاوس، ميانمار، كمبوديا، فيتنام، تايلند، الصين وجنوب الصين بالتحديد، سنغافورة، ماليزيا، الهند.

وفي أميركا الجنوبية: الإكوادور، البيرو، كولومبيا، أما بلدان أفريقيا فزار إثيوبيا، كينيا، موزمبيق، رواندا، أوغندا، وفي القارة الأوروبية زار فرات هولندا، إسبانيا، إنجلترا، أسكتلندا، كرواتيا، الجبل الأسود، البوسنة والهرسك، تركيا.

وثمة مدن تنتظر، وثمة مطارات وقطارات وأرصفة ومعابد وأسواق وغابات وحكايات تغازل شاعرا مهووسا بالأمكنة وغموضها، ولعل باسم فرات في هذه الأثناء يكتب قصيدته على حافة نهر، أو توثق عدسته مشهدا من حياة البرية أو رقصة طائر حزين على غصن شجرة تهزها الريح.

بلدان الهامش
يهتم باسم فرات باكتشاف جغرافيات مهملة وبلدانا تعيش في الهامش، فهو حتى الآن لم يزر أميركا أو عواصم المركز الأوروبي ومدن المركز المضيئة الصاخبة باستثناءات قليلة.

وفي هذا الصدد، يقول باسم فرات إن لدينا في الكتابة مصطلحا اسمه "الحرق"، فنقول هذا الكاتب حرق سيرته الذاتية لأنه ذكر تفاصيلها كاملة في حواراته وكتاباته، بحيث لو كتبها في كتاب فلن يجد القارئ دهشة معرفية، والسبب أن كل ما يقرؤه في كتاب السيرة الذاتية قرأه سابقا في كتابات الكاتب نفسه.

بعيدا عن برلين وباريس
ومستدركا، يتابع فرات بقوله إنه كذلك في الأمكنة، فمدن مثل باريس ولندن وبرلين ونيويورك وسواها من المدن الغربية استهلكت وأحرقت بسبب كثرة الشعراء والأدباء الذين زاروها وسكنوها وكتبوا عنها، فضلا عن ترددها الدائم في وسائل الإعلام العربية.

ومن هنا يفضل الأمكنة البكر التي نادرا ما سكنها أو زارها أدباء، مثل نيوزيلندا، وهيروشيما "بوصفي سكنتها لثلاثة أعوام" وجمهورية لاوس (بلد غير ساحلي في قلب شبه الجزيرة الهند الصينية وصله فرات يوم 31 يوليو/تموز 2008) ومناطق نائية من تايلند وفيتنام وكمبوديا وميانمار، بل حتى الصين، لكنه لم يزر بكين والمدن الكبرى، بل زار أطرافها النائية المجاورة للاوس.

هذه الأمكنة فيها سحر الغموض، والاكتشاف البكر، فضلا عن ثراء ثقافي، ومنحتني شعريا الكثير مثلما حفزتني لتأليف خمسة كتب في أدب الرحلات والقادم أكبر مثلما آمل، كما يقول.

الشعر والكتابة
بدأ باسم فرات بكتابة الشعر وهو في الابتدائية، ويقول عن البدايات: كنت قارئا نهما وما زلت، وكنت أحب معرفة التكوين الثقافي لكل شاعر وأديب ومفكر أعجب بكتاباته، فأذهلني طرفة بن العبد بسلوكه المختلف، وكذلك الصعاليك، وشغف المتنبي بالبحث عن الذات كما أرى، وكنت أحلم أن أزور الأماكن التي ترعرع فيها الشعراء والفلاسفة والكتاب أو زاروها، لكن صراع التفرد في داخلي انتصر، إذ لا أحب التقليد في الكتابة والقراءة والسلوك.

رحلات معرفية وجمالية
39 بلدا زارها الرحالة باسم فرات وكتب عنها، إنها تجربة مثيرة حتما، وهنا يشير باسم إلى أن رحلاته هناك معرفية جمالية بالمقام الأول، وأثرته ليس بمعلومات عن هذه البلدان وشعوبها وثقافاتها إنما عن العالم العربي ومفاهيم مثل الفرق بين القومية والإثنية والكتابة والتدوين، حيث كتب موضحا الفرق "فكل عرق وإثنية وقومية لها لغتها، ولكن لا يمكن لإثنية أن ترتقي لمرحلة القومية إذا لم تجمعها لغة معيارية واحدة تحوي على عدد كبير من الكتب والموسوعات التي مر على تدوينها مئات السنين أو كحد أدنى أكثر من 200 سنة".

ويتابع فرات "لأن الذاكرة الجمعية لكل مجموعة لغوية لا تستقر وتنشط إلا بعد مرور سبعة أجيال إن لم يكن عشرة أجيال، وكل جيل هو 30 سنة".

ويرى أن الأقوام التي ظهرت على مسرح التاريخ قديما مثل السومريين والأكديين والآشوريين والكشيين والحثيين والميديين ورثتهم الشرعيون كل شعوب المنطقة، حيث إن "من يحاول أن ينسب نفسه وقومه فقط لتلك الأقوام العتيقة أو بعضها أو من ينسب مدنا تاريخية له وحده ولا يملك تراثا تدوينيا فيها يمتد لعدة قرون سبقت الحرب العالمية الأولى فهو عنصري إلغائي إقصائي استحواذي، هذا مثال على ما أضافته لي هذه الرحلات" حسب تعبيره.

لا كنّاس في هيروشيما
لم تكن مغامرات باسم فرات ورحلاته من بلد لبلد ومن مدينة لأخرى مفروشة بالورود، فهناك أماكن كانت رحلة اكتشافها مضنية، وأخرى اتسمت بيوميات جميلة.

و يقول فرات "إقامتي في هيروشيما كانت الأجمل، لأني لأول مرة أختار بلدا، ولا أكون فيه لاجئا أو مطاردا بوصفي متجاوزا للإقامة ولا يحق لي العمل".

ويضيف عن رحلة هيروشيما: عشت متفرغا للشعر والقراءة، ولكن أكثر ما أحببته في هيروشيما خروج الناس في الصباح الباكر لتنظيف شوارع وأرصفة وأزقة وحدائق مناطق سكناهم أي حاراتهم، لم أرَ كناسا فيها، وهذا عندي قمة الرقي والجمال والتحضر.

ليلة الموت في جبال الإكوادور
اشتبك باسم فرات غير مرة مع الموت، ولا ينسى باسم جبال غواغوا بيتشينتشا التي عاد منها للحياة بعد أن ظن أنه هالك لا محالة على ارتفاع 4700 متر فوق مستوى سطح البحر، في ذروة الليل ولا أحد بالجوار، حيث انعدم الأكسجين واشتد الصقيع، معتبرا تلك الليلة العصيبة لرحالة مغامر في جبال ذات تضاريس قاسية أصعب ليلة في حياته.

يشار إلى أن جبال غواغوا بيتشينتشا تقع في كيتو- الإكوادور وتطل على العاصمة كيتو، وقد زار فرات الإكوادور عامي 2011 و2014.

ويتذكر باسم "كنت جالسا في شرفة بيتي هناك في كيتو وهذه الجبال أمامي أتأملها كل يوم فقررت أن أتسلقها، كبرت الفكرة في داخلي وكانت رحلة عجائبية وصلت فيها للموت".

قصة لكل بلد
كيف يخطط الرحالة باسم فرات لزيارة بلد ما؟
يجيب عن هذا السؤال بالقول إن لكل بلد تجربته وقصته، ويوضح "أحيانا العمل يأخذني إليه أو مؤتمر فأستغلها فرصها فأطيل إقامتي ولكن هنا أنتقل من فندق 4 أو 5 نجوم إلى نُزل بسيط جدا، وأدخل عادة للبلدان بلا قراءة ومعلومات، كي لا أجعل قراءاتي تسيرني، وإنما أنا أكتشف المكان بنفسي، ولكني أحرص وأنا هناك على اقتناء كتب ومنشورات تخص البلد، وحين عودتي أقرأ وأبحث في تاريخ البلد الثقافي والاجتماعي وجغرافيته".

تدوين مؤقت بفيسبوك
أما مشاهداته على هامش يوميات السفر ومغامرات اكتشاف أماكن جديدة فيكتبها مبدئيا في منشورات تفاعلية في صفحته على فيسبوك، لكن كل منشور من كلمات محدودة سيتسع لاحقا ليصبح حيزا كبيرا من كتاب.

يقول باسم: ما أنشره في متصفحي في كتاب الوجه (فيسبوك) هو رؤوس أقلام لأني حين عودتي أقوم بتحريرها وإضافات قد تصل إلى عشرات المرات أكبر بعدد كلماتها، في أثناء التجوال في الغابات والجبال والمتاحف وغير ذلك أدون ملاحظات، وفي كثير من الأحيان إذا حانت الفرصة أنشر أو أنتظر حتى عودتي للنُزل وهناك أدون وأنشر بعضها، وبعض الملاحظات أحتفظ بها إلى حين عودتي حيث تكون مادة خصبة لتدوين الكتاب، كما إنني بوصفي مصورا فوتوغرافيا محترفا تساعدني الصور كثيرا في إعادة إنتاج مشاهداتي إن صح التعبير أو في التوغل في التفاصيل.

ويرى باسم فرات أن "أدب الرحلة" عربيا بدأ ينتعش خلال الأعوام الأخيرة، وعن علاقته بالمكان (تجربة الكتابة شعرا- تجوالا/ ثنائية الشعر والسفر) يؤكد أن كثرة أسفاره ألقت بظلالها على قصائده، وقد أصبح المكان يشكل حيزا واضحا في تجربته الشعرية حتى أن رسالة ماجستير تناولت "المكان في شعر باسم فرات" في جامعة بابل بالعراق.

باتجاه منابع النيل الأزرق
وعن وجهته المقبلة (البلد رقم 40 الذي ينتظره)، قال فرات "على الأرجح دول أفريقية، لأني أحلم بالوصول إلى منابع النيل الأزرق بعد أن وصلت إلى منابع النيل الأبيض، وإلى ملتقى النيلين حيث أقيم منذ أعوام، ومصب نهر النيل في دمياط ورشيد، كما أحلم بالتوغل في أفريقيا أكثر لأنها كنز ومتحف مذهل ومدهش".

سيرة
ترجمت أعمال باسم فرات إلى لغات عدة، منها الإنجليزية التي صدرت له بها ثلاث مجموعات شعرية، والإسبانية التي صدرت له بها مجموعة شعرية واحدة، فضلا عن لغات أخرى، مثل الألمانية والرومانية والفارسية والصينية واليابانية.

وأصدر فرات ديوانه الشعري الأول "أشد الهديل" عام 1999 عن دار ألواح في مدريد، والثاني "خريف المآذن" 2002 عن دار أزمنة في عمّان، والثالث "أنا ثانية" 2006 عن منشورات بابل، زيورخ- بغداد، والرابع "بلوغ النهر" 2012 عن الحضارة للنشر في القاهرة، ثم "أشهق بأسلافي وأبتسم" 2014 عن ذات الدار، و"أهـز النسيان" 2017 عن صهيل للنشر بالقاهرة، وعن نفس الدار صدر له "محبرة الرعاة" 2017، وكذلك "فأس تطعن الصباح".

كما أصدر ثلاثة كتب مختارات شعرية، وكتاب سيرة "دموع الكتابة.. مقالات في السيرة والتجربة" 2013.

المصدر : الجزيرة