الحرب لم تقتل القراءة بإدلب.. الثقافة والحركة الفكرية بمدينة الثورة الأخيرة

من فعالية قامت بها منظمة شفق ومركز الكرامة المجتمعي لتكريم الكاتب فايز قوصرة بمناسبة صدور الجزء الأول من كتابه "إدلب البلدة المنسية"، أثر الحرب على الحركة الفكرية والمكتبات في إدلب / أسلوب حياة
منظمة شفق ومركز الكرامة المجتمعي تكرم الكاتب فايز قوصرة (الجزيرة)

محمد الأسمر-إدلب

يتجول خالد بين أروقة المكتبة ناقلا عينيه بين الرفوف باحثا عن الرواية التي ينتظرها منذ مدة والتي وعده صاحب المكتبة بتأمينها.

هو طالب جامعي يرتاد عدة مكتبات في مدينة إدلب شمال سوريا بهدف الحصول على الكتب التي تغني ذائقته الفكرية والأدبية، بالإضافة للكتب التي قد تساعده في مجال دراسته بقسم اللغة العربية في إدلب التي عانت كغيرها من المدن السورية من حصار ثقافي لعقود من الزمن.

وباتت رغبات القراء على اختلاف مشاربهم الفكرية متوفرة في إدلب بعد غياب مقص الرقيب الذي مارسه نظام الأسد لسنوات عديدة على عدة أصناف من الكتب لاسيما تلك التي تحمل طابعا إسلاميا.

وقد لعبت الحرب التي عاشتها البلاد رغم قسوتها دورا مهما في تنوع الحركة الفكرية، وبروز أنواع أدبية على حساب أخرى.

آثار الحرب
يقول مدرس العربية محمود النمر للجزيرة نت إن الحرب الطويلة التي مرت على إدلب تركت آثارا سلبية وإيجابية لا يمكن تجاهلها، ويضيف "تراجع عدد القراء بشكل واضح، نتيجة انشغال الناس بالحرب وأخبارها من جهة، والضغوط النفسية التي تعصف بأهالي المنطقة من جهة أخرى، ناهيك عن الحالة الاجتماعية المتدنية التي آلت إليها الأوضاع في الشمال السوري وانشغال الناس بلقمة العيش".

‪رغبات القراء على اختلاف مشاربهم الفكرية باتت متوفرة‬ (الجزيرة)
‪رغبات القراء على اختلاف مشاربهم الفكرية باتت متوفرة‬ (الجزيرة)

أما من الناحية الإيجابية -يتابع النمر- فقد غابت كتب تمجيد القائد التي كنت تراها متربعة على رفوف المكتبات ولم تعد موجودة اليوم، كما غابت عن الساحة الفكرية الكثير من الوجوه التي كان لها حضور لافت خلال السنوات التي سبقت الثورة، من خلال محاولاتهم المستمرة في تلميع صورة النظام، والذي ساهم أساساً في ظهورها والترويج لها.

في المقابل برزت مكانها الكثير من الأسماء التي كانت مغيبة عن المشهد قسرا أو خوفا، وازداد تناول الكتب ذات الطابع الديني بشكل كبير -بحسب النمر- وساهمت حالة الحرمان التي فرضها نظام الأسد على هذا النوع من المؤلفات بانتشاره بشكل أكبر خلال سنوات الحرب مثل مؤلفات ابن تيمية وسيد قطب وعلي الطنطاوي.

ويفتخر النمر بمخزونه من الكتب والمجلدات والتي عمل على جمعها خلال أكثر من ثلاثين عاماً، وخاصة تلك المؤلفات التي صرف الوقت والمال حتى تمكن من الحصول عليها أثناء تجواله وسفره بين البلدان العربية، مثل كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب والذي أدخله سرا من بيروت خوفا من مصادرته في ذلك الوقت.

ويملك هذا المدرس أكثر من خمسمئة كتاب ومجلد في مكتبته، ويقرأ قرابة العشر كتب كل شهر، حيث يسعى بشكل دؤوب لنشر الثقافة والأدب في المجتمع من خلال تزويد طلابه بأهم الكتب والروايات التي يراها مناسبة لأعمارهم.

مكتبة ودور نشر
لم يعد الحصول على أي كتاب أمرا صعبا أو خطراً في الشمال السوري، يكفيك أن تملك النقود لشرائه بنسخته الأصلية أو تتوجه لإحدى المكاتب العاملة بالطباعة لاقتناء نسخة مطبوعة في إدلب، حيث لمس الشاب أيمن النبعة حاجة المدينة لمثل هذه المشاريع، فأسس منذ ثلاث سنوات مكتبة وداراً للنشر.

تنقسم الكتب المعروضة في مكتبة النبعة إلى قسمين، الأول الكتب التي يتم إدخالها من مناطق النظام أو من تركيا وتكون أكثر كلفة بالنسبة للقارئ بسبب مرورها على المعابر ودفع الإتاوات من جهة وبسبب انخفاض سعر صرف الليرة السورية من طرف آخر، أما القسم الآخر فهو القسم المطبوع في دار الطباعة التي أسسها النبعة.

ويعمل الشاب على طباعة أي كتاب يطلب منه ويمنحه غلافا مناسباً، بالإضافة لطباعة الكتب التي يرى أنها تطلب بكثرة أو تلك التي يذيع صيتها خلال فترة من الفترات.

يقول النبعة للجزيرة نت "أعلم أن طباعتي للكتب أمر مخالف للقانون العام لدور النشر، لكننا مجبرون على هذا التصرف، نتيجة حاجة القارئ للكتب وعجزه عن شرائها من جهة، أو صعوبة تأمينها وإدخالها إلى البلدة من جهة أخرى، لاسيما تلك التي يحتاجها الطلاب الذين يجرون أبحاثا ضمن دراساتهم".

ويرى أن اهتمامات القراء تختلف وتتنوع بحسب أعمارهم حيث يميل غالبية القراء الشباب للروايات العربية والمترجمة، في حين يميل الأكبر سناً إلى الكتب ذات الطابع الإسلامي أو الفلسفي.

ويردف النبعة "وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا سلبيا في تناقص عدد القراء ومرتادي المكتبات، بسبب عزوفهم عن القراءة ومتابعة ما تبثه تلك الوسائل من جهة، وبسبب توجه الكثير منهم للقراءة الإلكترونية من جهة أخرى، بسبب سهولة الوصول إليها".

القراءة الحقيقية
ويرفض النمر فكرة القراءة الإلكترونية، ويعتبر أن اللذة الحقيقية في القراءة تكمن في رائحة الورق المجبولة بالحبر بالإضافة للإحساس الذي يتلقاه القارئ أثناء تقليب الصفحات والانتقال من فصل لآخر ليبقى "خير جليس في الأنام كتاب".

ولم تختلف أسعار الكتب بشكل كبير عن الأيام التي سبقت الثورة، فالأسعار دائما مرتبطة بسعر الدولار لكن ضعف القيمة الشرائية لليرة هو الذي أحدث الفجوة الكبيرة بين الأسعار القديمة والأسعار التي نراها اليوم.

من ناحية أخرى، أثرت الحرب بشكل سلبي على النتاج الفكري والأدبي للكتاب، وبات لزاما على الأديب تأمين موارد خاصة بهدف طباعة أحد دواوينه أو كتبه.

في إدلب تمكن الكاتب والمؤرخ فايز قوصرة مؤخرا من إصدار الجزء الأول من كتابه "إدلب البلدة المنسية" لكنه لا ينكر حجم المعاناة التي عاشها حتى تمكن من طباعة هذا الكتاب في ظل غياب المؤسسات الثقافية والمنظمات المهتمة بالشأن الثقافي والتي لخصها في عبارة "أنا أستدين لأطبع".

يقول القوصرة للجزيرة نت إن بعض الكتاب يعتمدون على مؤسسات ثقافية خارجية في طباعة مؤلفاتهم، ويضيف "لكني لم أتمكن من طباعة كتابي على نفقة إحدى المؤسسات رغم أهمية الكتاب مما دفعني للاستدانة وطباعة الكتاب على نفقتي الخاصة حيث تكلفت النسخة الواحدة ثلاثة آلاف ليرة ".

ويختم بقوله إنه تمكن من بيع عدد من كتبه في تركيا وألمانيا حيث تطلب الكتب في الخارج أكثر من الداخل، ويضيف "المجتمع يعيش حالة حرب، والثقافة آخر الاهتمامات، مما أثر بشكل كبير على الحركة الفكرية في الشمال السوري".

المصدر : الجزيرة