سفر أعمال المنسيين.. استعادة رومانسية لذاكرة الثورة الجزائرية

رواية سفر أعمال المنسيين

نزار الفراوي-الرباط

ينسج الكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي روايته "سفر أعمال المنسيين" في صلب سؤال الذاكرة الوطنية الذي يظل جمرة مشتعلة في راهن الدولة والمجتمع، ببلاد المليون شهيد.

الرواية -التي توجت بجائزة كتارا للرواية العربية في فئة "الروايات غير المنشورة" وصدرت حديثا ضمن منشوراتها- تكتب زمنا وطنيا سياسيا مفتوحا بين مرحلة حرب التحرير بتضحياتها وأحلامها ووعودها، ومرحلة الدولة المستقلة بخيباتها وأوهامها ومنسييها.

أما المنسيون الذين تروم الرواية رد الاعتبار لسجل ملاحمهم، فيختار عبد الوهاب عيساوي -تجسيدا لهم- أيقونة مغرقة في الألم والصمت الأبلغ من كل صوت. إنها جثمان "عباس" ذلك الشهيد الذي سقط على ساحة الشرف، وظل حتى اليوم عالقا في جرف عميق ينتظر تحركا رسميا لانتشاله، وبالتالي نزع شوكة تعرقل مسير البلاد المدعوة إلى تحرير مستقبلها عبر الوفاء لذاكرتها.

ملاحم حية من زمن التحرير
هي رواية تتوغل بمشهدية ملحمية في يوميات الكفاح المسلح من أجل الحرية، تكتب محنها وأمجادها، تفكك حلقاتها وتستعيد سير رجالاتها، غير أنها تظل مع ذلك رواية الراهن واللحظة بامتياز، ذلك الراهن الذي تحضر أعطابه مضمرة في خطيئة النسيان التي اقترفت في حق فرسان الحرية الذين كانوا حطب استقلال لم يحقق وعوده.

‪قبل جائزة كتارا، فاز الكاتب عبد الوهاب عيساوي بعدة جوائز في الجزائر وخارجها‬ (الجزيرة)
‪قبل جائزة كتارا، فاز الكاتب عبد الوهاب عيساوي بعدة جوائز في الجزائر وخارجها‬ (الجزيرة)

أما الكاتب فيرى في تصريحات للجزيرة نت أن الرواية لا تحمل مساءلة للحاضر بقدر ما كانت احتفائية بتلك المرحلة، لأنها كتبت تحت نظرة رومانسية لذلك الزمن.

يستدرك بالقول "ربما لو عاد بي الزمن لفترة كتابتها لسارت في نسق مختلف، ولكن في كل الأحوال هناك سؤال مهم يتعلق باختلاف طريقة تفكير الفرد بين الزمنين. في تلك الفترة كان هناك موضوع واحد يتعلّق بالحرية، وبالتالي هناك عدو واحد، والآن نحن أعداء بعض، بصفات كثيرة ولعل أولاها الشرعية الثورية".

وعن ذلك البطل المأساوي المستتر، الذي يجسده الشهيد "عباس" بجثمانه المهجور دون قبر يليق به، يقول عيساوي "ربما يكون جثمان الشهيد هو القيم الثورية الحقيقية التي تخلى عنها من قدّم الاستقلال للجزائر، إذ وبعد أكثر من خمسين سنة ما يزالون يتكلمون باسمه دون أن يقدموا مشروعا ناجحا على المستوى الإنساني أو حتى الاقتصادي للجيلين اللذين جاءا بعد الاستقلال".

تبدأ الرواية -التي تقع في 335 صفحة، بغلاف للفنانة فاطمة النعيمي- في الحاضر وتنتهي فيه؛ تبدأ حينما يتسلم "عيسى فراج"، ابن مدينة الجلفة، رسالة من رفيق السلاح الذي أصبح وزيرا، "النوري"، تتضمن قرارا بالعزم على تنفيذ عملية انتشال جثمان رفيقهم في حرب التحرير "عباس"، وتنتهي بخاتمة مفعمة بالمشاعر المتضاربة لعيسى واقفا على الجرف أثناء بدء عملية الانتشال.

يكاد عبد الوهاب عيساوي يلبس قبعة سينمائي، وهو يوظف تقنيات "الفلاش باك" لصنع زمنين لا يتعاقبان بل يتداخلان ويتعايشان. تصوير المعارك والتحركات المسلحة في الأعالي والغابات يعكس ثقافة بصرية عميقة، بحيث تبدو المواجهات موثقة ببعد تسجيلي حي، وبتقطيع مشهدي أقرب إلى عملية إخراجية في تصور الفضاء الطبيعي ورسم حركة الشخصيات وترتيب مراحل التأزيم والانفراج بإيقاع مدروس.

 

‪جذوة الثورة لا تزال حاضرة في وجدان الجزائريين‬ (الجزيرة)
‪جذوة الثورة لا تزال حاضرة في وجدان الجزائريين‬ (الجزيرة)

تخييل وتوثيق
يقدم الكاتب عناصر إجابة عن هذا العمق البصري في الرواية. "ببساطة لأنني استعنت بأفلام وثائقية ومذكرات عن مقاومين عاشوا يوميات هذه المرحلة ودونوها. في الفترة الأخيرة بدأت تطبع هذه المذكرات لذا اهتممت بها أكثر من كتب التاريخ التي تناولت المرحلة".

يصب عيساوي تجربته في نهر روائي ممتد، منبعه ذاكرة الثورة الجزائرية، التي قدمت لأجيال الأدب الجزائري عبر ما يناهز ستة عقود مادة خصبة لمساءلة الحدث التاريخي من جهة، تمجيدا أحيانا ونقدا أحيانا أخرى، أو لمساءلة الراهن من بوابة ذلك الماضي الطافح بالأحلام والوعود التي طال انتظارها، وفاء للدماء التي سالت في حب الوطن.

وإن كان من الطبيعي أن تحضر هذه المرحلة في نصوص الرواد من قبيل كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون ورشيد بوجدرة، والطاهر وطار ومولود معمري وواسيني الأعرج، فإن الموضوع ظل يفرض نفسه في النصوص الجديدة لشباب ولدوا بعد الاستقلال مثل عيساوي (34 عاما).

استمرارية لا تحجب تعددية المقاربات وزوايا التناول، لكنها تعكس إجمالا ثقل العلاقة مع الذاكرة في البنية العميقة للدولة والمجتمع الجزائريين. لقد أفرزت العشرية السوداء غمامة داكنة استبدت بوعي النخب المثقفة والمبدعة، لكنها لم تصنع ذاكرة بديلة، بل لعلها حملتهم على الحفر أكثر في صفحات مسيرة التحرير الوطنية، لمحاولة فهم المآلات المأساوية التي أفضت إليها.

ويورد فايد محمد في دراسة بعنوان "الرّواية والذاكرة الوطنية.. حوار الأدب والتاريخ " عن الناقد مخلوف عامر قوله إن الروائي الجزائري وجد نفسه "بين فكّي كماشة: صورة الماضي القريب، وصدمات الواقع المتحوّل، فكان يلتفت إلى الماضي ليستحضر حرب التحرير يُسائلها طورا، ويتلذّذ بذكرِها أطوارا".

هذه العودة تطرح بالنسبة للروائي سؤال الحدود بين المتخيل والتاريخي، وهو من أصعب الأسئلة التي تواجهها الرواية التاريخية، حسب عيساوي الذي يؤكد أن "الرؤية العامة لهذه الرواية تكاد تكون حقيقية في أغلب أحداثها، أو في إطار إمكانية الحدوث، لأن الرواية التاريخية هي في الأخير إمكان منجز على حد تعبير ميلان كونديرا".

جدير بالذكر أن تتويج كتارا ليس الأول في مسار الكاتب الشاب، الذي صدرت له مؤخرا رواية "الديوان الإسبرطي". فقد حاز الجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية (2012) عن روايته "سينما جاكوب"، وفاز بجائزة آسيا جبار للرواية، الأعلى في الجزائر، عن "سييرا دي مويرتي" (2015)، كما حصلت روايته "الدوائر والأبواب" على جائزة سعاد الصباح (2017).

المصدر : الجزيرة