كمال العيادي وشوقي بدري والحكايات

أمير تاج السر ..ما كنت أنادي به دائما هو أن تكتب السيرة الذاتية -أو بعضها- لأي مبدع في أي مجال، كما هي، أو لا تكتب أبدا

أمير تاج السر*

وأنا أقرأ الكتاب السِّيَري "اعترافات الفتى القيرواني"، للكاتب التونسي المقيم في القاهرة كمال العيادي، أحسست بمتعة أن تقرأ سيرة أصلية، سيرة من الماضي، بنفس ملامحها التي ولدت بها، ونفس تفاصيلها، سواء أكانت دميمة أو في غاية الملاحة، محتشمة أو عارية، يتقبلها المتلقي أو لا يتقبلها.

ما فعله العيادي هو بالضبط ما كنت أنادي به دائما، أي أن تكتب السيرة الذاتية -أو بعضها- لأي مبدع في أي مجال، كما هي أو لا تكتب أبدا، ولطالما نوهت بسيرة الإسرائيلي عاموس عوز المذهلة المسماة "قصة عن الحب والظلام"، وسيرة المغربي محمد شكري، التي لم يخن فيها تاريخه الشخصي أبدا، وكتبه كما هو.

كتب العيادي اعترافاته بطريقة بسيطة، سلسة، وجاذبة للقراءة، ولا أعلم إن كانت الأسماء التي أوردها لشخصيات الحكايات أصلية أيضا أم لا، لكن عموما تكفي الوقائع التي انغمست فيها تلك الشخصيات، لتجعل النصوص بديعة في العري، وقريبة من التذوق، حين يبحث وراء كتابة الكتاب.

تدريب الذاكرة
العيادي القيرواني، كما أعرفه شخصيا، من الذين انتبهوا إلى جرثومة الكتابة في دمهم مبكرا، وبالتالي تمكن من تدريب ذاكرته جيدا على امتصاص الحوادث التي وقعت، وعاصرها، حتى وهو طفل قليل الوعي.

ولأن الكتابة السيرية والروائية في مجملها تفاصيل صغيرة لأحداث كبرى، تستدعى بواسطة ذهن يحملها عبر السنوات، فغالبا ما تأتي هكذا سلسة بلا عناء.

ثمة التقاط لحالات إنسانية فيها الكثير من الضعف الإنساني والقليل من الشر، وحتى اللائي يصفهن العيادي بالعهر والانحراف والدمار الأخلاقي يبدون لي مجرد نساء عاديات، يمكن أن يعشن بطهر في أي مجتمع يمنحنهن ظلا وارفا

استوقفتني في اعترافات القيرواني عدة حكايات، منها ما يمكن ضمه إلى ذلك النوع من الحكايات التي ترتبط بالخرافة، وتترسب في الذهن الجمعي للقرى والأحياء الشعبية من المدن، مثل حكاية البيت الذي قُتلت فيه امرأتان وسبع فتيات صغيرات، بواسطة زوج إحدى المرأتين لأنها تنجب الإناث فقط، وأصبح من المستحيل أن يسكن فيه أحد بعد ذلك، لأن الأرواح الهائمة للقتيلات كانت موجودة، وتتحاوم في البيت طاردة منه كل دخيل.

إنها قصة موجودة في كل المجتمعات، وحتى في المجتمعات الأوروبية، حيث يظل السحر وتسكع الأرواح المرهقة في بيوت الجرائم موضوعا أثيرا للحكي والكتابة. هنا يضيف إليها العيادي بهاره الجميل لتبدو حقيقية فعلا.

وكتب العيادي أيضا عن نساء عبرن بحياة الكاتب وكن جارات في الحي الذي يسكنه، أو معلمات في المدارس، درسنه المواد العلمية، أو حتى عابرات في الطرق أو المؤتمرات التي تواجدن فيها مع الكاتب.

ثمة التقاط لحالات إنسانية فيها الكثير من الضعف الإنساني والقليل من الشر، وحتى اللائي يصفهن بالعهر والانحراف والدمار الأخلاقي يبدون لي مجرد نساء عاديات، يمكن أن يعشن بطهر في أي مجتمع يمنحنهن ظلا وارفا.

إذن كان ثمة إخلاص متقن لعنصر الحكي في اعترافات الفتى القيرواني، ذلك الحكي الذي يستدعي في معظمه حيا من أحياء القيروان في سبعينيات القرن الماضي، وما جاوره، ليصوغه تلك الصياغة المتقنة.

بلا مساحيق
كتاب العيادي ذكرني بكتاب آخر لحكّاء عظيم طالما نوهت به. الحكاء السوداني المخضرم شوقي بدري صاحب كتاب "حكاوي أم درمان"، الذي أعده أحد أعظم الكتب التي صاغت تاريخ مدينة عريقة مثل أم درمان، بلا تكلف ولا مكياج، ولا محاولات تزيين لن تغير شيئا.

شوقي هنا لم يكتف بحي كان يسكنه، ولا مدارس ارتادها فقط، لكنه زحف بملقطه وعدساته المكبرة إلى كل المدينة، بحيث يمكن اعتبار حكاياته مصادر هامة لقراءة جزء من سودان الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي،  قراءته في فقره وغناه، اضطرابه في تظاهرات عنيفة، واستقراره، وأيضا قراءة حياته الاجتماعية الشاملة، تلك التي تحدث في البيوت والشوارع والأندية، والأسواق، وكل مكان يتسع لاختلاط البشر.

شوقي بدري يملك ذاكرة الطين الحقيقية، تلك التي ارتوت واحتفظت بارتوائها كاملا، لتدلق منه قطرات ممتعة بين الحين والآخر، وليتجمع كثير من تلك القطرات في كتاب الحكاوي المعروف

هذا الحكاء -وأعني شوقي بدري- يملك ذاكرة الطين الحقيقية، تلك التي ارتوت واحتفظت بارتوائها كاملا، لتدلق منه قطرات ممتعة بين الحين والآخر، وليتجمع كثير من تلك القطرات في كتاب الحكاوي المعروف.

وحين أقرأ واحدة من تلك الحكايات وبذلك الأسلوب الشبيه بأسلوب الجدات الحكيمات، أحس بامتلاء غريب، بأنني شربت "كوكتيل" معنويا سلسا، وأنني على وشك أن أكتب شيئا جديدا داخل نص أعمل عليه، وغالبا ما أكتب ذلك الشيء بالفعل.

في تلك الحكايات الراصدة الشبيهة بحكايات الفتى القيرواني، مع اختلاف البيئة والتقنية بالطبع، يمكن أن تعثر على كشك لبيع الليمون في أحد الشوارع الضيقة جرت أمامه مشاجرة عنيفة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، واحتفظت بها الذاكرة، لتستعيدها بكل تفاصيلها.

كما تحتفظ الذاكرة بحوادث لص عملاق وذكي اسمه "الظل"، مثلا، أو برسيم أو تمساح الشوارع، سرق مواطنا ريفيا قادما من إحدى قرى الوسط أو الشمال، ثم رق لحاله، وأعاد إليه ما سرقه.

وأيضا نعثر بسهولة على آبار للشرب كانت موجودة ودفنت، وبنات هوى بأسمائهن، امتلكت النزوات ذات يوم، واندثرت تجارتهن، وهذا إمتاع كبير، واستعادة للتاريخ بلا جفاف يمنع من القراءة.

الأسماء التي يوردها شوقي بدري، مثل تلك التي يوردها كمال العيادي، مهما كانت حقيقية أو غير حقيقية، تصلح بصورة كبيرة لتوظف في نصوص روائية، نعم فبعض الأسماء تبدو فخاخا لجذب الكتاب الروائيين إليها، وبعض الأسماء لا توحي بأي شيء.

أخيرا، لا بد من الإشارة إلى ما أسميه "سلطة الحكي" التي تمتلك مزاج القراءة، في كتاب وصفه كاتبه بأنه من السيرة.

هنا لا بد من حقائق تجاورها حقائق وتتبعها حقائق، فإحساس القارئ بأنه يقرأ الحقيقة، مهم جدا لنجاح سير المبدعين. أما الخيال، فإن أراد أحد توظيفه فليكتب رواية، وسيدخلها القارئ بوصفها عملا من الخيال ويستمتع بها بطريقة أخرى.
_______________ 

* روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة