"منازل الوحشة".. بغداد بين الرعب والأمل

غلاف رواية "منازل الوحشة" للعراقية دُنى غالي
الرواية تسرد مأساة العراق بعد انفجار العنف عقب الاحتلال الأميركي (الجزيرة)

هيثم حسين

تستحوذ مشاهد الرعب وصور العتمة التي تعمّ بغداد إبّان الاحتلال الأميركي على خيال الروائية العراقية دُنى غالي في روايتها "منازل الوحشة" التي نشرتها دار التنوير ببيروت مؤخّراً.

تستهل الروائية بتحديد سنة 2006 منطلقاً لأحداث روايتها، إذ كانت قد مرّت أكثر من ثلاث سنوات على سقوط النظام العراقيّ، وتحوّلت بغداد إلى ثكنة عسكريّة مكتظّة بقوى الاحتلال، وعصابات القتل والخطف، والمليشيات الطائفيّة، والعصابات المقنّعة الملثّمة، وغيرها من المجاميع المسلّحة التي ظهرت نتيجة غياب الأمن والأمان، وتفشّي الجريمة وانتشار التخريب والتدمير.

تكتفي غالي بتصوير بعض اللقطات العامة لبغداد المحتلّة المحاصرة، لتنتقل إلى منزل أسرة صغيرة، مؤلّفة من أب وأم وابنهما الشاب. الأمّ هي الساردة الرئيسة التي تحكي همومها وتصف المتغيّرات التي اجتاحت حياتها وحياة أسرتها، وزوجها أسعد غارق في وحشته ووحدته، وابنها سلوان منزوٍ في عتمة غرفته وكآبته، ويظلّ نقطة أسى لأمه بدل أن يكون لها السلوان باعتباره وحيدها.

الراوية -غير المسمّاة- تعكس هواجس المرأة العراقيّة المشتّتة بين زوج يائس هارب من الاغتيال والتصفية والخطف إلى الخارج، وابن محبَط أقعده انسداد الأفق عن القيام بأيّة مبادرة لتخفيف الإحباط الجاثم على صدره.

فخاخ وأقفاص
تعتمد الروائية مفارقة الأسماء التي تشير إلى نقائضها، فأسعد هو الزوج التعيس، والأب المتنصّل من مسؤولياته بطريقة أو أخرى، وسلوان يراكم أعباء أمّه ولا يروّح عنها أو يسلّيها، بل يكون بؤرة وجعها المتجدّد. كما تكون الفتاة أسل التي تقتحم عزلة البيت وصمته برفقة والدة الراوية نموذج الفتاة الحالمة بالهرب، وتعثر على سلوان وتغريه وتغويه ليخلصها من جحيم بلدها إلى جنة منشودة في الخارج.

ترصد الكاتبة تفاصيل حياة أناس يضبطون إيقاع حياتهم على إيقاع بغداد التي تسودها التفجيرات والاغتيالات، وتظهر أنّ ذلك يأتي كنتيجة حتمية للتغيرات العاصفة

تبرز غالي كيف أنّ البيوت البغدادية الفسيحة تتحوّل إلى أقفاص لأهلها، التفخيخ يطال كلّ شيء، شيئا فشيئا يتمّ التخلّي عن بعض الأماكن فيها، فتهمل الحدائق، وتغلق الأبواب الخلفية، وتترك الطوابق العليا، بحيث يقتصر الاستعمال على غرف بعينها من باب الأمان المنشود. وبالموازاة مع ذلك يتم إغلاق النوافذ بإحكام، بحيث تحجب أي رؤية أو ضوء من الخارج، وتخفي ما ومَن في الداخل.

تختزن البيوت والمتغيرات التي تطرأ عليها بالتقادم ذاكرة المدينة وأهلها، فلا يكاد يخلو منزل من التغيير الإجباري على ديكوره ليتوافق مع متطلبات الأمان وموجبات الفوضى المنتشرة.

التغيير الذي يجتاح المنازل يكون وجهاً من وجوه تغيّر المدينة والناس، فالنوافذ التي تغلق تقطع أي تواصل مع الآخر، تزيد وحشة الأمكنة، وتضاعف السواد، سواء السواد الحقيقيّ أو المجازي، بحيث أن العتمة تشكل حجاباً يحول دون التواصل والتواد، وبالتالي تزيد الاختناق والعزلة والاستيحاش والإحباط، وتعيد السؤال عن جدوى سقوط طاغية وظهور طواغيت كثر بأردية مذهبية وطائفية وقوميّة، في حين يجمعها الابتعاد عن جوهر الرسالة الوطنية المأمولة.

ترصد الكاتبة تفاصيل حياة أناس يضبطون إيقاع حياتهم على إيقاع بغداد التي تسودها التفجيرات والاغتيالات، وتظهر أنّ ذلك يأتي كنتيجة حتمية للتغيرات العاصفة، بحيث أن الفوضى لا تفسح أي مجال للمراجعة والمكاشفة والتعقل، تجبر فقط على الهروب، أو التقوقع واليأس. كلّ محنة جديدة تنتج كثيراً من المحن وتضاعفها.

تربط الراوية بين العزلة والسياسة، وسعي البعض -ومنهم هي وأبوها من قبلها- في النأي بالنفس عن السياسة التي تدخل في أدق التفاصيل الحياتية، ولأن العزلة هي ما يمكن القيام به، هي العجز في تفادي ما يمكن التورط فيه بلا خيار. ولا سيما أن الوجوه تحترف تبديل الأقنعة، وتحدد وجهتها تبعاً لبوصلة الارتزاق التي تقودها في بحر الانتهازية.

اعترافات وأسئلة
تعترف الراوية بمرارة مؤلمة أنها نسيت ما تريد من كل حياتها. أن الرحيل هو النهاية المرتقبة، وأن السنين قادتها إلى وحشة وعزلة وكآبة متعاظمة. يحمل اعترافها مصارحة ونجوى، تكون على أعتاب اليأس، تقول إن حياتها مطمورة في حفرة لا تذكر مكانها. وأنها كانت تضطر لمراجعة تسلسل الأحداث التي تمر في يومها من دون أن تفلح.

يظلّ صدى الأسئلة يتردد في ذهن الأم والابن معاً: من أين برز كل هؤلاء الأمراء والولاة وامتلأت آذاننا بأخبار الذبح والترهيب؟ مَن حرك كل هذه البشاعة؟ لماذا نحن؟ لماذا في هذه البقعة من العالم؟

لقد أفرغت طاقتها في مشروع وهمي. كل ما فعلته أن تتلقى الأحداث التي تأتيها من كل صوب. إنها الأدوار التي يتحدث عنها زوجها وابنها. تقر أنه لا يمكن عكس الأدوار. وأنها لم تؤمن بشيء يوماً. الفراغ يجتاحها. تجهد من أجل البدء بالعد. تخفي نفسها، تحفر من أجل العثور على ما دفنته ثانية.

يظلّ صدى الأسئلة يتردد في ذهن الأم والابن معاً، وتعود بصيغ شتّى تعكس رغبة بالحياة في ظل الموت المخيم المعمم. تطلق الأم أسئلتها في فضاء الوحشة، من تلك الأسئلة التي تنبش عن سبب اختيار بلادها لتكون مرتعاً للخراب والاقتتال والتناحر: كيف ولماذا؟ أين اختبأ كلّ هذا ليبرز لنا فجأة ويشلّ ألسنتنا؟ من أين برز كل هؤلاء الأمراء والولاة وامتلأت آذاننا بأخبار الذبح والترهيب؟ مَن حرك كل هذه البشاعة؟ لماذا نحن؟ لماذا في هذه البقعة من العالم؟

ثمّ تكون أسئلة الابن سلوان مكملة لدائرة الموت المتربص في كل زاوية بالعراقيين، وتلخص الاستنكار الصامت والاحتجاج معدوم الحيلة والوسيلة، كمن أسقط بيده، تراه يتساءل: لمن كل هذا الموت؟ مَن يستحقه؟ من أجل ماذا؟ هل عرفوا الحياة؟ من هو هذا الجدير بموتنا؟

ربّما يكون التوصيف المرير لحال بغداد من قبل إحدى الشخصيات إشارة إلى انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية. وذلك حين توصَف بأنّها تبدو مثل ذبيحة خرجت أحشاؤها فتثير المعدة، كلّ شيء آخذ بالتعطل في ظل إيمان واهٍ غريب بالأمل، وليس الناس سوى أهداف مجانية والمارة مفخخات، بينما يطبل الجميع للحرية الغائبة.

تذكّر دُنى غالي في اختيارها للعنوان، ومن خلال أجواء الرواية، برواية "ذكريات من منزل الأموات" لدوستويفسكي، ولا سيما أن المنازل تتحول إلى كهوف وقيود ومسارح جرائم من نوع آخر، ويتحول أهلها إلى أموات مقامرين ينتظرون دورهم في سلسلة "الجريمة والعقاب".

المصدر : الجزيرة