قطار الشرق السريع يعود إلى محطته الباريسية
رحلة حضارات
وتتجلى القيمة المبدئية للمعرض في اعتباره مرجعية ثقافية وفنية وحضارية وصناعية راسخة في قلوب وعقول ومخيلات الملايين من عشاق السفر الفاخر والسياحة المخملية عبر السكك الحديدية التي جعلت من قطار الشرق السريع رمزا لعلاقات جمعت الشرق بالغرب في مرحلة "حولت البوسفور إلى ضاحية على ضفاف السين " على حد تعبير "أدمون أبو" مراسل صحيفة لوفيغارو التي غطت الرحلة الأولى للقطار الأسطوري عام 1883.
وتتواصل رحلة الزوار مع تاريخ قطار الشرق السريع الذي يُعد غربيا بواقع الأمر في الطابق السفلي من بناية المعهد، وبه يتم الطواف بشكل تقليدي لكنه بديع عبر مجسم القطار وفيديوهات تاريخه ومحطاته وملصقات سينمائية ومستندات استقدمت من الأرشيف وصور فوتوغرافية بعضها معروض في واجهات بشكل حقائب وكأنها إيحاءات بالسفر.
استباق التأويل الاستعماري
ونقرأ بالملف الصحفي الذي ظهرت فيه اللغة العربية لأول مرة على غير العادة أن قطار الشرق السريع -الذي أطلقه رجل الأعمال البلجيكي جورج ناجيلماكرس متخيلا قطارا فاخرا يقطع الحدود والقارات- لا يمثل فقط نموذجا للفخامة والأبهة في مجال السياحة وفن السفر على الطريقة الفرنسية بل أيضا رمز ثورة صناعية أوروبية عاشت على إيقاع الجغرافيا وصدى الصراعات السياسية وتطور الحدود والعلاقات بين البلدان التي قطعها.
ومن هذا المنظور كان قطار الشرق السريع -الذي قام برحلته الأولى من باريس إلى إسطنبول عام 1883 وسحب من الخدمة عام 1977- مرآة لتاريخ تحديث الشرق الأوسط وبروز السكك الحديدية في مواجهة سيطرة الخطوط البحرية، كما صنع التاريخ ما بين أعوام 1883 و1956 باعتباره شاهدا على أحداث سياسية ودبلوماسية مصيرية.
وتجنبا لفكرة التأويل الاستعماري الجاهز في مخيلات زوار عرب مفترضين، استبق جيل غوتييه أحد مستشاري الرئيس لانغ الجدد ومحافظ المعرض والدبلوماسي السابق بالجزائر في عدد من البلدان العربية، الفرضية المذكورة قائلا "إن المعهد لم يفكر في المعرض من هذا المنطلق الخطير الذي يُعد مرادفا للحنين إلى زمن المستعمرات الجميل وقناديل الزيت" على حد تعبير الجنرال ديغول كما جاء في السؤال.
وكان الهدف من وجهة نظره عرض تاريخ قطار الشرق الذي كان يستكمل رحلته من إسطنبول حتى حلب ودمشق وبغداد وبيروت والقاهرة والأقصر وحتى أسوان "وسيلة رائعة لاستعادة قرن من تاريخ مجيد نتج عن ثورة صناعية جعلت من السكك الحديدية محركها الرمزي والتراجيدي".
والقطار المذكور يرادف أيضا مفهوم المسرح الكلاسيكي في نظر كلود مولار (أحد مسؤولي المعرض) وهو يجسد وحداته الثلاث (الزمان والمكان والفعل) التي "استهوت الكثير من المخرجين والكتاب والسينمائيين".