سوق السينما العربية الغائبة!

مقال للكاتب أمير العمري (ثقافة)، وهذا الاقتباس: يتكرر لدى بعض الدول تساؤل ممزوج بالاستنكار: لماذا يعرض المغرب مثلا أفلاما مصرية في حين أن مصر لا تعرض أفلاما مغربية؟

 أمير العمري* 

هناك صراع أو تنافس حول سوق "وهمية" سينمائية في العالم العربي. فالسينمائيون في تونس والمغرب يرددون منذ سنوات قولا واحدا معادا مكررا حول "السوق السينمائية المصرية" التي تمنع دخول أفلامهم، وكيف أن المصريين يفرضون حماية لأفلامهم بحيث لا تنافسها الأفلام العربية القادمة من بلدان المغرب العربي وغيره، والتي ربما تتفوق على مثيلاتها من الأفلام المصرية. وفي الوقت نفسه يتكرر التساؤل الممزوج بالاستنكار: لماذا يعرض المغرب مثلا أفلاما مصرية في حين أن مصر لا تعرض أفلاما مغربية؟

وقد عاد الجدال مجددا عندما صرح مؤخرا المدير السابق للمركز السينمائي المغربي نور الدين الصايل في ندوة على هامش مهرجان القاهرة السينمائي، بأنه يعتقد أن سبب عدم وصول الأفلام المغربية للصالات المصرية يكمن في "صعوبة اللهجة المغربية".

ومرة أخرى يثير هذا القول غضب الكثير من النقاد المغاربة فيهرعون للحديث عن أن الأمر يرجع إلى "التعود" أو الاعتياد، وأنه يتعيّن على المصريين وغيرهم من الشعوب العربية أن يعتادوا على اللهجة المغربية كما اعتاد المغاربة على اللهجة المصرية والسورية مثلا منذ سنوات بعيدة إلى أن أصبحوا يفهمونها جيدا.

وكل هذه الدفوع والحجج تظل تدور حول نفسها منذ انطلق للمرة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1986 -وكنت حاضرا وقتها- مؤتمر خصص تحديدا لبحث كيفية توزيع الفيلم التونسي في السوق السينمائية العربية.

بعيدا عن العواطف
والحقيقة أنني وجدت -تماما كما أجد اليوم- أن طريقة طرح المشكلة من البداية خاطئة.

يتصور الكثير من الأصدقاء أن التحكم في السوق -أي سوق لأي سلعة- يمكن أن يتم نتيجة قرارات علوية تأتي نتيجة العاطفة أو تصدر عن المشاعر الإنسانية الأخوية النبيلة، أو عن الرغبة في إبداء التضامن "الأخوي" بين الشعوب والحكومات، أو حتى طبقا لمبدأ "المعاملة بالمثل"، بينما الحقيقة أن الموزع السينمائي الفرد هو الذي يفرض ما يراه مناسبا له على السوق في أي بلد في العالم ومن بينها البلدان العربية بالطبع.

فموزع الفيلم الأميركي التجاري في مصر يفعل هذا، ليس ولعا بعيون الأميركيين وأصحاب شركات هوليوود الكبرى، بل لأنه يعلم جيدا أنه سيجني أرباحا مؤكدة من وراء توزيع هذا النوع من الأفلام.

وموزع الفيلم المصري في المغرب لا يفعل هذا انطلاقا من التضامن القومي العربي مثلا، بل أيضا لأنه يتوقع أن يحقق الفيلم المصري التجاري أرباحا، في حين أنه لا يرحب مثلا بتوزيع الفيلم المصري الفني مثل "البحث عن سيد مرزوق" لداود عبد السيد، أو "القبطان" لسيد سعيد، أو "الخروج للنهار" لهالة لطفي، أو غير ذلك.

عن أي سوق نتكلم حينما يدور الحديث عن "السوق المصرية" وعدد قاعات العرض السينمائي لا يزيد عن 115 قاعة، في حين أنه ينبغي أن تتوفر 5000 دار للعرض على الأقل

في الوقت نفسه يجب أن نتساءل بكل صراحة: عن أي سوق نتكلم حينما يدور الحديث عن "السوق المصرية" التي تمنع وتغلق وتحمي؟ إن عدد قاعات العرض السينمائي في مصرلا يزيد عن 115 قاعة، في حين أنه لكي تكون هناك سوق حقيقية للأفلام في مصر ينبغي أن تتوفر 5000 دار للعرض على الأقل. وفي المغرب لا توجد أكثر من 65 قاعة، وفي تونس 12 قاعة وفي الجزائر 14 قاعة، وكانت الجزائر مثلا تملك 450 قاعة وقت أن استقلت عن فرنسا فأين ذهبت هذه القاعات والدور البديعة؟ والأرقام ليست من عندي بل هي منشورة ويعرفها كل الزملاء في تلك البلدان.

إن الفيلم العربي الذي نتحدث عنه لا يملك -في الحقيقة- سوقا حتى داخل البلد الذي ينتج فيه، بل إن وجوده الأساسي يعتمد وبالدرجة الأولى على بيع حقوق العرض للقنوات التلفزيونية والأسطوانات المدمجة.

ومن دون التلفزيون تموت صناعة السينما أو يتوقف إنتاج الأفلام تماما، إلا إذا كانت الحكومة في أي من الدول المشار إليها هي التي ستنتج من أجل المشاركة بفيلم أو أكثر في المهرجانات السينمائية الدولية، ثم ينتهي الفيلم إلى مصيره المعروف، أي إلى الأرفف، وهو ما يحدث بالفعل ولكن على نطاق ضيق لحسن الحظ.

وقد حدث في مصر نفسها التي يظن الكثيرون أنها السوق السينمائية الكبرى في العالم العربي بالنظر إلى أن عدد السكان يكاد يصل إلى تسعين مليون نسمة -مع إدراكنا أن الغالبية العظمى من البالغين لا يشاهدون الأفلام سوى عبر قنوات التلفزيون بل ومن خلال شاشات أجهزة الكمبيوتر على شبكة الإنترنت- حيث مولت الحكومة المصرية قبل خمس سنوات إنتاج فيلم "المسافر" الذي بلغت تكاليف إنتاجه ما يقرب من 25 مليون جنيه مصري، وهذه ميزانية ضخمة قياسا بمتوسط تكاليف إنتاج الفيلم المصري، ولكن "المسافر" سافر إلى مهرجان فينيسيا بتدخل مباشر من وزير الثقافة الأسبق، لكنه فشل في الحصول على أي جائزة ولو فرعية، ثم عاد فأخفق في السوق المصرية محققا خسائر طائلة، فهو لم يصمد في قاعة العرض أكثر من بضعة أيام!

صالات السينما
نعم هذا نظام سيئ كما يبدو أيضا نظاما غير عادل، لا يساهم في انتشار الفيلم العربي ووصوله إلى الجمهور في كل مكان بغض النظر عن مسألة اللهجة ومشاكلها، بل وحتى لو تمت دبلجة الفيلم أو ترجمته فلن ينجح، فالمسألة لا تتعلق باللهجة بل بطبيعة المنتج السينمائي نفسه، لأن السوق الموازية التي يمكنها استيعاب الأفلام الفنية هي سوق محدودة للغاية لا تتجاوز نطاق المهرجانات السينمائية.

تشجيع الفيلم المحلي وتوفير منافذ تجارية لعرضه بمختلف أنواعه على الجمهور في الداخل، وحمايته من منافسة الفيلم الأميركي، خطوة أولية ضرورية لكي نؤسس لسوق سينمائية عربية

ولكن ما الذي يمكن عمله بعد أن فشلت كل تجارب تدخل الدولة -من خلال ما عرف بالقطاع العام- في الإنتاج السينمائي في مصر وسوريا والعراق والجزائر، ثم انتهت التجربة إلى ترك الإنتاج والتوزيع والعرض للمنتج الخاص والموزع الخاص، خصوصا بعد أن كان "المنتج" أي الدولة الشمولية (الناصرية والبعثية والقومية) قد أصبحت هي المنتج والرقيب في وقت واحد، أي أنه لم يكن ممكنا بطبيعة الحال أن تنتج إلا ما يتسق مع فكرها وسياساتها عامة مع وجود بعض الاستثناءات. فكيف يمكن أن نقنع الموزع السينمائي الخاص بتوزيع فيلم يعرف مسبقا أنه سيؤدي به إلى كارثة مالية؟

المسألة في رأيي تحتاج إلى ما هو أكبر كثيرا من مجرد الأماني والأمنيات والحديث عن حقوق الأخوة وعشم الأصدقاء.

ربما يكون من الأجدى النظر في أمر السوق الداخلية أولا قبل التطلع إلى دخول أسواق أخرى، فلتكن الدعوة إلى توسيع مجال السوق السينمائية في المغرب، وهو ما لن يتأتى إلا بمضاعفة عدد دور العرض السينمائي خمسة أضعاف مثلا، والأمر كذلك في مصر والجزائر والعراق، بل وسوريا بعد أن يتوقف نزيف الدم هناك بالطبع.

ولعل تشجيع الفيلم المحلي وتوفير منافذ تجارية لعرضه بمختلف أنواعه على الجمهور في الداخل، وحمايته من منافسة الفيلم الأميركي، تكون خطوة أولية ضرورية لكي نؤسس لسوق سينمائية عربية يمكنها فيما بعد أن تتبادل توزيع الأفلام بحرية ودون تدخل فوقي من الدولة.
_______________

* كاتب وناقد سينمائي

المصدر : الجزيرة