"ليلة الإمبراطور".. السخرية وسيلة لتعرية المستبد

رواية "ليلة الإمبراطور" للسوريّ غازي حسين العلي
الرواية ترصد بوادر العنف الكامنة لدى السلطة ولدى الأشخاص (الجزيرة)

هيثم حسين

يستعين السوري غازي حسن العلي بالسخرية سبيلا لرصد الواقع ونقل بعض ما يعترك فيه من نقائض ومستجدات في روايته "ليلة الإمبراطور"، التي تختلط فيها الأحلام بالأوهام، لتنتج كوابيس واقعية وتدفع الناس إلى الغرق في وساوسهم وهواجسهم، بحيث تكون الأمور مقلوبة، والمعايير غريبة تبعث على الاستهزاء والأسى في الوقت نفسه.

يستغل الكاتب في روايته -منشورات ضفاف ببيروت، الاختلاف بالجزائر، الأمان بالرباط 2014- وجود مهمة قتل الكلاب في البلديات في سوريا ليلصقها ببطله، ويسبر من خلاله بؤر العنف والعدوانية لدى السلطة في معالجتها للأمور، إذ عادة ما كان يتم تكليف شرطي في البلدية أو أحد الموظفين الفنيين بالقيام بها، خاصة حين تتزايد الشكاوى من المواطنين بكثرة الكلاب الضالة الهائمة في المناطق السكنية، وتكون الوسيلة المقترحة والمتبعة عادة هي قتل الكلاب وحرقها.

نزع الأقنعة
يلتقط غازي العلي بذور العنف الكامنة لدى السلطة وبعض الناس، العنف الذي كان يمارس بذرائع شتى، وبحجج واهية أثبتت المستجدات التالية التي أفرزتها الثورة وما أعقبها من عنف وحشي من النظام تدميرها لبنية المجتمع، وكشفت عن الوجوه الحقيقية بعد أن نزعت أقنعة الزيف والتحايل.

يخشى سعيد من محاكمة جمعيات الرفق بالحيوان له أمام محكمة "لاهاي"، وتكون خشيته واردة في سياق السخرية المبطنة، ذلك أنه كيف لبلد يتم فيه قتل البشر بالآلاف، أن يكون فيه مجال لمحاكمة قاتل للحيوانات

بطل الرواية "سعيد" الحالم بوصال حبيبته المنشودة "سعاد"، يكون عاملا هامشيا في إحدى بلديات العاصمة دمشق، يكلف بمهمة اصطياد الكلاب الشاردة وقتلها، يعطى بارودة لتنفيذ ذلك، يهيم على وجهه في الأزقة والشوارع، فيقتنص الكلاب الشاردة دون أدنى شعور بالشفقة أو الرحمة عليها.

يخشى سعيد من محاكمة جمعيات الرفق بالحيوان له أمام محكمة "لاهاي"، وتكون خشيته واردة في سياق السخرية المبطنة، ذلك أنه كيف لبلد يتم فيه قتل البشر بالمئات والآلاف، دون أن تتم محاكمة أي من مجرمي الحرب فيه، أن يكون فيه مجال لمحاكمة قاتل للحيوانات، وتكون التورية من جهة تفضيل الحيوان على الإنسان، وعدم إيلاء أي اهتمام للضحايا من البشر، مقابل التهافت لوقف قتل الكلاب، وكأن الكلاب أغلى من البشر، أو هذا ما يوحي به الواقع وتثبته الممارسات.

لا يحلم "سعيد" حلما إلا ينتكس به ويكتوي بنيرانه، فلا هو يستطيع تحقيقه ولا تجاهله، فيظل رهينه ويسعى خلف سرابه. تسعفه الأحداث ليتميز بشخصيته وفرادة عمله، يكلف بمهام القتل في مناطق مجاورة، يتحول إلى قاتل مأجور للكلاب الشاردة، ولا يكتفي بقتل الكلاب الكبيرة بل يقتل جراءها الصغيرة أيضا، ويهلل بنوع من السادية وهو يفتك بها.

"سعيد" الذي ينحدر من بيئة أسرية مفتتة، الأب مجرم سجين، الأم هاربة مع رجل آخر، وهو يكبر كاللقطاء، لا غرابة أن يمارس التشبيح والقتل بحق الحيوانات، لكنه يظل أكثر رحمة من غريمه الذي ينافسه على "سعاد"، وهو ابن عمها الضابط في الجيش، ذاك الذي يستلم مناصب رفيعة، وتتم ترقيته بناء على خدماته الإجرامية التي يضعها في خدمة المستبد، تراه يفتك بالناس، ويصطاد البشر دون أن يرف له جفن.

تشبيح وترميز
يبرز الكاتب جوانب من "التشبيح" الجاري، ومن باب الترميز والإسقاط والمداورة، فالواهم "سعيد"، المنحوس حقيقة، يشعر في أحلامه أنه إمبراطور ويقضي ليالي ساحرة في حضن فاتنته التي يتخيل أنها تشبه الممثلة "سعاد حسني"، ويتمادى في تخيلاته المبهجة تلك التي تنغص عليه حياته لأنه لا يفلح في تحقيقها ولا مقاربتها.

يتندر الروائي بأسلوب متهكم على ما كان يسمى بالنزاهة الوطنية، وذلك حين يحاسب أحد اللصوص آخرين ويستجوبهم في أموالهم ويشكك بنزاهتهم، في الوقت الذي يكون هو الفاسد الأكبر الذي يشكل حلقة مفصلية في دائرة الفساد المستشرية، تلك التي تجد لنفسها أقنعة كل مرة، مستخدمة تعابير "التطوير والتحديث" وشعارات عريضة أخرى من شأنها التعمية على الحقائق والسرقات والجرائم المقترفة بحق الناس والبلاد.

يتندر الروائي بأسلوب متهكم على ما كان يسمى بالنزاهة الوطنية، وذلك حين يحاسب أحد اللصوص آخرين ويستجوبهم في أموالهم ويشكك بنزاهتهم، وهو الفاسد الأكبر الذي يشكل حلقة مفصلية في دائرة الفساد

ويستدرج الكاتب بطله "الإمبراطور" سعيد، الواهم، قاتل الكلاب، إلى عالم التحول، يحوله إلى شبح، إلى "شبّيح"، إلى كائن هش، إلى ضحية، يجعله يتقلب في مكانه، يترقى في مناصب هامشية، يكتسب الدعم والسطوة بالتقادم، يتبادل الأدوار مع الآخرين في خدعة الأحلام ولعبة النقائض، يكون صورة المستبد في تشوهاته ومسوخه، ويصل بالناس إلى صرخة التحدي الباعثة على الهتاف بإسقاط "العماد ابن عم سعاد".

يوظف العلي عناوين بعض الكتب، سواء تلك التاريخية أو المترجمة في أحلام بطله، رابطا بينها وبين الممارسات الجارية على أرض الواقع، من تلك الكتب "البغاء عبر العصور"، "حياة ما بعد الموت"، "ألف ليلة وليلة"، "تفسير الأحلام" لابن سيرين، "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي، بالإضافة إلى عناوين أخرى تورد موحية بمراميز ودلالات وتأويلات.

يستهل العلي فصوله (16 فصلا) بجناسات ومقابلات لفظية، مثل "خطف سعاد بطيارة وراح يدور بها من قارة إلى قارة.."، "استلمت البارودة والضروب لزوم تنفيذ المطلوب"، "الزموا الحذر يا شباب فإن ما حدث انقلاب"، "أنا سلطان الحقيقة ومقتدى الطريقة".. وتراه يحرص على السجع وإيراد الكلمات ذات الجرس الموسيقي القريب أو ذات الروي المشترك وكأنه بصدد كتابة مقاطع من مقامات مفترضة، أو إنشاء قصة للحكواتي كي يحكيها في مجالسه من باب تسلية المستمعين عبر جذب انتباههم بنهايات الجمل المتشابهة، لدرجة أنه ينساق وراء اللعبة التي يورط نفسه بها، فيسهو عن قواعد اللغة أحيانا في سبيل تطويع الكلمة وإبقاء موسيقى التقفية.

المصدر : الجزيرة