الراحل محمد بن قطاف.. عمر للمسرح الجزائري

المسرحي الجزائري الراحل محمد بن قطاف
undefined

عبد الرزاق بوكبة-الجزائر

 
من مقولات محمد بن قطاف الموغلة في حب الفن الرابع "من أراد أن يعيش بالمسرح، فما عليه إلا أن يعطيه بعض الوقت والجهد، ومن أراد أن يعيش للمسرح، فليمنحه حياته كلها" هكذا فعل شيخ المسرح الجزائري كاتبا وممثلا ومخرجا على مدار نصف قرن هو عمر استقلال الجزائر ليرحل بعد أن منح للمسرح كل جهده وحياته.
رحل "الشيخ" عن خمس وسبعين سنة، في الأسبوع الأول من العام الجاري تاركا خمسة وثمانين عملا مسرحيا كتابة وترجمة واقتباسا وتمثيلا وإخراجا، إلى جانب عشرات الأعمال التي أنتجتها أسماء أخرى تحت رعايته. فقد اختار -منذ البداية- أن يعيش للمسرح الذي كان يراه "جملة مفيدة" فمنحه حياته.
 
بن قطاف يتوسط نخبة من الفنانين بالمسرح الوطني (الجزيرة)
بن قطاف يتوسط نخبة من الفنانين بالمسرح الوطني (الجزيرة)

بداية صعبة
لم تكن طفولة بن قطاف عادية، وهو المولود مطلع الحرب الكونية الثانية عام 1939، في حي "حسين داي" الشعبي بالجزائر العاصمة، ولم تكن الظروف التي أنتجتها هذه الحرب، والتي خلفها الاستعمار الفرنسي أصلا، تسمح لجيله بتعليم طبيعي، مثلما كان متاحا لأبناء المستوطنين الفرنسيين وأتباعهم من الجزائريين.

ولم يمنعه اندلاع ثورة التحرير عام 1954، من أن يكوّن نفسه بنفسه، مستفيدا من الخدمات الفنية التي كانت تقدمها بعض النوادي الأهلية في الأحياء الشعبية، وكان يحلم بأن يصير مغنيا، وهو صاحب الصوت الجبلي الممتلئ، فالتقطه رائد المسرح الإذاعي في الجزائر الراحل "محمد ونّيش"، وغيّر وجهة حلمه، فصار ممثلا في فرقة الإذاعة الجزائرية بُعَيد الاستقلال.
دامت هذه التجربة ثلاث سنوات، وأثمرت عشرات المسرحيات الإذاعية، بعضها قام هو نفسه باقتباسه من نصوص عالمية، كما ترجم "عطيل" و"تاجر البندقية" لشكسبير، والتحق عام 1966 بالمسرح الوطني الجزائري الذي يُعد أول مؤسسة تم تأميمها بعد الاستقلال، فانخرط في الاقتباس والتمثيل، مستفيدا من توجيهات رائد المسرح الجزائري الراحل "مصطفى كاتب".
كانت مسرحية "إيفان إيفانوفيتش" لناظم حكمت، التي ترجمها وأعطاها عنوان "إبليس الأعور" عام 1968 العتبة الأولى لجلب الانتباه إليه مترجما وممثلا موهوبا. كرّس الانتباه إليه ثانية عام 1971، من خلال ترجمته وتمثيله لنص "الرجل ذو النعال المطاطية" للروائي والمسرحي ذائع الصيت كاتب ياسين.

منحه النجاح الذي حققته المسرحيتان الجرأة على أن يخوض أول تجربة له في الكتابة، فكانت مسرحية "حسنة وحسان" عام 1975، والتي تعد أول عمل مسرحي يُنجز في ظل قانون "اللامركزية" الذي نجم عنه تأسيس مسارح جهوية في المدن الجزائرية الكبرى.

‪الراحل مع نخبة من الفنانين في حفل تكريمه من طرف جمعية الألفية الثالثة‬ (الجزيرة)
‪الراحل مع نخبة من الفنانين في حفل تكريمه من طرف جمعية الألفية الثالثة‬ (الجزيرة)

زمن العطاء
شكلت سنوات الثمانينيات من القرن العشرين مناخا خصبا لبن قطاف، لأن يتكرس اسما لامعا في المشهد المسرحي الجزائري، وكانت مسرحية "قال العرب قالوا" التي اقتبسها شهيد المسرح الجزائري عز الدين مجّوبي عن نص "المهرج" لمحمد الماغوط، وشارك فيها بن قطاف بكتابة أغانيها، وتمثيل دور "عبد الرحمن الداخل"، مقدمة لإنجاز أعمال باتت علامات فارقة في المدونة المسرحية الجزائرية.

ووجد في نص "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للروائي الطاهر وطار، ضالته لإدانة نظام جزائري يستمد شرعيته من ثورة التحرير، لكنه ليس وفيا بما يكفي لشهدائها في سياساته، ولم يقتصر بن قطاف على التمرد على ما يكتب ويمثّل ويخرج من مسرحيات فقط، بل تعدّاه نهاية الثمانينيات إلى الاستقالة من المؤسسة الرسمية للمسرح، وتأسيس أول تعاونية مسرحية حرة أيضا.

ولعبت تعاونية "القلعة" التي أسسها رفقة نخبة من الفنانين مثل "شريف عيّاد" و"صونيا مكيو"، دورا عميقا في تحرير الوعي المسرحي الجزائري، واستطاعت -رغم اعتمادها على التمويل الذاتي- أن تنافس المسارح الحكومية كمّا وكيفا.

وجسّد بن قطاف التحول العسير الذي عرفته الجزائر، من الأحادية إلى التعددية، بعد مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 1988، وما نجم عنه من تصدعات أملتها السياسات المرتجلة في مسرحية "العيطة" التي تحصلت على الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج.

وكان اغتيال المسرحي عبد القادر علولة عام 1994، مقدمة لتصفية المثقفين والفنانين جسديا، فكان ذلك سببا في أن تتوقف هذه التجربة، حيث سافر بن قطاف إلى أميركا ثم فرنسا، مستفيدا من إقامة إبداعية هناك.

في مسرحيته "العيطة"، جسّد بن قطاف التحول العسير الذي عرفته الجزائر، من الأحادية إلى التعددية، بعد مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 1988، وما نجم من تصدعات

ثمار العودة
عاد صاحب "عقد الجوهر" إلى الجزائر عام 1999، وأسس فرقة مسرحية تابعة لمؤسسة "فنون وثقافة"، جمع فيها نخبة من الشباب المتخرجين من المعهد العالي للفنون الدرامية. وكان توليه لإدارة المسرح الوطني صيف عام 2003، مقدمة لتحول عميق عرفه المسرح في الجزائر، كان التشبيب من أبرز تجلياته.

عمل بن قطاف طيلة إدارته للمسرح الوطني التي دامت عقدا كاملا، على ردم الهوة بين الأجيال المسرحية، وفتح الأبواب للكفاءات القادمة من المدن الداخلية، وركّز على التكوين، فأنشأ عشرات الورش والدورات في هذا الإطار، دعا إليها خبراء مسرحيين عربا وغربيين.

وباشر بإطلاق مبادرات ساهمت في تفعيل المشهد المسرحي الجزائري، منها تأسيس "مهرجان الجزائر الدولي للمسرح"، وإعادة بعث "المهرجان الوطني للمسرح المحترف"، وتأسيس "أيام مسرح الجنوب"، وتظاهرة "الأدب في ضيافة المسرح"، وإنشاء "فضاء "صدى الأقلام" الذي يحتفي بالنصوص الأدبية والمسرحية.

وكان إشرافه على دائرة المسرح في تظاهرات "الجزائر عاصمة الثقافة العربية" و"تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية" و"المهرجان الثقافي الأفريقي" فرصة لبروز وجوه وأعمال مسرحية جديدة.

المصدر : الجزيرة