الشعر.. المفقود والمنشود في زمن الثورة
الشاعر السوري أكرم القطريب المقيم في أميركا، والذي أصدر مؤخرا مجموعة جديدة بعنوان "بلاد سرية"، يرى أن الشعر يعيد في هذه الفوضى الرحمة إلى العالم المنهوب، وصوت الكائن الذي اختفى لعقود طويلة.
ويضيف القطريب في حديثه عن الحرية أنها ليست مهنة أو "مانشيتا" مرفوعا على واجهات الأبنية في دعاية انتخابية، ولا مشروعا في "أجندة"، ويرى من المفارقات الساخرة أن أكثر من روّج لها في خطاباتهم الدهرية هم الطغاة العرب، بينما ثلاثة أرباع شعوبهم تقبع إما في السجون أو المنافي والربع الباقي تحت الإقامة الجبرية ومسيرات التأييد والدبكة القسرية.
أما الشاعر السوري إبراهيم اليوسف المقيم في الإمارات، والذي ذاق مرارات القمع والمنع في بلده، ثم هجّر بعد سلسلة من المضايقات والتهديدات، يؤكد أنه بالشعر نبني فردوسنا الأرضي، ويتحدث عن تداخل الأبعاد الجمالية بالقضايا في القصيدة.
ولا يعتقد اليوسف أن شاعرا ملتزما بأي قضية في العالم، إلا ويمتلكه شعور داخلي بأن لقصيدته رؤيا بالإضافة إلى الدور الجمالي الذي تؤديه، وأن التوقف عند هذا الدور الرؤيوي يعني -من بين ما يعنيه- أنه يتبنى ضمن رسالته العظمى مفهوم التغيير بمجالاته المتعددة: تغيير الفرد وتغيير المجتمع وتغيير الأنظمة والقوانين الاستبدادية.
وهذا المفهوم -وفقا للشاعر السوري- سيتم التركيز عليه بوتيرة أعلى، عندما يكون هناك استبداد ما أو وطن محتل أو اضطهاد "كما هو الحال السوري، وهو الأنموذج هنا"، حيث لا مناص للشاعر من أن يركز على معاناة الناس من حوله، يرهن روحه وقصيدته كي تلهجا بآلام المضطهدين، لتنافحا عنهم بلاهوادة في وجه آلة الطغيان والظلم، من دون أي مهادنة البتة.
ويجد اليوسف أن الشعر بالنسبة لواحد مثله متنفسا عن آلامه وهمومه، ويقول في ذلك: حيث رحتُ أملؤه برموزي الكردية التي تستفزّ الرقيب، وأملؤه برموزي الطبقية ورموزي الوطنية ورموزي الإنسانية، والفكرية، وكل ما يستفز آلة الظلم، لأهجو المخبر وسيده، بل سيد أسياده الأول، وإن كنت سأقع -في مواجهة هذه الآلة- عندما كان هناك في صف المثقفين، ومن بين من يدّعون أنهم شعراء، "كتبة تقارير" يقدمون شروحات عن قصائدنا.
التهافت والتنميط
الشاعرة والروائية السورية المقيمة في بيروت لينا هويان الحسن تشير إلى حالة متنامية على هامش الثورات، وهي ظهور فئة منتفعة من الجعجعة الكلامية واقتناص الأضواء والتهافت على المكتسبات الصغيرة بعيدا عن روح الثورة والشعر معا.
وتقول صاحبة "معشوقة الشمس" إن الشعر لم يكن يوما صنعة القديسين، بل صنعة العفاريت والشياطين، والمشكلة -كما تقول- أن أغلب الشعراء حاليا يطرحون أنفسهم "ملائكة" الثورات المخلصين، علما بأن الشرائح التي هبّت وقامت بالثورات ليست من الشرائح المثقفة فعليا، أي ربما سمع أحدهم بنزار قباني، لكن قطعا لم يسمع بأدونيس على سبيل المثال.
وحتى الشعراء الكبار وفقا للكاتبة السورية عبروا من خلال آرائهم عن الأهواء الصغرى والمعيبة باقتناص الأضواء، وهذا حدث في كل الدول العربية التي شهدت الثورات. والشعر الذي يكتب دفاعا عن ثورة لن يختلف عن الشعر الذي يكتب دفاعا عن حزب أو أيدولوجية، وغدت الثورة وفقا للحسن فرصة للمتنفّعين على كل الأصعدة وأهمها الأدب والشعر تحديدا.
وتقول لينا "قرأت نصوصا متعددة كتبت من وحي الثورات: باختصار أشعار سيئة، وحتى لا نقع في شرك نفاق مقلوب، من المعيب أن نحاول تزكية نص سيئ سواء أكان شعرا أو رواية، فقط لأنه كُتب من وحي الثورات التي تحتاج حاليا إلى نصوص جريئة تنتقدها، حتى لا تتحوّل الثورات إلى تابوهات لا تمسّ".
من السوري إلى الكوني
أما الشاعر السوري الشاب دارا عبد الله المقيم في ألمانيا، والذي أصدر مؤخرا مجموعته الأولى "الوحدة تدلل ضحاياها"، وكان قد تعرض للسجن في سوريا قبل خروجه منها، يقارب السياسي واليومي بلغته الشعرية، يمزج بين عوالم السياسة وأجواء القصيدة، وهو ينشد أدوارا غير منمّطة للقصيدة.
ويقول في ذلك: لا أحبّ الحديث عن دور للشعر، فأي دورٍ هو تنميط، وكلمة "دور" تذكّرني بالمعنى المسرحي بالبسيط.
إذا استطاع الشعر أن يضيء بعين فنية شعرية حادّة، جوانب مظلمة غير مكترَث بها في الحدث السوري، كأحاديث الجنود عن العودة من المعارك عند المساء، أو الخوف المزروع في دواخل الجميع.. أعتقد وقتها سيستطيع الشعر أن يخرج الحدث السوري من النطاق السوري الضيق إلى الأدب الكوني العام.
والنص الأدبي كما يقول عبد الله إذا دخل في متاهة الصراع السياسي التاريخي، وقتها سيندثر ويزول بتغير توازنات المصلحة في الميزان السياسي.