"سجينة طهران".. عن الثورة والعذابات المنسية

سجينة طهران" للروائية الإيرانية مارينا نعمت
undefined
هيثم حسين
 
شكل القتل الوحشي للصحفية الكندية الإيرانية زهرة كاظمي دافعا رئيسا للكاتبة الإيرانية مارينا نعمت لتكشف النقاب عن قصة السجناء السياسيين في إيران من خلال عملها السردي "سجينة طهران" الذي تضمن مذكراتها وعذاباتها الشخصية في سجن "إيفين" الرهيب.

اعتقلت كاظمي في إيران سنة 2003 وتعرضت لأقسى أنواع التعذيب في سجن "إيفين"، وتمت تبرئة المجرمين المتهمين، كما لم تسمح السلطات الإيرانية بتشريح جثّتها أو نقلها إلى كندا، وكانت تلك الحادثة صفّارة إنذار للعالم للتعرف إلى هول سجن "إيفين" وفظاعته اللامحدودة. 

في "سجينة طهران" تصف مارينا نعمت -المقيمة في تورنتو بكندا- قصتها بأنها الجزء غير المروي من قصة جيل الثورة الإسلاميّة في إيران، وبأنها قصة المراهقين الذين رغبوا أن يجعلوا إيران مكانا أفضل لهم، لكنهم سقطوا في شراك حريق هائل خرج عن السيطرة، وجلب لهم السجن والتعذيب والموت بدلا من الحرية والديمقراطية.

تود نعمت -وهي مسيحية إيرانية تنحدر من جذور روسية- أن تصبح قصتها تخليدا لذكرى قتلى الثورة الإسلامية، وتتمنى أن تكون تشجيعا لكل الناجين من سجن "إيفين" على الخروج من صمتهم والحديث عن ما جرى لهم. وتباشر بكشفها النقاب عن سيرتها التي أصدرتها مؤخرا دار كلمات بالقاهرة بترجمة سهى الشامي، وتقديم فاطمة ناعوت.

لا تخفي نعمت رغبتها في أن يتحوّل سجن "إيفين" ذات يوم إلى متحف يصطحب الناس أطفالهم إليه كي يخبروهم عن فترة حالكة في تاريخ إيران

سجون الثورة
سنتان وشهران واثنا عشر يوما هي المدة التي قضتها مارينا مرادي بخت، أو مارينا نعمت -كما اشتهرت- في سجن "إيفين"، حين كانت مراهقة في السادسة عشرة من عمرها، وانتزعت من دفء منزلها ليلقى بها في عتمة السجن بتهمة مناهضة الثورة.

انتقلت بين عنابر أكثر من سجن، تحولت من كائن إلى رقم إلى التسمي باسم آخر اختير لها في عصر الرعب الذي شهدته. نجت بأعجوبة من حكم الإعدام، وذلك بعد توسط المحقّق علي -أحد جلادي سجن "إيفين"- لتخفيف الحكم الصادر عليها من محكمة ثوريّة.

منذ القبض عليها سنة 1982 وحتى الإفراج عنها، مرّت حياة مارينا بوقائع وأحداث مكثفة للغاية، فبعد القبض عليها وتعذيبها والحكم عليها بالإعدام ثمّ تخفيف الحكم إلى المؤبد، ضغط عليها "علي" لتقبل به، هدّدها بوالديها وحبيبها أندريه، فرضيت الزواج به قسرا، لم تستطع أن تحبّه برغم حبّه الكبير والغريب لها، وأجبرها على أن تُسلم، وتحاول التكيّف معه ومع الحياة الجديدة المفروضة عليها.

يُقتل "علي" على يد جلاد آخر ضمن حملة تصفية حسابات بين تيارات متصارعة في السجن، تشعر بالذنب لأنها لم تحبّه ولم تكرهه، ظلت مشاعرها تجاهه مزيجاً من الغضب والإحباط والخوف والشكّ، وهو الذي أنقذها من الموت مرّتين وافتداها وأحبها وكان مستعداً لتغيير نمط حياته من أجلها، كما أنه كان قد سجن في عهد الشاه في السجن نفسه لثلاث سنوات، مما خلق لديها نوعا من التعاطف معه.

تخرج من السجن بعد سلسلة من التعقيدات والمشقّات، وبعد تدخل آية الله الخميني لمرتين، جراء توسط والد "علي" ليخفف عنها الحكم بداية، ثم تدخل لاحقا لإطلاق سراحها المشروط، وذلك بعد إعادة المحاكمة عقب إسلامها وزواجها بعلي.

تكتب نعمت بصراحة وجرأة، ترش الملح على جرحها لا بحثا عن الألم وإيلام الذات، بل للتحذير من هول ما جرى ويجري

الذاكرة والغفران
تذكر مارينا أنها لم ترد نبش الماضي، وتظاهرت بنسيانه وأنه لم يحدث، متعللة أن يطويه النسيان ذات يوم. كما لا تزعم تمثيل السجناء السياسيّين في إيران لأن أمرهم معقّد للغاية ويحتاج إلى كثير من التناول والدراسة من عدّة زوايا عسى أن يتم الإلمام بجوانب الصورة كافّة.

ولا تخفي رغبتها في أن يتحوّل "إيفين" ذات يوم إلى متحف يصطحب الناس أطفالهم إليه كي يخبروهم عن فترة حالكة في تاريخ إيران. كما تطلب من قرّائها ألا يمنعهم الخوف من الحديث صراحة عن ما يرونه خطأ، لأن الخوف أفظع السجون على الإطلاق.

تحاول الكاتبة نقل مشاعرها إلى القارئ لا عن طريق الاستنتاجات وإصدار الأحكام، بل عن طريق رواية الأحداث ورسم خريطة المشاعر الإنسانية المعقدة التي غالبا ما تقدم مزيدا من الأسئلة لا الإجابات.

تحاصر السجن بالذاكرة والرواية، تحكي أحداث السجن لتقهر حزنها وتعبر عن نقمتها وغضبها، تطلق صرخة الوجع المدوّية عسى أن تُسمع أولئك الذين يتجاهلون صرخات السجناء والضحايا ويتجنّبون التدخّل لإنقاذهم.

تمثّل الذاكرة بالنسبة لنعمت منهل الأسى والألم، لا تتهّرب من مواجهة الماضي بكل ما فيه من مآس وأوجاع، تقرر خوض مغامرة الكتابة لأنها ترى فيها الدواء لجراحها الدائمة النكء، والوفاء لصديقاتها اللاتي تعرّضن لأبشع أنواع التعذيب وقتلن بعيدا عن ضجيج وسائل الإعلام وبعيداً عن سمع العالم وبصره، والانتماء لبلد تمّ تشويهه على أيدي الناقمين على التاريخ والجغرافيا معا.

فنيا تقسم الكاتبة روايتها السيرية إلى ثمانية عشر فصلا، تسرب بين ثنايا الفصول مقاطع من سيرة جدّتها الروسية الأصل، والتي تتشابه معها في الأسى والهجرة، كما تستعين بالخيال في بعض الأحيان لتسد فجوات الواقع وتتهرّب من أية مواجهة مع أسماء واقعية قد تشكل لها الرواية صدمة أو إشكاليّة، وبخاصّة لمن لا يزال في إيران.

تسعى مارينا إلى استرداد ما انتزع منها من حياة، لتنتقل إلى المرحلة التالية وهي إمكانية الغفران والصفح. تكتب بصراحة وجرأة، ترشّ الملح على جرحها لا بحثاً عن الألم وإيلام الذات، بل للتحذير من هول ما جرى ويجري.

ولا تبقي الكاتبة الإيرانية الحقد سلاحها الفتّاك، كما لا ترتهن لسطوة الخوف ولا لافتراس الضغينة، لأنها تستعين بالمصارحة وسيلة للمكاشفة ثم المصالحة، تصفح عن جلادها، وتتعاطف مع ذويه، تحن إلى أن تنعم بدفء بلادها دون سجون أو أحقاد أو ضغائن.

المصدر : الجزيرة