"ملاك طائر".. صرخة شاعر لإنقاذ طفولة مهدورة

ملاك طائر
undefined
هيثم حسين
 
"يا إلهي، لماذا يموت الأطفال؟" صرخة دستويفسكي الشهيرة تكون شرارة بدء الألم والإيلام للشاعر السوري حسين حبش في مجموعته "ملاك طائر" التي جمع فيها نصوصا عن أطفال سوريا، ليطلق بدوره صرخة مدوّية: "يا إلهي، كيف يستطيعون قتل الأطفال؟". وينوّه إلى أن الفرق كبير جدا بين الموت والقتل، أي بين صرخة دستويفسكي وصرخته.

يتقدم حبش في مستهل مجموعته -الصادرة عن منشورات مومنت كتب رقمية، بريطانيا 2013- باعتذار مفصل لكثيرين من الأطفال ومنهم أولئك الذين لم يستطع الكتابة عنهم، وأولئك الذين استشهدوا وقتلوا وقَضوا تحت الأنقاض، ولمن أردتهم رصاصات القناصة بدم بارد، ومن عذبوا بوحشية لا مثيل لها، ومن ما زالوا في السجون، ومن يعيشون في المخيمات ومن فقدوا أجزاء من أجسادهم وأصيبوا بعاهات وإعاقات دائمة، ولكل أطفال سوريا الراحلين والباقين، الذين لم يستطع الكتابة عنهم واحدا واحدا.

يستعرض الشاعر كثيرا من الحالات التي وقع فيها الأطفال ضحية العنف الممارس، ويتوقف في تلك الحالات على لقطات بعينها، يجعلها مركز الاهتمام والمتابعة

أنين المرعوبين
تخفت حدة الصرخة الاحتجاجية في القصائد، ويحضر بوح شفيف يحمل الكثير من الأنين والأسى والقهر، ذلك أن صور الأطفال المختلفة في حالات إنسانية مؤثرة تشكل صورا مؤلمة في قصائد مفعمة بشاعرية الألم، دون أن ينساق الشاعر وراء الخطابية والمباشرة والشعاراتية التي تسود كثيرا من القصائد التي تعبر عن مآس راهنة، تظل مسكونة بتأثيرها ولا تستطيع الانفلات من عقال اللحظة لتضفي على المشهد مسحة إنسانية أبعد عمقا وتأثيرا.

يستعين حبش بالصورة الواقعيّة التي يغفل عنها الكثيرون جراء الهول المرافق لها. في قصيدته "صعود" مثلا لا يعود الطفل الذي يرتقي السلم ليستطلع غارات الطائرة، لأنه يرتقي إلى السماء بعد أن يقع ضحيّة قصف الطائرة المغيرة، يقول: "الصبيّ الذي صَعَدَ السُّلم/ ليُخبرَ الجيران/ بمَجيء الطائرات/ وبدءِ القصف/ أكملَ صُعوده إلى السَّماء!".

يستعرض الشاعر كثيرا من الحالات التي وقع فيها الأطفال ضحية العنف، ويتوقف في تلك الحالات على لقطات بعينها، يجعلها مركز الاهتمام والمتابعة. فهل أشد قسوة من أن تجد طفلا فقد قدرته على النطق جراء الرعب الذي شاهده، فيضطر إلى شرح مأساته بيديه. ينجو من الموت لكنه يقع فريسة العاهة. ويصور في قصيدته "نجاة" هذه الحالة بقوله: "من الرّعبِ وهَول المذبَحة/ انعقدَ لسان الطفل/ بيديه المُرتجفتين/ رَوَى قصّة نجَاته العجيبة كاملةً".

ومع اشتداد الاقتتال وتأميم القتل وسيادة الأجواء الانتقامية التي لم تستثنِ الأطفال، يرمز الشاعر إلى فداحة الوحشية الممارسة، عبر الإيحاء للقاتل بأن هناك ناجيا من حقده وإجرامه وذلك في قصيدته "دمية!" التي يقول فيها: "نسي القاتل أن يَطعنَ/ دمية البنت الصغيرة معها أيضا/ استيقظت الدمية من الصّدمة/ تشبثت بصَاحبتها/ وأبت إلا أن تُدفن معها!".

"ملاك طائر" قصائد عبارة عن قصص وحكايات ومشاعر وتخيّلات أطفال سوريا، وهي صرخة لإنقاذ الطفولة المهدورة، ولفت الأنظار إلى مأساة متعاظمة ينبغي استنفار القوى لإيقافها

أيقونات الثورة
يستذكر حبش العديد من الأطفال الذين أصبحوا أيقونات للثورة السورية كالطفل الشهيد حمزة الخطيب الذي تم تشويه جثته من قبل النظام، وكذلك شانتال عوّاد التي استشهدت مع أمها في التفجير الأعمى الذي استهدف حيّ جرمانا بدمشق، وفاطمة المغلاج التي عُثر على جسدها بلا رأس في قرية كفرعويد التي تعرّضت لمجزرة بشعة في مدينة إدلب، والطفلة آديل زعتري التي استشهدت برصاص القنّاصة أثناء عودتها من الاحتفال بعيد الصليب في حرستا.

ويستذكر الرضيعة ناتالي الخطيب التي استشهدت في بلدة "طفس" الحورانية وأصر أهلها على دفنِ لهايتها معها. وغيرهم من أطفال الحولة والتريمسة الذين أهدرت دماؤهم، لا لشيء إلا لأنهم وُجدوا في أماكن هيمن على طرف فيها حقد أعمى لا دواء له.

ربما تختصر قصيدة "ملاك طائر"، التي اختارها الشاعر عنوانا لمجموعته، الجانب الأكثر إشراقا من براءة الطفولة في حلكة الموت والحرب والدمار، إذ إن الطفلة التي "ربطوا يديها المكسورتين بالشَّاشِ الأبيض ألَحّت على أمّها أن تعرف لماذا يداها مربوطتانِ هكذَا؟ عندما احتارت الأمّ ولم تَجد جوابا هَمست لها: لقد أصبحت ملاكا يا صغيرتي، أليس للملائكة أجنحة بيضاء؟". ثمّ تكون الخاتمة أن الطفلة تصدّق كلام أمها وتتعافى رويدا رويداً "تُحرّك يديها كجناحَين وتحاول الطَيران".

يشير الشاعر من خلال بعض قصائده إلى حالات العنف المتنامية التي تشوه براءة الطفولة، فعوض أن يلعب الطفل السوري بالدمى ويغفو بهناء وأمان، تراه يتعلم على القنص ويحمل أسلحة يحاكي بها عنف الواقع، ويسعى إلى إسقاط الطائرات التي تتسبب لأهله بالتشرد والقتل والنزوح.

كما يشير إلى حالات مصاحبة يتصرف فيها الأطفال بـ"منتهى البراءة": "بينما كان الرجال منهمكين بانتشالِ الجثثِ/ وما تبقى من الأحياء من بينِ الأنقاض/ كان الطفل الصغير منهمكاً بانتشال دراجته/ ومتمتماً بالدعاء أنْ لا يكون قد حدثَ لها أيُّ مكروه".

يوجب الشاعر ضرورة تذكر أن أصابع أطفال درعا، الذين أشعلوا شرارة الثورة، من ذهب. وهم الذين كتبوا في أبريل/شباط 2011 على الجدران شعارات تطالب بالحرّية وإسقاط النظام، فكانت بؤرة تفجّر حقد النظام وجنونه. كما ينوّه إلى أهمية أن ينهض العالم بواجباته الإنسانيّة كي لا يظل كجسد تلك الطفلة الشهيدة بلا رأس، وكي لا يفقد إنسانيّته كالقاتل الذي لا يفكّر بأحد.

"ملاك طائر" قصائد عبارة عن قصص وحكايات ومشاعر وتخيّلات أطفال سوريا، وهي صرخة لإنقاذ الطفولة المهدورة، ولفت الأنظار إلى مأساة متعاظمة ينبغي استنفار القوى لإيقافها، أو الحد من تداعياتها الخطيرة التي تؤثر على أجيال لاحقة، وتتسبّب لها في تشوهات وشروخ عميقة يصعب الشفاء منها بسهولة.

المصدر : الجزيرة