رواية "حيوات أخرى" وظلال حرب لا تنتهي

غلاف رواية " حيوات أخرى" لإيمان حميدان
undefined
أنطوان جوكي-باريس
 
لا يفسّر شغف الفرنسيين بالروايات العربية وحده الاهتمام الذي تناله الكاتبة اللبنانية إيمان حميدان في الساحة الأدبية الفرنسية. فموهبتها السردية الأكيدة هي التي دفعت دار نشر "فرتيكال" الباريسية مؤخّراً إلى إصدار روايتها الثالثة "حيوات أخرى" (ترجمة ناتالي بونتان)، بعدما أصدرت روايتيها السابقتين "باء مثل بيت… مثل بيروت" (2004) و"توت برّي" (٢٠٠٨).

وفي نصها الأخير تعود حميدان إلى صيف ١٩٩٥ لتروي قصة لبنانية درزية تدعى ميريام نجدها منذ الأسطر الأولى تتحضّر لمغادرة زوجها الإنجليزي كريس ومدينة مومباسا (كينيا) والعودة إلى بيروت التي غادرتها منذ خمسة عشر عاما.

أما أسباب رحيلها فتتجلى لنا تدريجيا، وتتراوح بين فشل زواجها ومرض صديقة طفولتها العضال وإمكانية استعادة منزل والدها من العائلة المهجّرة التي احتلته وتصفية حسابات قديمة مع الحرب اللبنانية التي مزّقت عائلتها وأحلامها، من دون أن ننسى أملها في العثور على حبيب قديم لها اختُطف أثناء الحرب وبقي مصيره مجهولاً.

وبسرعة يتبيّن لنا أن ميريام من عائلة مبتورة ومتصدّعة. فوالدها على شفير الجنون منذ أن أُصيب بشظية في رأسه، وأمّها توقّفت عن الكلام منذ أن توفّي ابنها الوحيد بقذيفة حوّلته إلى أشلاء. وعلى أثر هذه المأساة، هاجرت مع والدَيها إلى أستراليا حيث أمضت أربع سنوات قبل أن تنتقل إلى كينيا بعد زواجها من كريس.

تركز الرواية على حقيقة مؤلمة مفادها أن السفر إلى بلد آخر والسكن في منزل جديد لا يكفيان للتخلّص من الخوف الذي نختبره داخل الحرب

حاضر شوهه الماضي
باختصار، عاشت ميريام ظروفا مأساوية في صباها غيّرت مسار حياتها فتحوّلت من امرأة تحلم بالمستقبل إلى امرأة تمضي وقتها في ترميم حاضر شوّهه الماضي، وإلى امرأة بلا عادات، باستثناء عادة وحيدة نابعة من شعورها الثابت، منذ رحيلها، بأنها في إقامة مؤقّتة، أينما حلّت. ففي منزلها بمومباسا، نجدها تترك حقيبة يدها في المدخل وحقائب سفرها جاهزة كما لو أنها على وشك الرحيل مجددا أو كما لو أنها في زيارة سريعة داخل منزل للغرباء.

وتعود هذه العادة في البقاء متأهّبة للرحيل إلى حالة بيروت خلال الحرب، وإلى ذاكرة الملاجئ، وإلى تنقّلها من مكانٍ إلى آخر أكثر أمانا. عادةٌ بقيت فيها ولم تغادرها طوال السنوات التي أمضتها بين أستراليا وكينيا، بل حولت حياتها إلى قصص متمايزة لا تتلاقى أو تتقاطع إطلاقا، وإلى حيوات عاشتها في أمكنة مختلفة وكان مصدرها دائما رغبات مفرطة وفائضة لا يمكن لشخصٍ واحد تلبيتها. حيوات كانت ميريام دائما مستعدة لفتح قوسَين لكل منها في قلبها. وهو ما يفسّر جزئيا فشل زواجها.

لكن ثمة سببا آخر لهذا الفشل وهو أن الزوج كريس عاش حياته وشيّد قناعاته من منطلق أن ما اختبره وتعلّمه هو الحقيقة المطلقة التي لا نقاش فيها، في حين فقدت ميريام ثقتها باكرا في أي قناعة أو يقين إلى حد أصبح وجودها فيه موضع شك وتساؤل دائمَين.

وتركّز رواية حميدان على حقيقة مؤلمة مفادها أن السفر إلى بلد آخر والسكن في منزل جديد لا يكفيان للتخلّص من الخوف الذي نختبره داخل الحرب. فهذا الخوف يستقر فينا ويتطلّب التخلص منه بتر جزءٍ منا. وفي هذا السياق، تتساءل الروائية عن معنى أن نهاجر وأن نذهب للانتماء إلى بلد آخر وإلى حضارة أخرى.

فقد نظن أننا أنقذنا أنفسنا بالهروب ومحاولة تشييد حياة أخرى. لكن في لحظةٍ ما، ينهار كل ما شيّدناه ونعود إلى ماض اعتقدنا أنه توارى أو ظننّا أننا نسيناه أو رميناه في مكان ما تحت طبقات سميكة من الذاكرة.

حميدان تعتبر في روايتها أن التاريخ ما برح يكرّر نفسه في لبنان. أما السبب فلا يعود فقط إلى فقدان اللبنانيين ذاكرتهم طوعا بل إلى طبيعة المكان، وإلى أرض بلدها المقطّعة الأوصال وغير المكتملة والمكرّرة مثل خطوط الكتابة

ذاكرة لبنان
وعلى لسان ميريام تقارب حميدان مواضيع أخرى كثيرة، كمسألة السلام الهش والكاذب في لبنان الذي تعود أسبابه في نظرها إلى امتناع اللبنانيين عن مساءلة رجال المليشيات عن مفقودي الحرب وأماكن تواريهم وعن القتلى وطُرُق قتلهم: "كما لو أن الأرض ابتلعتهم. كما لو أنها ابتلعت المجرم والشاهد والدليل…ممنوع علينا أن نتذكّر، أو حتى أن نذكّرهم بوجوههم السابقة".

وتعتبر حميدان في روايتها أن التاريخ ما برح يكرّر نفسه في لبنان. أما السبب فلا يعود فقط إلى فقدان اللبنانيين ذاكرتهم طوعا بل إلى طبيعة المكان، وإلى أرض بلدها المقطّعة الأوصال وغير المكتملة والمكرّرة مثل خطوط الكتابة، وإلى مدن هذا البلد التي تموت ولا تجد مَن يدفنها.

ولا تتوقف الروائية عند هذا الحد بل تنقضّ على بعض التقاليد البالية التي ما زالت فاعلة داخل الطائفة الدرزية، والمجتمع الشرقي عموما، كمنح حقّ الكلام والكتابة  للرجال فقط وحجبه عن النساء، أو تزويج المرأة عنوة إلى أحد أقربائها بغض النظر عن مشاعرها وحقّها في الحب وفي اختيار رفيق دربها، كما هو حال والدة ميريام، أو إخفاء الرجال مشاعرهم تجاه أبنائهم، كما هو حال والد ميريام مع ابنه الذي مات من دون أن يسمع كلمةً رقيقة منه، مما دفع هذا الأب إلى حافة الجنون.

على شكل ذكرياتٍ عاطفية وحميمة مسرودة وفقا لمنطق دائري واستطرادي وبأسلوب نثري غنائي قويم، تجمع حميدان شذرات مبعثرة من ذاكرة امرأة تذكّرنا كثيراً بها. فالاثنتان مولودتان عام ١٩٥٦ داخل عائلة درزية، والاثنتان اختبرتا المنفى بعد جحيم الحرب. ويكشف هذا التشابه استخدام الروائية عناصر من سيرتها الذاتية لتشكيل روايتها، وبالتالي يفسّر وقع هذا النص القوي على نفوس قرّائه.

المصدر : الجزيرة