الرواية العربية بين الإبداع والمؤانسة

جانب من الكتب في معرض الكتاب العربي
undefined
عبد العزيز بركة ساكن
 
المتأمل في الروايات المنشورة هذه الأيام في السودان وكثير من الدول العربية، يلاحظ أن هنالك خلطا كبيرا فيها بين ما هو سرد فني، يمكن تصنيفه عملا أدبيا ثم تجنيسه رواية، وبين ما هو سوى تسجيل لثرثرة يومية أي "مؤانسة".
 
هذا يثير سؤالا قديما حديثا عن علاقة الواقع بالعمل الفني، فالواقع في طبيعته المعطاة ليس فنيا، أي أنه ليس سرديا جماليا، في كل تمظهراته، من ناحية الصورة ومن ناحية الحكاية، واللون والصوت وغير ذلك.
 
لا نقول إن تمظهرات الطبيعة حولنا ليست جميلة، ولكنها لا تصبح عملا فنيا بمجرد نقلها، وهذه الصورة واللون والصوت والحكاية والزمن، أدوات في يد الفنان -بوعي وبغير وعي- لتتحول إلى عمل فني بديع، يتحمل القراءات المتعددة، بعدد المتلقين، بل حتى بالنسبة للمتلقي الفرد تتجدد القراءة وتحدث متعة في النفس، وأسئلة. وهذا عين الجمال.
 

إذا ظل الخيال بعيدا عن العمل الروائي، ولم يعمل فيه بنسب متفاوتة، سيبقى العمل المكتوب إما تاريخا أو نكتة أو تسجيلا لأسطورة، أو سيرة ذاتية، أو تسجيلا لأسطورة

بذلك تصبح الرواية هي فن سرد الحكاية وليست الحكاية ذاتها، واللوحة هي أيضا صورة الشيء كما عكسه الفنان وليس الشيء ذاته، إن صورة الإنسان أو الحيوان أو المنظر الطبيعي ليست عملا فنيا، ولكنها تبقى كذلك بعد أن يعمل فيها الفنان بأدواته، وهذا من البدهي والمعروف.

أقرأ في العادة كل الروايات التي أحصل عليها من المكتبة، لروائيين شباب أو كبار، وأحبذ الأعمال الصادرة حديثا، وأهتم أكثر بالكتابات السودانية الحديثة والأسماء الجديدة في الرواية بالذات، ولاحظت أن بعض الأعمال جميلة وجيدة.

ولكن البعض منها بالرغم من أنها كُتبت في زمن به هاروكي موركامي، وباولو كويلو، وغارسيا ماركيز، وأورهان باموك، في وقت بلغت فيه الرواية شأوا بعيدا من ناحية التقنيات السردية والجمالية، فإن الكثيرين يحاولون أن يبدؤوا من الصفر، وينتجوا حكايات يومية بذات أدوات سردها الشفهية، فتصيب الرواية القارئ بالنعاس الشديد، كما تفعل الأحاجي التي تحكى لتنويم الأطفال، ويمكن تسميتها أشباحا أو قرائن للرواية. وقد سألتُ أحدهم ذات مرة، لم لا تقرأ ما كُتب أو يُكتب حتى تكون مواكبا، فقال إنه يريد أن يكون أصيلا وأن لا يتأثر بأحد!

يُعجب بعض الكتاب بالنكتة، ومع أن للنكتة أدواتها وطبيعتها، يقومون بكتابتها في شكل قصة قصيرة، البعض قد تستهويه حكاية سمعها في محفل ما -حكاية مدهشة- ويقوم بكتابتها كما هي، والبعض قد تستميله الأسطورة أو الحادثة التاريخية أو السيرة الشعبية أو السيرة الغريبة لأحد الأشخاص، الذين سمع عنهم أو عايشهم، وكل ذلك ليس سوى سرديات الطبيعة اليومية، والرواية هي عمل الخيال، أقصد أنها ابنة الخيال المدللة، الذي يثار في أحيان كثيرة بذلك اليومي السابق الذكر.

وإذا ظل الخيال بعيدا عن العمل الروائي، ولم يعمل فيه بنسب متفاوتة، سيبقي العمل المكتوب إما سيرة ذاتية، أو تاريخا، أو نكتة، أو تسجيلا لأسطورة.. أي أنه يحاكي الطبيعة، أقصد أن يقوم الكاتب بما تقوم به الكاميرا أو أداة التسجيل وفي الواقع هي أكثر براعة منه وأكثر دقة، ولا يكفي أن يكون هنالك راو لكي يصبح العمل رواية فنية مبدعة.
كثير من الروايات التي كتبت على عجل لتؤرخ لثورات الربيع العربي التي لم تكتمل إلى الآن، كان أكثرها عبارة عن تسجيل لثرثرة الثوار أو الحوادث التي وقعت

وهذا الخطأ وقعت فيه أخيرا كثير من الروايات التي كتبت على عجل لتؤرخ لثورات الربيع العربي التي لم تكتمل إلى الآن، فكان أكثرها عبارة عن تسجيل لثرثرة الثوار أو الحوادث التي وقعت لهم والتغيرات الفعلية على أرض الواقع، وفي الحقيقة كان هم البعض إدراك سوق الثورات لا أكثر. 

هذه السوق مربحة وكبيرة، حيث حدثني صديقي المترجم البلجيكي الأستاذ إغزافيه لوفان، أن كثيرا من دور النشر الفرنسية المتخصصة في الترجمة من العربية، لا تقبل نشر الأعمال المترجمة هذه الأيام ما لم تكن عن الربيع العربي، وبعض المترجمين الأوروبيين أيضا يفضلون أن يكون العمل الروائي عن الربيع العربي، والكتاب العرب يعون ذلك جيدا، فهذا هو مزاج القارئ الأوروبي الآن، أو ما يحب أن يقرأه من أعمال عربية.

لست من الذين يفرضون شكلا معينا للرواية، ولا تعريفا محددا لها، ومع حرية التجريب إلى أقصى حد، ولكن يظل الحكم هو القارئ، المتذوق للعمل الفني، وعلى الكاتب أن يختار جنس الكتاب، أن يكتب عليه رواية أو شعرا أو ما شاء، هذا شأنه وله مطلق الحرية في ذلك.

والقارئ في ظل سوق الكتاب المفتوحة، حيث تتوفر كل الأسماء الصغيرة والكبيرة، وكل العناوين الحديثة والقديمة، سيختار العمل الذي استطاع أن ينافس وأن يبقى، أي العمل الملتزم بالشروط الفنية التي تجعل منه شيئا ذا قيمة يدركها القارئ، وهذه الشروط في تغير وتحول دائمين. ولا أظن أن القارئ يجامل أحدا.
_______________
روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة