مثقفو السودان والمصنفات الأدبية والفنية

لمقال الكاتب عبد العزيز بركة ساكن - القضية المثارة اليوم في الأوساط الأدبية السودانية حول رفض إجازة أعمال لشعراء سودانيين كبار، يبدو أنها ستمر كسابقاتها دون دروس مستفادة
undefined
عبد العزيز بركة ساكن
 
الجدل الدائر في الأوساط الأدبية في السودان هذه الأيام نتيجة لرفض لجنة النصوص إجازة أعمال لشعراء سودانيين كبار لهم تجارب طويلة في الكتابة أثار شجون قضايا الحريات من جديد، وبيّن أن المثقفين لم يستفيدوا من إشكالات سابقة بشأن هذا الموضوع، وأنهم يلدَغون من الجُحر ذاته مرارا.

في نظرة سريعة لملف الكتب المحظورة في السودان، الذي بدأ فعليا في العام 2005، نجد أن القائمة ضمت عناوين مختلفة منها الثقافي والسياسي والاقتصادي، وهي قائمة يصعب الإحاطة بها. بدأت الحملة بمجموعتي القصصية "على هامش الأرصفة"، ثم رواية "أماديرا" للروائية أميمة عبد الله، كما صودرت رواية صنع الله إبراهيم "نجمة أغسطس" الصادرة عن دار شهدي للكتاب التقدمي بالخرطوم.

ولم تسلم حتى الروايات المنشورة في الشبكة العنكبوتية، فحظرت رواية محسن خالد "تيموليلت"، التي صدرت في حلقات على موقع "سودانيز أونلاين". وفي معرض الخرطوم الدولي للكتاب 2007 تمت مصادرة بعض العناوين من دار عزة السودانية، في حين قبض على اثنين من عمال مكتبة مدبولي المصرية بتهمة الإساءة إلى الدين، عندما وزعا كتاب "أم المؤمنين تأكل أولادها" الصادر في القاهرة.

في نظرة سريعة لملف الكتب المحظورة في السودان نجد أن القائمة شملت عناوين في مجالات مختلفة منها الثقافي والسياسي والاقتصادي، وهي قائمة يصعب الإحاطة بها

كما تم حظر المجموعة القصصية "رحلة الملاك اليومية" للروائي والقاص عيسى الحلو الصادرة عن دار "مدارك"، ثم أجيزت لاحقا بعد تقرير إيجابي تقدم به الأستاذ الروائي إبراهيم إسحاق، كما تم حظر ما أطلق عليه البعض مجموعة قصصية الموسومة بعنوان "بنات الخرطوم" لسارة منصور، كما صودرت رواية "الجنقو مسامير الأرض" في 2010.

توالت قائمة المصادرات لتشمل أيضا الكتاب السياسي "الحركة الإسلامية السودانية، دائرة الضوء.. خيوط الظلام" للكاتب الإسلامي المحبوب عبد السلام. ولم تسلم حتى الكتب العلمية، فقد صادرت السلطات كتاب "مشروع الجزيرة وجريمة قانون سنة 2005" للكاتب الصديق عبد الهادي أبو عشرة.

في العام 2011 حظرت السلطات كذلك 17 كتابا لدار عزة السودانية، كان يفترض أن تكون ضمن معرض الخرطوم الدولي للكتاب، منها "مراجعات إسلامية" للدكتور حيدر إبراهيم، وتم أيضا حظر كتب الأستاذ محمود محمد طه، إلى جانب عنوانين أجنبيين وكل كتب الشيعة.

في ضوء تجربتي الحزينة مع المصنفات الأدبية والفنية، يمكن تلمس الطرائق الغريبة التي يتم بها الحظر. فقد قامت وزارة الثقافة متمثلة في الخرطوم عاصمة للثقافة العربية بطبع ونشر مجموعتي القصصية "على هامش الأرصفة"، ثمَّ قامت وزارة الثقافة ذاتها بعد أيام قلائل بمصادرتها وجمعها وإخفائها إلى يومنا هذا.

جاء ذلك على الرغم من أن اللجنة التي أُنشئت للفصل في الأمر برئاسة المرحوم الأستاذ عون الشريف قاسم كان لها رأي إيجابي من خلال التقرير الذي كتبه الشريف، حيث أكد جودة العمل الأدبي المقدم إليها، ولكن في حوار مع وزير الثقافة في ذلك الزمان، أكد لي أن سبب مصادرة مجموعتي القصصية هو "لغتها الخادشة للحياء العام"، وعندما ذَكرّته بقصيدة له شهيرة تخدش الحياء العام والخاص معا، تبين له وللحاضرين أن سبب المصادرة كان شيئا آخر لا علاقة له باللغة أو الأدب.

والموقف الآخر هو مصادرة رواية "الجنقو مسامير الأرض" في 2010، بعد أن نالت جائزة الطيب صالح من مركز عبد الكريم ميرغني، وظلت إدارة المصنفات تماطل في ذكر الأسباب الداعية لحجبها من التوزيع، بعد أن تمت طباعتها في مصر، وفي الأخير تبين أنّ سبب المنع هو مخالفة "الرواية" -وليس الكاتب- للمادة 15 من قانون المصنفات الأدبية والفنية.

حصل شبه إجماع  بأنّ قانون المصنفات المذكور لا أهمية له، وأن الأصل هو حرية الكتابة والنشر والتعبير، وأن القانون الجنائي السوداني يكفي للفصل في القضايا التي تنجم عن سوء استخدام المبدعين للحرية المعطاة لهم

عندما عُرضت القضية في المحاكم وأظهرت مجريات الأمور أن ذلك ليس سببا دستوريا أو منطقيا، أفرجت المصنفات عن اللائحة السرية للمحكمين الذين أولت إليهم أمر البت في مصير رواية "الجنقو" وأعمال أدبية أخرى لكاتبات وكتاب سودانيين منها نصان للقاصة والصحفية الراحلة أزاهر كمال.

كان الأمر أقل ما يُقال عنه إنه أكبر فضيحة ثقافية في تاريخ السودان، ولو أن القائمة كان بها بعض الأبرياء، الذين وردت أسماؤهم نتيجة لالتباسات غير مبررة، لكن الموضوع كان مفجعا، وأصاب الساحة الثقافية في مقتل، وأيقظ السؤال القديم الجديد: جدلية المثقف والسلطة.

ثُم شكل الأمر شبه إجماع ثقافي بأن قانون المصنفات المذكور لا أهمية له، وأن الأصل هو حرية الكتابة والنشر والتعبير، وأن القانون الجنائي السوداني يكفي للفصل في القضايا التي تنجم عن سوء استخدام المبدعين للحرية المُعطاة لهم، أي في حالة أن يبدو أن العمل الفني قد أساء إلى شخص ما حقيقي أم اعتباري، ويستعين المُعْتدي عليه بسلطة القانون للفصل في القضية، التي فيها المُتهم بريئا ما لم تثبت إدانته، ولا يتم ذلك بأسلوب محاكم التفتيش وتخيل الإساءات كما هو الحال الآن.

والقضية المُثارة اليوم في الأوساط الأدبية فيما يخص رفض لجنة النصوص إجازة أعمال شعرية لشعراء سودانيين كبار هي تجربة جديدة، ويبدو أن المثقفين السودانيين لن يستفيدوا منها كثيرا، وستمر كما مرت سابقتها دون دروس مستفادة.

ولكن الغريب في هذه المرة هو أن أحد الذين رفضت اللجنة إجازة أعمالهم الفنية كان في يوم ما هو رئيس لجنة المصنفات الفنية والأدبية، وهو نفسه رفض أعمالا كثيرة والآن يُسقى من الكأس ذاتها بمرارة تأباها نفسه كثيرا، ونراه يحتج الآن ليس ضد القانون ولا ضد مصادرة الحريات، ولكنه يتحدث عن صياغة اللجان وتشكيلها، أي أنه قد يؤسس لمصادرة وكبت الحريات بصورة تضمن مرور أعماله هو في الأساس ولا يهم الآخرين!! والأحرى به أن ينتبه إلى أن موضوع الحريات لا يتجزأ، وأنه يجب استئصال الآلة من جذورها بدلاً من ترميمها وطلاء وجهها العابس القبيح بألوان ضاحكة.

فقد أصبحت المصنفات مثل آلة العقاب في قصة فرانز كافكا، التي تأكل الجلادين أنفسهم. هل يحتاج المثقف لهذا النوع من التناقض لكي يعيش، بأن يصبح وفقا لموقعه كمبدع داعية للحريات وأن يكون هو الآلة ذاتها التي تقتلع حريات الآخرين؟ أليس ذلك نوعا من انفصام الشخصية؟

المصدر : الجزيرة