أدب المقاومة بين الواقعية والبطولة

تعاملت الكتابات الجديدة مع المقاومة كقيمة إنسانية، وكتبت عنها كما ينبغي أن يكتب، لا كصورة مثالية تسد عجزنا وإحباطاتنا المتلاحقة

يوسف ضمرة

في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، شاع مفهوم الالتزام في الأدب ولكن، تبين لاحقا أن هذا المفهوم تم تجريده من جمالية الكتابة لصالح الجانب التحريضي والشعاراتي.

لقد جرى إنزال الأدب من أقصى درجات الوعي الاجتماعي، إلى مرتبة الشعاراتية والخطابية المنبرية. وكان لزاما والحال كذلك، أن تتنحى جماليات الكتابة الفنية جانبا، وأن يتم تجاوز الطبيعة الإنسانية أيضا لصنع نماذج بطولية خارقة.

كان البطل الفلسطيني خارق الشجاعة ومضحيا وباذلا الروح في سبيل قضيته، ولم تكن له أي اهتمامات أو هواجس أو أحلام بشرية بسيطة وعادية ويومية كالآخرين. أي أنه تمت صناعة صورة نمطية مقولبة كان الخروج عليها يعد ضربا من التابو الأدبي أو الثقافي والنضالي.

ماهية البطولة
لم نفكر في شخصية البطل باعتباره إنسانا فيه شيء من الشجاعة والخوف والرغبة، وفيه شيء من القوة والضعف، ولديه كبقية البشر طموح الاستقرار على هذه الأرض. فقط اكتفينا برسم صورة شخص" سوبر مان " مؤطرة، وعلقناها على قلوبنا قبل جدراننا وحاراتنا وأزقتنا في المخيمات.

كان الشهيد بطلا، من دون أن نعرف شكل هذه البطولة أو طبيعتها أو ماهيتها، حتى لو مات خطأ برصاصة أحد رفاقه، ولم نعرف حجم البطولات التي اجترحها لكي يصبح" الشهيد البطل".

يكفي للفلسطيني في الكثير من المنتجات الأدبية أن يموت لكي يحصل على لقب البطولة، حتى ولو لم يقاتل، وحتى لو اعتراه الضعف في موقف ما. هذا كله لم تفكر فيه الكتابة في تلك المرحلة، فكان أن أنتجنا أدبا شعاراتيا نمطيا متشابها، تتغير فيه الأسماء، وتبقى الثوابت الأساسية من دون مس.

فالبطل قادر على التصدي لجيش أو فرقة. وهو لا يفكر في حاجاته الإنسانية كالآخرين، لأن في ذلك انتقاصا من بطولته، التي كانت تحتم عليه التنكر لغرائزه وهواجسه الإنسانية، لأن وجودها يتسبب في نقص البطولة.

كانت المشكلة هنا، هي أن موضوعا كالقضية الفلسطينية، لم نستطع أن نبلوره ونشكله كخزان ضخم لكتابة جمالية عالية، الأمر الذي أساء إلى القضية نفسها قبل أن يسيء إلى الأدب.

لاحقا، وعندما قرأنا آداب أميركا اللاتينية، وبعض الآداب الأوروبية المقاومة، اكتشفنا كم كنا بعيدين عن صون قضيتنا في الكتابة، واكتشفنا كم نحن ساهمنا في إضعافها، لأن تلك الآداب الأخرى قدمت أبطالها وقضاياها كما ينبغي لها أن تكون، لا كما تحب لها أن تكون.

شكلت تلك الكتابة ربما تعويضا عن الشعور بالهزيمة والإحباط والخيبات المتلاحقة. وكانت المقاومة على الأرض تربة خصبة لزراعة أمنياتنا وطموحاتنا وأحلامنا التي عجزنا عن تحقيقها موضوعيا.

 بيروت أصبحت مقصدا للكتاب والأدباء العرب، لأن الماكينة الإعلامية للمقاومة تمكنت من فرض منهجها ورؤيتها الفنية في الكتابة على امتداد مساحة العالم العربي كله

مرحلة بيروت
وقد انعكس ذلك كله على الكتابة العربية، ولم تقتصر على الفلسطينية منها، بحيث أصبحت بيروت في مرحلة ما عاصمة الكتابة الجماهيرية، مما تسبب في تغييب كتابات أخرى قليلة كانت تحاول الوقوف على قدميها.

وقد أضحت بيروت في تلك المرحلة  مقصدا للكتاب والأدباء العرب، لأن الماكينة الإعلامية للمقاومة تمكنت من فرض منهجها ورؤيتها الفنية في الكتابة على امتداد مساحة العالم العربي كله.

وأدى ذلك إلى التحاق العديد من الكتاب والأدباء والشعراء العرب بفصائل المقاومة وبعض الأحزاب اليسارية، التي نجحت في تسويق كتابها، بغض الطرف عن السوية الفنية.

هكذا تراجعت الكتابة العربية في بلدان عدة، وأصبح المنتج الأدبي القادم من بيروت هو الممثل الشرعي والوحيد للكتابة والأدب. والحقيقة أن المقاومة الفلسطينية لم تكن البادئة، فقد سبقتها الأحزاب الشيوعية العربية واليسارية على اختلاف أطيافها.

وقد خيل للبعض، أن بزوغ نجوم مثل بدر شاكر السياب والبياتي ويوسف إدريس وحنا مينه وغسان كنفاني بعد ذلك، إنما هو عائد إلى انتمائهم إلى هذه الأحزاب التي تحولت إلى رافعة لأسمائهم. وتناسى هؤلاء أن كثيرين غيرهم كانوا ينتمون إلى هذه الأحزاب، ولم تتمكن أحزابهم من أن تشكل رافعة لأسمائهم.

صحيح أن بعضهم استفاد مرحليا، ولكنهم سرعان ما انطفؤوا بعد حين، فالشاعر معين بسيسو مثلا كان عضوا في الحزب الشيوعي ثم في منظمة التحرير الفلسطينية، وكان اسمه لامعا إلى حد كبير، لكن شاعرا مثل محمود درويش، تمكن خلال وقت قصير من الارتفاع والصعود، إضافة لأسماء أخرى مثل أمل دنقل وعبد الرحمن منيف وآخرين.

خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 شكل امتحانا موضوعيا للكتابة العربية، فتساقطت أسماء كتاب وأدباء وشعراء، وحلت مكانها أسماء جديدة مختلفة

خروج المقاومة
وإذا كان حنا مينه تمكن من الصعود بمساعدة الحزب الشيوعي، فإن كتاب الستينيات في مصر، تمكنوا من الصعود بمقدار مواز في فترة قصيرة، قبل أن يتمكنوا من القفز فوق اسم حنا مينه وأمثاله الآخرين.

لقد شكل خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 امتحانا موضوعيا للكتابة العربية، فتساقطت أسماء كتاب وأدباء وشعراء كانت تملأ الدنيا صخبا وضجيجا، وحلت مكانها أسماء جديدة مختلفة، ليس في الحروف فقط، وإنما في الرؤية الأدبية والثقافية والسياسية والجمالية، الأمر الذي مكنها من أن تتبوأ صدارة المشهد الثقافي العربي.

كما عادت مدن مثل القاهرة ودمشق لتلعب دورها الرائد في الحياة الثقافية العربية، وتقدمت مدن عربية أخرى مثل عمّان لتحتل مساحة جيدة من المشهد العام، إضافة إلى الشارقة وأبوظبي، من دون أن ننسى الدور الذي أخذ المغرب العربي يلعبه ثقافيا وأدبيا بعد انغلاق على منتجه الثقافي دام عقودا عدة.

لقد تبين لنا أن المقاومة ليست موضوعا لا يصلح للكتابة، بل هو من أكثر الموضوعات والقضايا ثراء في التجربة الكتابية. ولكننا اكتشفنا أن أدب المقاومة لا يقتصر على بطل يعبر النهر ويجابه فرقة من جنود الأعداء وحيدا ويعود منتصرا.

بل إن هذا النمط من الكتابة ساهم في خلق فجوة بين المقاومة والكتابة، والتعبير عنها يتم بطريقة صبيانية بعيدة عن الواقعية.

وقد انتبهت الكتابات الجديدة، إلى ذلك وتعاملت مع المقاومة باعتبارها قيمة إنسانية، وكتبتها كما ينبغي لها أن تكتب، لا كما ينبغي لنا أن نحب لها أن تكون، كصورة مثالية تسد عجزنا وإحباطاتنا المتلاحقة.

المصدر : الجزيرة