الأعرج: حررت الأمير من الأسر
الاحتفاء طقس يرافق الأعرج، فمنذ "أوجاع رجل غامر صوب البحر" و"وقع الأحذية الخشنة" حفر واسيني اسمه في تيار الإبداع العربي حتى صار واحدا من أهم الأسماء العربية خلال العقدين الأخيرين على الأقل. وهو حاضر بهذا القدر أو ذاك في المشهد العالمي، فكتبه تترجم إلى اللغات العالمية وتلقى إقبالا، ربما لأنه يكتبنا كما نحن، مع فرق البنية الفنية الفائقة التعبير.
إنه صاحب مشروع يتطاول في آفاق العصر الحداثي، وأقدامه ثابتة في "ألف ليلة وليلة" والتاريخ السردي العربي عموما. لغته العربية بدأت في مدارس القرآن، واختار أن يبشر بهوية أصيلة تنفتح على ثقافات العالم، تمنح التسامح، ولا تغمض العينين عن الظلم والعطب البشري.
هنا الحوار:
دعنا نبدأ من حديث الجوائز، كُرّم إبداع واسيني الأعرج في دول ومناسبات مختلفة، فأنت حاصل على جائزة الرواية الجزائرية، وجائزة الشيخ زايد للرواية، ألا تخشى من الأمراض الثقافية التي ترافق الجوائز؟
وغير هذه الجوائز، في إيطاليا وهولندا وفرنسا وقطر وغيرها. المشكل ليس في أية جائزة ولكن فينا. في استيعابنا للجائزة. الجائزة هي التفات أولا نحو نص لم يمر باردا بالنسبة للقارئ المتخصص أو نحو كاتب ترك ملمسا ما على الحياة الأدبية والثقافية المحلية والعالمية.
ليست الجوائز شيئا آخر غير ذلك. وهي حالات جميلة ولكنها طارئة في الزمن والمكان وسرعان ما نجد أنفسنا أمام عزلة الكتابة القاسية والجميلة في الآن نفسه. فهي الأبقى والأكثر ثباتا واستمرارية.
في الجائزة شيء من الصدفة على الرغم من أنها محكومة بمنطق لجنة تستحق الاحترام لأنها اشتغلت واضطرت أن تحكم على الرغم من قسوة ذلك. كنت في العديد من الجوائز آخرها جائزة الشيخ زايد وأعرف جيدا ما معنى أن تحكم عندما تكون أمام نصوص عالية القيمة.
المؤكد أن هناك أمراضا تملأ وسطنا الثقافي ولكن كما يقول المثل العربي "كل إناء ينضح بما فيه". أنا عندي تفريق واضح في دهني بين الكتاب Ecrivains والكتبة écrivants . الأول يحمل صفة النبل وتقدير صفة الكاتب التي هي استحقاق يكتسب بالجهد المضني والتواضع الدائم، بينما الثاني صفة البهرج والكذب، وهي لا تهمني أبدا.
روايتك "الأمير"، أثارت إشكالات عدة سواء على المستوى الثقافي الإبداعي، أو السياسي التاريخي، هناك أصوات تقول إن الأعرج بالغ في "فنيته" الروائية على حساب الواقع والتاريخ، فالأمير عبد القادر الجزائري بطل ورمز عربي وإسلامي ولا يحق لأي روائي أن يقوّله ما لم يقل، أو أن يضعه في قالب عصري وينطقه بأحوال ومواقف تعبر عن الروائي وليس عن الأمير نفسه، فضلا على أن الجزائري أصلا شخصية مركبة وخلافية.. كيف ترى المسألة؟
أكبر انتشاء أشعر به هو أن رواية كتاب الأمير، حركت وضعا جامدا وقاتلا وضع فيه الأمير وكاد يخنقه. لقد بدأ في السنوات الأخيرة نقاش كبير ومتناقض عن الأمير وعشرات الكتب صدرت عنه وكان للرواية دور في ذلك.
المشكل أن الذين قالوا هذا الكلام لم يأتوا بشيء جديد ومن بينهم مؤسسة الأمير عبد القادر والأميرة بديعة وحراس المقام. قادة المؤسسة حاربوا كل من اقترب من الأمير. فقد جمعت في داخلها ناسا موظفين لا يهمهم توريث هذه الشخصية للأجيال القادمة بالشكل الإنساني.أعادوا إنتاج الصورة النمطية عن الأمير، ولم يأتوا بشيء جديد في مصلحة هذه الشخصية الفذة. أصبحوا حماة الصورة الميتة للأمير.
الرواية أدخلت نوعا من الدينامكية والحياة في الأمير وحررته من سلطان هؤلاء الذين حولوه إلى سجل تجاري وماركة مسجلة ونسوا أن الأمير هو أولا وأخيرا شخصية وطنية، ملكا لكل الجزائريين حتى الذين لا يحبونه.
أدخلت الأمير في فكرة حوار الحضارات والأديان من خلال حياته ولقائه الحقيقي بمونسينيور ديبوش القس المسيحي الذي ظل يدافع عنه حتى وفاته وحتى أطلقه من سجنه. لم أضف أي شيء من عندي تجاه الأمير. على مدار أربع سنوات كونت صداقة رائعة مع الأمير لدرجة أني بينت بعض سلبياته لأنه إنسان عظيم.
ظل الأمير في كتاب الأمير كما كان دائما في حياته ولم أضف له أي شيء من الناحية التاريخية. دخلت في أعماقه وأعماق محيطه لأفهم ردود فعله، أي في المساحات الطبيعية للرواية وهي المساحات التي لا تدخلها الرواية وهي في غاية الأهمية بالنسبة للشخصية.
تحدثت في هذا الموضوع كثيرا. في كل مرة أسأل من القراء من تكون هذه الإيقونة ذات الأوجه المتعددة التي تظهر في أغلب رواياتي؟ أحيانا أخيب ظن القراء وأفق انتظارهم عندما أقول لهم إن مريم ليست شخصية محددة موجودة في الزمان والمكان.
صحيح أننا كلنا نحمل جرحا عميقا لا شيء ولا قوة ترتقه إلا الكتابة. لكن يظل الشيء العميق في مريم، هو صورة المرأة في مختلف تحولاتها. ما زلت إلى اليوم أشعر بأن كل امرأة هي مريم في ظل الإرث الموضوع على ظهرها.
التأويلات القسرية للأديان لعبت دورا قاتلا ومؤججا لتعميق هذه التراجيدية التي علينا تجاوزها. أتعجب من ازدواجيتنا المقيتة في حبنا للمرأة وكرهها. كيف يمكن أن نقول هذا عن امرأة هي منا: حبيبتنا، أمنا، أختنا، خالتنا، صديقتنا؟؟
" واسيني الأعرج |
أولا الروائي لا يعيش في مجرة خالية من التناقضات. هو إنسان وربما أكثر من ذلك، حساسية مفرطة. أنا لم أقف ضد تيار على حساب تيار، ولو عدت قليلا إلى روايتي "سيدة المقام" مثلا سترى أن موضوع الرواية كل الذين تسببوا في الدراما الجزائرية، بني كلبون وحراس النوايا.
أنا ضد تحويل السياسة إلى حلبة للتقاتل. النفس الإنسانية عزيزة وغالية ولا يحق لأي شخص سلبها بأي سبب من الأسباب.
لا أقبل بالمظالم أبدا. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ بأي حق تمنعني من التعبير؟ بأي منطق تفرض علي تأويلك للنص الديني؟ من أعطاك التأهيل لتتحكم في حياتي وتقول لي ما يجب فعله؟ كيف تحكم على نص لم تقرأه؟ من قال لك إن قراءتك هي الأتم والأحق؟ هذه بعض أسئلتي وأسلحتي لمجابهة آلة الظلم والقتل في نصوصي الروائية.
تعرف أن أحد النقاد الجزائريين عندما كتبت رواية سيدة المقام وكانت أول رواية تثير قضية الإرهاب المكشر عن وسائل قمعية كانت ما تزال احتمالية، (قال) كيف يكتب واسيني عن راقصة باليه في وقت بلاده تحترق؟ هذا نوع من الرفاه الغربي؟
معك حق. الموت حالة عنف قاسية لا نستطيع حيالها الشيء الكثير. الإنسان ليس آلة. يتغير بتغير ما يحيط به وما يعيشه من أحداث. ولكن كيف يتغير؟ ما جدوى هذا التغير؟ عندما نواجه الموت عادة لا نفكر كثيرا فيما يجب فعله ولكن فيما فعلناه؟ بالنسبة لي العكس هو الذي حدث معي ربما لأن حبي للحياة كبير جدا.
المستقبل حتى في حالة الخطر هو العنصر الذي يربطني بالحياة والاستمرارية. ما فعلته سابقا في حياتي انتهى إلا إذا أرجعت الزمن إلى الوراء وهو أمر مستحيل، ولست قادرا على تغييره، قبيحا كان أو جميلا؟ لكن ما كان يمكن فعله هو أساس السؤال لأن تدخلي فيه لا يزال ممكنا.
تحول النص فجأة إلى رهان أو رديف للحياة. وكأن مصيري كله أصبح معلقا على اللغة. الشيء نفسه عشته عندما كادت أزمة قلبية تأخذني. وسيارة الإسعاف تخترق الشوارع الباريسية بشكل جنون في سباق محموم ضد الموت، لم أفكر في الموت الذي كان في، ولكني كنت أفكر في شيئين: روايتي سوناتا لأشباح القدس، التي تركتها معلقة ولم يبق لي منها إلا فصل صغير وعمل أقل من أسبوع.
في تاريخك الشخصي تعلمت الفرنسية قبل العربية، وارتبطت معرفتك للعربية بجدتك الموريسكية التي كانت تقرأ عليك تاريخ الموريسكيين عن طريق الحكاية، وتنصحك بالذهاب نحو اللغة العربية لمعرفة تاريخهم. فكيف تنظر إلى اللغة أهي وسيلة أم هوية؟ وهل العربية قاصرة كما يقول الفرانكفونيون؟
" واسيني الأعرج |
لهذا أيضا قصة طويلة ومتشابكة. باختصار، العربية الأدبية ليست قاصرة وهذه الرؤية كثيرا ما تكون جذورها عنصرية سواء جاءت من معربين أو مفرنسين. لا توجد لغات صغيرة ولغات كبيرة، يوجد بشر ويوجد وضع معش تشكل اللغة وسيلته التعبيرية بسهولة وفي أحيان أخرى بمشقة.
لا أعتبر هذه الازدواجية اللغوية نقيصة ولكن استثناء وحظا كبيرا لم يمنح لغيري. إحساسي باللغات جعلني أذهب نحو الإسبانية والإنجليزية لاحقا. خطابات الإقصاء والرفض تخبئ وراءها جهلا وقصورا كبيرين. منطلقي الأساسي حب وليس كراهية.
ماذا تكتب الآن في خلوتك الباريسية؟ وبماذا تعد القارئ؟