في ذكرى رحيله.. الشريف محي الدين حيدر مؤسس مدرسة العود العراقية وابن آخر الأمراء العثمانيين على مكة

كبار الموسيقيين العراقيين مثل جميل ومنير بشير وسركيس أوشو وسلمان شكر وغانم حداد تتلمذوا على الشريف محيي الدين

الشريف محي الدين حيدر
الشريف محيي الدين حيدر مؤسس أول معهد موسيقي في العراق (مواقع التواصل)

بغداد- يعد الشريف محيي الدين حيدر من أبرز عازفي الموسيقى العراقية والعربية، وله الفضل بتطوير آلة العود ومنهاجه وإطلاق تسميات جديدة للسلم الموسيقي. كما نجح في تأسيس طريقة جديدة في العزف على العود تبتعد عن المدرسة المصرية واللبنانية، وأطلق أسماء مبتكرة على السلم الأوروبي للموسيقى، وما زالت آثاره الموسيقية تدرس في المعاهد، وهو مؤسس أول معهد موسيقي في العراق.

والشريف محيي الدين علي حيدر من نسب هاشمي وابن آخر أمير عينه العثمانيون على مكة المكرمة، وذلك بعد أن أعلن شريف مكة حينها الشريف الحسين بن علي الثورة ضد الدولة العثمانية سنة 1916.

ولد محيي الدين حيدر في إسطنبول سنة 1892 ونشأ فيها، بدأ اهتمامه وميله للموسيقى في الرابعة من عمره، تعلم العزف بنفسه في سن السابعة، من خلال تأثره بالاستماع إلى كبار الموسيقيين، الذين كانوا يحضرون إلى قصر والده.

وتمكن من العزف على آلة العود بصورة جيدة جدا بعمر 13 سنة، ولحن "سماعي هزام" الخانة الأولى والتسليم والخانة الثانية. وفي سنة 1919 كتب للعود ولحن قطعا متميزة، لم تكن مألوفة لا في مؤلفات العود ولا الآلات المشابهة. استفاد حيدر من أساتذة الموسيقى علي رفعت وأحمد أفندي زكائي دده زاده من ناحية الموسيقى التركية الكلاسيكية، والمقامات وأصولها.

باغانيني العود

وسافر الشريف حيدر إلى أميركا عام 1924، وعزف أمام كبار الأساتذة والنقاد الأميركيين، وأكدوا عبقريته حين سمعوا عزفه، واتفقوا على أن الانقلاب الذي أحدثه في آلة العود يشبه الانقلاب الذي أحدثه الموسيقار الإيطالي نيكولا باغانيني في آلة الكمان.

وفي أول أسبوع من وصوله إلى أميركا أقام على شرفه أستاذ البيانو المشهور آل كودوسكي مأدبة حضرها من الفنانين العالمين كريسلر وهايفتز والبروفسور أوير وغيرهم من الشخصيات، وفي هذه المأدبة وبناء على الطلبات عزف الشريف محيي الدين حيدر على آلة العود بعض مؤلفاته الموسيقية فنالت إعجابهم.

وفي 24 أغسطس/آب عام 1924 ظهرت مقالة في "نيويورك هيرالد تربيون-قسم الدراسات" لمحت إلى هذا الاجتماع الفني، وقالت إن كلاً من كودوسكي وكريسلر قد اتفقوا على أن الانقلاب الذي أحدثه الشريف محيي الدين حيدر في آلة العود يشبة الانقلاب الذي أحدثه الموسيقار باغانيني في آلة الكمان.

ووضع محيي الدين كتابا عن العود وتعليمه، هو الأصعب في تاريخ الموسيقى، واعتمده في منهاج معهد الموسيقى في العراق الذي أسسه عام 1936 بتكليف من الحكومة العراقية، وهو ثاني معهد موسيقي في الوطن العربي، بعد معهد الموسيقى في مصر الذي تأسس عام 1914. وإضافة إلى عمله كمدير ومؤسس للمعهد، كان يدرس الطلبة آلتي العود والفيولونسيل (التشلو).

وتتلمذ على يده كبار الموسيقيين العراقيين مثل جميل ومنير بشير وسركيس أوشو وسلمان شكر وغانم حداد والشاعرة نازك الملائكة والعازفة العراقية الشهيرة بياتريس أوهانسيان، وعلي الإمام وسالم عبد الكريم.

وقد افترق عنه فيما بعد كل من جميل ومنير بشير وغانم حداد، حيث اتقنوا التقاسيم الموسيقية بعيدا عن الأسلوب التركي الذي اشتهر به حيدر، واقتربوا من المقامات والألوان الريفية العراقية.

الدكتور الباحث حبيب ظاهر العباس
العباس يرى أن الشريف محيي الدين حيدر جعل تقاسيم العود قادرة على تخطي الحدود التطريبية إلى آفاق التعبير (الجزيرة)

أفكار موسيقية عميقة

ويشير الناقد ستار الناصر إلى أن عزف الشريف حيدر نابع من أفكار عميقة في الموسيقى، والمحلل لموسيقاه يدرك الحس الفني الصادق والفكرة العميقة والمرهفة، وإن كان أحيانا لا ينسجم والقواعد القديمة، لأنه يحبذ ذلك كطريقة أفضل من تكرار القديم، وهو عازف عود متميز بأسلوبه، لأنه يمتلك قدرة على استخدام يديه اليسرى واليمنى بالمستوى نفسه وبدقة عالية.

من جهته، يؤكد الموسيقار أحمد المختار أن موسيقى الشريف حيدر تتسم بالعمق الروحي والتعبيري الجميل القادر على إنعاش الذهن والحواس، وخلق آفاق لأفكار جديدة.

ويضيف المختار في حديثه للجزيرة نت أن أعمال حيدر قريبة من ذوق المستمع، وتعكس بصدق وضع الفنان الذي يتوق إلى التحرر من سلطة الأسلوب الكلاسيكي، رغم أنه استخدم قوالب الموسيقى القديمة أحيانا لكن بمحتوى حداثي، كما أوجد تقنيات استخدمت لأول مرة في آلة العود، كتقنية مواضع الأصابع المتداخلة، والريشة المقلوبة والعلامات المزدوجة، أما روحيا فاختار مقامات مهمة لم يتناولها أحد قبله لصعوبة تأليفها.

أما الباحث الفني الدكتور حبيب ظاهر العباس، مؤلف كتاب "الشريف محيي الدين حيدر وتلامذته"، فيقول للجزيرة نت إن حيدر أثبت أن آلة العود تستطيع القيام بدور تعبيري عميق، وجعل تقاسيم العود قادرة على تخطي الحدود التطريبية إلى آفاق التعبير.

كما وضع وتر "القبا دوكاه" أسفل أوتار العود لينصب قراري "الدوكاه" وأحيانا "الرست"، واستخدم قراءة خاصة للقيم الزمنية من خلال ضربات الريشة، وأطلق تسميات أخرى على الأسماء الغربية للأوتار، مثل "ري" اسماه السيكاه و"مي" سماه عشيران و"لا" دوكاه و"صول" سماه كردان، واعتمد البشارف والسماعيات في تأليفه الموسيقي وبدقة عالية جدا، مبتعدا عن النمط الذي لا ينسجم والمدرسة الغنائية المصرية، التي جعلت آلة العود وسيلة للتطريب المتميز.

المويقار سامي نسيم صوره منه
نسيم: الشريف محيي الدين حيدر أحدث انعطافة كبيرة في مسيرة العود العراقي من خلال ريادته بالتجديد (الجزيرة)

الريادة والتجديد

في حين أشار الموسيقار العراقي سامي نسيم في حديثه للجزيرة نت إلى أن حيدر أحدث انعطافة كبيرة في مسيرة العود العراقي من خلال ريادته بالتجديد، الذي أحدث انقلابا نوعيا جديدا بتقنيات العود، وكان له ذلك من خلال دراسته المستفيضة لآلة الفيولنسيل (التشلو)، وتمكنه من نقل تقنياتها لآلة العود.

وكتب تمارين منهجية تعد مرجعا مهما للعود وفق السياق العالمي، مضاف لذلك كتابته للمقطوعات الموسيقية للطلبة، تعبر بهم لآفاق تقنية عالية أسوة بالآلات العالمية، منها الكابريسات الأول والثاني، والطفل الراكض، والطفل الراقص، وليت لي جناحا، وتأمل والسماعيات، وأطلق عليها اسم مدرسة بغداد للعود.

أما الناقد الموسيقي كمال لطيف سالم فيقول للجزيرة نت إن تأثير الشريف محيي الدين على الموسيقى العراقية كان كبيرا من خلال تلامذته الموسيقيين البارزين سلمان شكر والأخوين جميل ومنير بشير، وهم من أسس مدرسة العود العراقي.

وأضاف أن تأثيره لم يقتصر على تأسيسه لمعهد الموسيقى في العراق، وإنما لوضعه نظاما تعليميا للموسيقى، كان العراق يفتقد اليه آنذاك، ولم يكن الشريف محي الدين موسيقيا فحسب، بل رساما بارعا ومقتنياته تضمها كبرى قاعات أوروبا وأميركا وتركيا.

كما درس الحقوق والفنون في كلية الآداب، وكان متزوجا من المطربة التركية المعروفة صفية آيلا، التي تركت الغناء وكرست نفسها تماما للحياة الزوجية، وتوفي في 13 سبتمبر/أيلول عام 1967 في إسطنبول.

المصدر : الجزيرة