مسرحية بريخت بنكهة عربية.. "المشترك لا يرد" ونقد لاذع للواقع السياسي بالعراق

المخرج حاول بطريقة ملحمية زجّ جميع إمكاناته والممثلين من أجل إيصال فكرة تتمثل في ضرورة ترك الواقع كما هو من دون تحسينه، وأن على الإنسان في محنته تعرية ذلك، وأن من مهام المسرح الطليعي "ألا يهادن واقعًا مسخًا".

فرقة لكش قدمت المسرحية خلال مهرجان أقيم أخيرا في العراق (الجزيرة)

الناصرية- قدّمت فرقة "لكش" العراقية أخيرا عرضا مسرحيا مميزا ضمن مهرجان المسرح العراقي، حمل عنوان "المشترك لا يرد"، في اقتباس للعبارة التي يسمعها مستخدمو الهواتف.

المسرحية مأخوذة عن مسرحية "رجل برجل" للكاتب والشاعر والمخرج الألماني برتولت بريخت، وهي من النوع المسرحي الذي تغيب فيه المؤثرات الصوتية والبصرية، وتمكن فريق العمل من كتابة النص باللهجة العراقية، في محاولة لتكييف النصّ الأصلي لمصلحة البيئة العراقية.

وحرص فريق العمل على أن تفتح المسرحية باب المناقشة من دون الاكتفاء بالمشاهدة، وجعل المخرج المسرح بلا ستارة، واستعان بلافتات تشير إلى أماكن عدة تمثّل دلالات عراقية محاولًا تقريب النصّ الأصلي مما يحدث في العراق، عبر نقد لاذع للواقع السياسي.

مشهد من المسرحية (الجزيرة)

فكرة المسرحية

الفرقة تتخذ من مدينة الشطرة (شمال مدينة الناصرية بمحافظة ذي قار جنوبي العراق) مقرا لها، ورئيسها ومخرج المسرحية الفنان طالب خيون الذي سبق له أن ألّف مسلسل "سفينة سومر" التلفزيوني، كما أخرج عددا من المسرحيات.

يقول خيون إن "مسرحية المشترك لا يرد أعدّها الكاتب علي هاشم عن مسرحية رجل برجل لبريخت، وفكرتها الأساسية أن الإنسان يشبه السيارة التي يمكن تفكيكها بسهولة واستبدال أدواتها بأدوات أخرى ثم إعادتها إلى وضعها السابق، ولكن بأدوات أخرى".

ويضيف خيون أن "العقل يكون من بين تلك الأدوات، فتقوم دورية من الجيش الإنجليزي العاملة بالهند بإغراء حمال هندي (كالي كاي) ليتحوّل تدريجيا الى أحد جنودها المفقودين (سامي كراي)، ويكون قاتلا متناسيًا انتماءه الطبقي الإنساني".

وأشار إلى أن المسرحية فيها "غرائبية كبيرة إذ يقوم قائد الدورية بتخدير الحمّال، وبعد أن يصحو يجد نفسه شخصا آخر".

وقال خيون إن العرض يبدأ من دون ستارة مع لافتات تشير إلى أماكن مختلفة، في وجود 5 أشخاص يحيون حفلة لا يدخلها أحد، ويتبادل هؤلاء الاتهامات فيما بينهم، ويتبين لاحقا أن هؤلاء ليسوا سوى حراس الحفل الحقيقي، وتستمر الأحداث باستحواذ هؤلاء على أموال وضعت في حاويات القمامة قبل أن تتدخل شخصية "باقي" الذي يقوم بقتلهم جميعا.

ولكن أحدهم -يتابع خيون- قبل أن يموت يتمكّن من حرق إحدى الحاويات المملوءة بالأموال قبل أن يحترق الموقع بأكمله، وتتحوّل بعد ذلك المسرحية إلى عملية نقد للواقع بطريقة لاذعة وساخرة من خلال دخول "شخصية الحارس وهو يصرخ لأوّل مرّة (ليش حركتوا حلالنا ليش؟)" بمعنى "لماذا أحرقتم ممتلكاتنا؟" فيدفع ذلك باقي إلى قتل الحارس كونه رأى الحقيقة ونطق بها.

خيون: أعدت صياغة نص بريخت في ضوء معطيات الحياة المعاصرة (الجزيرة)

رسالة ومنهج إخراجي

ويعدّ بريخت واحدا من ألمع كتاب المسرح ومخرجيه الألمان وحاصل على شهادات وجوائز عديدة، وتميز مسرحه باللامألوف، وله أكثر من 17 مسرحية أشهرها "دائرة الطباشير القوقازية"، و"طبول في الليل"، و"الخطايا السبع المهلكة" من فصل واحد.

يقول خيون إن مسرحية "المشترك لا يرد" تحمل "رسالة كبيرة متّقدة نتلظى جميعًا تحت ليهبها لأن القصة أو الحكاية تقوم على تغيير الإنسان إلى سواه؛ تفكيك بريء وإعادة تركيبه شريرا"، ويمضي بقوله "أردنا تأكيد قيمة ومعنى رسالة المسرحية، التي جسد فيها بريخت فكرة أننا نسعى إلى الإنسان المثالي، وهذا الإنسان أكذوبة آفلة، تتجلّى برسائل السياسيين وأيديولوجياتهم العميقة".

يضيف خيون "أحب بريخت وهو نهجي الإخراجي، فقد أحببت النص وحدّثت فيه في ضوء معطيات الحياة المعاصرة، لأن بريخت قدّم وصفا لاشتغاله على أعمال ملحمية، من خلال بوصلة تهدي المخرجين إلى ما يطابق مجتمعاتهم على امتداد المعمورة، بخاصة أن أعماله متجدّدة في الزمان والمكان وواقعنا يحتاج الى نصّ ملحمي لنتعامل بملحمية معه".

الزيدي: المخرج عقد ربطا بين فضاء المسرح وأرضيته ليكون العرض ملحميا (الجزيرة)

معايير المسرحية

ويعتقد الأديب والناقد سعدي عوض الزيدي أن" المسرحية عملت وفق مجالين، الأول إطار صوتي نغمي، أغنية وموسيقى تترافق مع بداية تكشف عن مسرح في أقصى يمينه لافتة كبيرة تقول (صالة العمليات الكبرى)، وفي أقصى اليسار لافتة كبيرة أخرى (الكراج أو المرآب الموحد) أي محطة نقل المسافرين".

ويضيف الزيدي أن المجال الثاني "حركي يتوافق والموسيقى والإضاءة"، وأبدع فيه المخرج حين جعله هو الذي" يسيّر المسرحية من خلال حركة الممثلين التي تعيد ترتيب أشياء المسرح"، واصفا هذه الحركة والإعادة بتحريك الأشياء الجامدة؛ العربة والكراسي والطاولات "ليفهم الجمهور بذلك أن حفلا ساهرا سيكون هذه الليلة مع أغنية عراقية معروفة (الليلة حلوة وجميلة) بحناجر ما وراء المسرح".

مشهد آخر من المسرحية (الجزيرة)

بل إن الإبداع -يتابع الزيدي- حين جعل بطل المسرحية المتمثل بشخصية المقاتل ينتقل إلى مكان المعركة فيجد اللافتة "المرآب الموحد" فيوجّه كلامه نحوها، ويقول "أنت وحدك بقيت موحّدًا في البلاد"، في إشارة إلى أن "ما سواه كان مفرّقا للبلاد".

ويشير الزيدي إلى إن المخرج حاول بطريقة ملحمية زجّ جميع إمكاناته والممثلين من أجل إيصال فكرة عن ضرورة ترك الواقع كما هو من دون تحسينه، وأن على الإنسان في محنته تعرية ذلك، وأن من مهام المسرح الطليعي "ألا يهادن واقعا مسخا".

المصدر : الجزيرة