كيشلوفسكي.. شاعر السينما وفيلسوف المشهد

المخرج وكاتب السيناريو البولندي كريستوف كيشلوفسكي (مواقع التواصل)

يعتبر الفيلم السينمائي منذ بدايات ظهوره قبل أكثر من قرن من أهم الوسائل لمخاطبة عقول المشاهدين وتحريك عواطفهم، لا سيما وأنه يجمع مختلف أنواع الفنون بصورة يمكن أن تكون مثالية فيما لو أتقن صانعوه استخدام أدواتهم.

وعلى الرغم من أن صالات العرض وفّرت للجمهور على مر كل تلك العقود مئات الأفلام في شتى المجالات، فإن قليلا فقط من صناع السينما استطاعوا ترك أثر يكاد لا يندثر، ولعل من أبرزهم المخرج وكاتب السيناريو البولندي كريستوف كيشلوفسكي (Krzysztof Kieślowski)، الذي يعد واحدًا من أعظم المخرجين الأوروبيين وأكثرهم تأثيرا، إذ لا تزال أعماله تدرس في الجامعات على مستوى العالم.

من حلم المسرح إلى واقعية السينما

ولد كيشلوفسكي في العاصمة البولندية وارسو، إلا أنه لم يحظ بالاستقرار في طفولته بسبب تنقله الدائم مع والده المريض بحثا عن علاج للسل، حتى عام 1975 عندما انضم إلى كلية لتخريج فنيي المسرح، وقرر أن يصبح مخرجا مسرحيا، لكن سرعان ما تبدد حلمه بسبب عدم وجود تدريب خاص بمخرجي المسرح، ثم ترك الكلية وعمل خياطا في المسرح، وبعد حوالي 9 سنوات تمكن بعد 3 محاولات من دخول مدرسة السينما في مدينة لودز وتخرج منها عام 1968، وكان حينها قد فقد رغبته في المسرح واتجه لصناعة الأفلام الوثائقية.

ركز كيشلوفسكي في أفلامه الوثائقية الأولى على الحياة اليومية للناس العاديين كالفيلم التلفزيوني "عمال 71" (Workers 71) الذي تناول فيه مناقشات العمال بشأن الإضرابات الجماهيرية عام 1970، ثم فيلم سيرة ذاتية تضمن توثيقا لاجتماعات المكتب السياسي، وفيلم "الندبة" (The Scar) الذي أظهر فيه الاضطرابات في إحدى البلدات الصغيرة بسبب مشروع صناعي سيئ التخطيط.

مع كل فيلم جديد، كان ينخرط كيشلوفيسكي في السياسة أكثر، ليجد نفسه في صدام مباشر مع السلطات آنذاك، التي لم تتوان في ممارسة رقابة صارمة على أفلامه، فتم حظر فيلم "فرصة عمياء" (Blind Chance) لمدة 6 سنوات، ثم جاء فيلم "لا نهاية" (No End) عام 1984 ليكون أكثر وضوحا، إذ صوّر فيه الأحكام العرفية في المحاكمات السياسية في بولندا.

أفضل شيء قد يراه الإنسان

عام 1988 قدم كيشلوفسكي سلسلة "الوصايا العشر" (Ten Commandments) بوصفها من أهم الأعمال وأكثرها عمقا على الإطلاق، يقول عنها المخرج كريستوف زانوسي إنها "عمل سرمدي يتضمن الحقيقة المتعلقة بالحياة بغض النظر عن الظروف ونقاط المرجع المختلفة"، في حين اعتبرها المخرج ستانلي كوبريك "أفضل شيء قد يراه الإنسان".

تتكون السلسلة من 10 أفلام قصيرة من إنتاج التلفزيون البولندي، وحازت النسخ السينمائية لبعض الحلقات على العديد من الجوائز العالمية، حتى باتت السلسلة المستوحاة من الوصايا العشر مذهبا سينمائيا حتى يومنا هذا.

"لم ينحز كيشلوفسكي إلى سيادة الفرد بل أصر على الاتكال المتبادل بين الناس أخلاقيا وروحيا.. يتمحور العمل حول مسألة الاتكال المتبادل، سواء كان في حلقات البطولة الفردية أو في تلك التي تناولت العلاقات بين الناس"، يقول الباحث في الأفلام والآداب.

ركزت الأفلام الأربعة الأخيرة لكيشلوفسكي على القضايا الأخلاقية والميتافيزيقية، لكن بصورة مجردة أكثر، وكانت من أنجح أعماله من الناحية التجارية.

الفيلم الأول هو "الحياة المزدوجة لفرونيكا" (The Double Life of Véronique)، الذي يعتبر أكثر أعماله شعرية، كما أنه أعطى بعدا جديدا للميتافيزيقيا في السينما، وحصل الفيلم على رضى النقاد في أوروبا والولايات المتحدة ليفوز بثلاث جوائز من مهرجان كان السينمائي.

نجاح "الحياة المزدوجة لفرونيكا" سمح لكيشلوفسكي بتمويل آخر أعماله، وهو "ثلاثية الألوان" (Three Colours)، الذي حصد جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي، وجائزة الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين السينمائي، بالإضافة إلى 3 ترشيحات لجائزة الأوسكار.

إرث كبير رغم الرحيل المبكر

اعتزل كيشلوفسكي صناعة الأفلام بشكل رسمي عقب العرض الأول لفيلمه الأخير من "ثلاثية الألوان" عام 1994، بعد أن أخرج 41 عملا لا يزال تأثيرها واضحا على كثير من صناع السينما والمسلسلات.

يقول كيشلوفسكي عن أسلوب عمله "بغض النظر عن موضوع أفلامي، دائما ما تطلعت لتوحيد مشاعري أنا وجمهوري، أحب أن يشعر المشاهد بالأسف والعجز الذي أشعر به عندما أرى شخصا يبكي في المحطة، وعندما أشاهد الناس يحاولون عبثا التقرب من الآخرين، وعندما أرى أشخاصا يأكلون بقايا الطعام في المطاعم الرخيصة، وعندما أرى المرارة على وجه امرأة تملك بقعا على يديها، وأرى الذعر على وجه البشر بسبب العدالة التي لا تتحقق، أريد أن يصل هذا الألم إلى المشاهد، وهذا ما أظنني قد نجحت في جعله يتسرب إلى المتلقين".

بعد مرور أقل من عامين على اعتزاله، توفي كيشلوفسكي يوم 13 مارس/آذار 1996 أثناء إجرائه جراحة القلب المفتوح إثر إصابته بأزمة قلبية، ثم دُفن في مقابر بوفيزكي في وارسو.

المصدر : الجزيرة