فيلم "أمّي أنا في المنزل".. كيف يسبب الارتزاق الألم للمجتمع الروسي؟

بدأت الشركات العسكرية الخاصة بالظهور إلى العلن في حقبة ما بعد الحرب البادرة.

المخرج يرمي إلى تعريف المشاهد بحقيقة شركات الارتزاق وطبيعة علاقتها بالأجهزة الحكومية (مواقع التواصل)

يعالج فيلم "أمي، أنا في المنزل" (Mama, I’m Home) للمخرج الروسي فلاديمير بيتوكوف ظاهرة التحاق الشباب الروسي بصفوف الشركات الأمنيّة التي تقوم بالعمليات العسكرية المأجورة في مختلف مناطق النزاع في العالم، وأثر ذلك في المجتمع الروسي في ظل الدعم والحماية اللذين توفّرهما الحكومة الروسية لأصحاب تلك الشركات.

الفيلم من بطولة كيسينا رابابور ويوري بوريسوف، وكان عرضه الأول في مدينة نالتشيك الروسية ضمن برنامج مسابقة مهرجان البندقية السينمائي (Venice Film Festival) في دورته الـ78، ثم عاد الفيلم إلى الأضواء مجدّدًا الأسبوع الماضي بعد مشاركته في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة عن فئة (الاختيار الرسمي خارج المسابقة).

ويرى المنتج السينمائي الروسي الشهير ألكسندر رودنيانسكي أن بيتوكوف، البالغ من العمر 36 عاما، أحد المخرجين الروس الواعدين قياسًا بتجربته السينمائيّة المتواضعة التي تقتصر على فيلمين روائيين كان أولهما فيلم "أنهار عميقة" (Deep Rivers) (2018)، وثانيهما "أمّي، أنا في المنزل" (2021).

السلاح الوحيد

يروي الفيلم قصة تونيا -أم وسائقة شاحنات في مدينة قبردينو الروسية- التي تلقّت حديثا خبر وفاة ابنها زينكا في سوريا أثناء تعرّض أحد مقار الشركة الأمنيّة الروسية التي تعاقد معها لقصف عنيف صيّر جثته أشلاء لا يمكن تجميعها أو إعادتها إلى الديار.

غير أن اختفاء الجثة في ظل وجود رسالة أرسلها زينكا لتونيا بعد تاريخ وفاته المزعوم في الورقة جعل الأم تسارع إلى استنكار خبر الوفاة وتكذيبه والشروع في التخطيط لخوض معركة من أجل استكشاف حقيقة ما جرى.

ولكن سرعان ما تصطدم تونيا بجدار الكذب والمواربة الحكومية التي تجلّت أثناء زياراتها المتكرّرة لمقاسم الشرطة ومكاتب الجيش وغيرها من المؤسّسات التي حاولت الإسهام في إخفاء الحقيقة عبر تعطيل مسار البحث وتشتيته.

وبعد جولات عديدة خاضتها الأم الروسية ضد أطراف هذه المنظومة الفاسدة (مقاولو الشركة العسكريّة والأجهزة الحكوميّة) في محاولة منها لتعرية كذبهم ونفاقهم، وحين بدت أنها على مقربة من كشف سرّهم أمام وسائل الإعلام، حاولوا إسكاتها بالرشى الماليّة ولمّا لم تقبل أسهموا في طردها من عملها.

ويبدو واضحًا للمشاهد أن بيتوكوف في فيلم "أمّي، أنا في المنزل" لا يسعى إلى كشف حقيقة موت شخصية زينكا بالقدر الذي به يحاول الولوج إلى خبايا هذه المنظومة، وتعريف المشاهد بحقيقة تلك الشركات وطبيعة علاقتها بالأجهزة الحكوميّة، وبيان مقدار النفوذ الذي تتحلّى به في روسيا، وذلك من خلال تعزيز عنصر الشك مع دخول كل شخصية جديدة إلى مسرح الأحداث، وإعطاء كل حدث زخمًا كبيرًا ليبدو كما لو أنّه الحدث الأكثر أهمّية، ليكتشف المُشاهد مع تتالي الأحداث أن تلك الشخوص والمَشَاهد لم تكن إلا تمهيدًا لشيء أكبر ومواجهة أصعب ستخوضها تونيا عمّا قليل في هذه المتاهة من الأسرار.

ويعتمد المخرج على تكثيف حضور تونيا في كل مشهد، وإبراز تضارب مشاعرها من خلال الاستغراق في تصوير التفاصيل الصغيرة من رجفة اليدّ، وجفول العينين أو نظرات الانكسار التي تعقبها مباشرة نظرات التحدّي، وغيرها من ردود الفعل والتفاصيل المتناقضة التي تتناغم مع غريزة الأمومة وشراستها في أوضاع كالتي تمرّ بها تونيا، وتسهم الصراعات التي تخوضها تونيا مع الضبّاط والمسؤولين في إضفاء الطابع الدرامي على الفيلم، وتسريع وتيرة العرض، وإبقاء المُشاهد في حالة من الترقّب الدائم لما سيأتي من أحداث.

المرتزقة.. السرّ المكشوف

وفي عودة إلى أحداث الفيلم، نجد أن رجال المنظومة التي تجابهها تونيا قد ضاقوا ذرعًا من إصرارها على الكشف عن الحقيقة رغم كل ما فعلوه، فقرّروا أن يرسلوا إليها فتى يافعًا يحمل أوراق زينكا الثبوتية كاملة ويدّعي أنّه ابنها، وفي ما يبدو أن الجميع من الجيران والأصدقاء قد تواطؤوا مع هذه الخديعة، لم تشكّ تونيا لحظة أن ذلك الفتى ليس ابنها وأن عليها متابعة البحث عن زينكا، فما كان من ذلك الابن المزعوم إلا أن وقف في وجه محاولاتها، باللجوء إلى مختلف الوسائل، بما فيها حبسها في المنزل واستعمال العنف الجسدي لمنعها من الخروج.

ومع سير الأحداث وازدياد ألم تونيا وإصرارها على معرفة مصير ابنها المفقود في سوريا، يجد الفتى (المكلف بمهمة إعاقتها) نفسه منحازًا إلى قضيتها؛ فيتحول من معيق إلى مساعد لها في حربها على تلك المنظومة وفي مسعاها لإيجاد ابنها أو رفاته على الأقل.

المخرج الروسي فلاديمير بيتوكوف (مواقع التواصل)

يقول بيتوكوف عن قصّة فيلمه "إنها قصة غضب الأم ويأسها وحزنها على وفاة ابنها، وهي قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، وما أردناه نحن هو إبراز هذا النضال في سياق التابو (المحظور) الكبير لموضوع المرتزقة الروس".

ومن هنا يمكن للمشاهد تفسير اختيار بيتوكوف شخصية الأم لأداء هذا الدور في الكشف والحديث عن أكبر التابوهات المجتمعية والسياسية في روسيا، المتمثلة بضحايا الشركات العسكريّة الروسية من الشباب الروس غير المعترف بهم، فالأم وحدها من تكون مستعدة لمواجهة الأذى والابتزاز والترفّع عن الرشى من أجل ابنها.

يقول مُنتج العمل ألكسند رودنيانيسكي واصفًا انطباعه عن الفيلم لصحيفة الغارديان إن "الجميع يعرف أن مجموعات المرتزقة موجودة، فهي سرّ مكشوف. ومع ذلك لم يتمّ التعرف عليهم، وذلك يترك بطلتنا تونيا تقاتل بمفردها".

وعلى الرغم من أن الفيلم ليس "دراسة معمّقة للمرتزقة" حسب رودنيانيسكي، فإنه استطاع أن يسلّط الضوء على تلك القضية التي تتجاوز في تأثيرها حدود المجتمع الروسي إلى غيره من المجتمعات التي عانت من أعمال هذه الشركات كالمجتمع السوري والليبي.

وأشار بيتوكوف إلى أن قصة الفيلم مستوحاة من عدد من التقارير عن أفراد من عائلات المرتزقة الباحثين عن أبنائهم؛ إذ أسهمت هذه التقارير في إدماج بعض القصص الواقعية في ثنايا الفيلم.

وتعدّ "مجموعة فاغنر" واحدة من أبرز تلك الشركات العسكرية الخاصة في روسيا، فقد خاضت معارك عسكرية في العديد من الدول في العالم كأوكرانيا وسوريا وليبيا.

في حين كشفت صحيفة الغارديان، في تقرير لها يعود إلى شهر فبراير/شباط 2018، أن معظم الضحايا الروس الذين قضوا في قصف أميركي في سوريا كانوا تابعين لشركة فاغنر التي يديرها مقاول مقرَّب من الكرملين، حيث لجأ الكرملين لتوظيفها في الحرب السورية لتقليل الخسائر العسكرية الرسمية في صفوف الجيش الروسي.

ويقول الصحفي الروسي بيوتر ساوير في صحيفة الغارديان إن النساء اللواتي يفقدن أزواجهن أو أولادهن يكون مصيرهن مشابهًا لمصير تونيا بطلة الفيلم، إذ تعرض عليهنّ هذه الشركات أموالًا كتعويض شريطة ألا يقبلن التواصل مع وسائل الإعلام.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية