في مئوية الفنان جوزيف بويز.. رحلة التعافي من الحرب بالفن

كان جوزيف بويز أينما ظهر، يتحلق حوله الناس يطلبون توقيعه (مواقع التواصل الاجتماعي)

بعد قرن على ولادته وأكثر من 3 عقود على وفاته، لا يزال جوزيف بويز إلى اليوم أكثر الفنانين إشكالية وإثارة للجدل في تاريخ الفن المعاصر في ألمانيا التي تحتفي مؤسساتها الثقافية والفنية العام المقبل بمئويته.

تسترجع الفعاليات المختلفة التي تقام بهذه المناسبة سؤال بويز القديم المتجدد حول علاقة السياسي بالثقافي.

دلالات

في فيلم وثائقي يحمل اسمه، يظهر الفنان الألماني جوزيف بويز (1921-1986) على خشبة مسرح يحيط به نقاد وفنانون وأكاديميون، يهاجمون نظريته التي قال فيها بضرورة "توسيع مفهوم الفن".

بدا وكأن بويز مفارقة في حد ذاته؛ يجلس بجسده النحيل وعينيه الكئيبتين وشعره المزيّت والممشط إلى الأمام كتلميذ في مدرسة، بينما تتقد كلماته بطاقة وأفكار جديدة وبغضبه الأصيل من ألمانيا ومن أجلها.

يقول بويز شيئا فيندفع الجمهور الشاب مصفقا له بينما يتملل البيروقراطيون الأكبر عمرا "ارموا أعمالي من النافذة. الأمر يتجاوز أعمالي، أريد توسيع الوعي عند الناس وحساسيتهم تجاه الظرف السياسي الذي يعيشون فيه. لا أعتقد أننا نعيش في ديمقراطية، لا أعتقد أن بالإمكان تربية إنسان حر في نظامنا السياسي البيروقراطي"، يرد عليه أحدهم "لا بد أن نعرف في أي اتجاه تريد أن توسع وعي الناس؟".

كان بويز أينما ظهر سواء في ألمانيا أو زيارة إلى اليابان أو رحلة إلى أميركا، يتحلق حوله الناس يطلبون توقيعه، أو يحتشدون كأنهم يرون أحد نجوم السينما أو يتهافتون من أجل رؤية عرضه.

الفنان وجروح ما بعد الحرب

خلال سنوات الحرب العالمية الثانية كان الفنان جنديا ضمن وحدات القاذفات القتالية في شبه جزيرة القرم، وفي عام 1944 تحطمت طائرته، وخرج من هذا الحادث زاعما أن التتار (سكان القرم الأصليين) أنقذوه بأن دهنوا جسده بدهون الحيوانات ولفوه باللباد وقاموا برعايته إلى أن عادت إليه صحته، ولكن كثيرون شككوا في روايته واعتبروها أسطورة بناها حول نفسه، ليضيف بعدا آخر على استخدامه لهاتين المادتين (دهون الحيوانات واللباد) في أعماله الفنية، حتى أنه خاط بدلة من اللباد.

ظهر بويز فنانا في الخمسينيات، في الزمن الصعب الحرج بينما ألمانيا التي خرجت للتو من الحرب تحاول أن تداوي جروحها، وأن تحاكم ماضيها وتفهمه وتتحرر من عار ذاكرتها وتعيد علاقتها بالعالم من حولها. آنذاك، برز تيار رأى في الفن وسيلة لإعادة تشكيل المجتمع ومساعدته على التعافي وكان بويز أحد هؤلاء بل أكثرهم انحيازا لدور الفن ونقمة على السياسة.

يذكر في مقابلة معه "مهنتي ليس نقد السياسة، بل أن أقدم مثالا، لأن معظم الفنانين ليس لديهم الرغبة في دخول الصراع، ولا في اقتراح أسلوب جديد في الفن يربطه بالناس أينما كانوا، سواء في مكان يعملون فيه أو في مشكلة يواجهونها. لا أرى أن هناك تطورا عضوياً للفن في المجتمع، وإن لم يطور الفنانون نظرية تصف مستقبل المجتمع وتتصوره ما بعد الرأسمالية وما بعد الشيوعية، فلا أمل لنا في مناقشة دور الفن في المجتمع".

مر فن بويز بمراحل مختلفة، ففي بواكيره كان ينجز منحوتات خشبية ومعدنية ورسومات بالرصاص، ذات مضمون ديني يعكس تنشئته الكاثوليكية، ثم سرعان ما أصبح يرسم الحشرات والحيوانات مثل النحل والبجع والأيائل تعبيرا عن الرمزية في أعماله.

واهتم في تلك الفترة برسم حيوانات وشخصيات من الأساطير الإسكندنافية والسلتيّة، وكان بذلك يرى أنه يعبّد لنفسه طريقا سوف يعزله عن الآخرين ويجد فيه ذاته، فقد كان بويز نفسه -مثلما كانت بلاده- يحاول أن يتعافى وأن ينسى الحرب وما فعله فيها حين كان جنديا وما فعلته فيه. لكن ومع نهاية عقد الخمسينيات لم يكن أحد قد التفت إليه ولم تلق أعماله اهتمام أحد، فزاد بؤسه المهني من ضعفه الشخصي وانهار نفسيا وعصبيا واختفى فترة إلى أن عاد مع بداية الستينيات وبدا وكأنه فنان آخر.

في تلك السنوات أيضا أصبح بويز جزءا من جماعة "فلوكس" والتي ضمت فنانين من كل أنحاء العالم هدفهم إعادة تعريف الفن وعلاقته بالمجتمع وإعطاء الأهمية للعملية الفنية أكثر من المنتج الذي يخرج منها، وكانت الأعمال التي قدمها في تلك الفترة إلى جانب فنانين آخرين من "فلوكس" قد أبرزت اختلافه حتى عن هؤلاء، ولفتت إليه أنظار النقاد والصحافة وسرعان ما أصبح موضوعا مثيرا يشغل الأوساط الثقافية والفنية في ألمانيا.

قصة حب أميركية

تلقى بويز أكثر من دعوة إلى أميركا، لكنه كان رافضاَ زيارتها في البداية بسبب موقفه من حرب فيتنام، وفي مايو/أيار 1974 قَبِل أن يعرض في أميركا شرط أن لا يراها وألا يطأ أرضها.

وصلت سيارة إسعاف إلى المطار كما طلب، ونُقل على حمالة معصوب العينين لكي لا يرى أي شيء حوله، ووصل محمولا إلى غاليري "رينيه بلوك" في نيويورك، حيث مكث 3 أيام مع ذئب القيوط الذي تم إحضاره من نيومكسيكو.

كان بويز يقف أحيانا ملتحفا في بطانية سميكة رمادية من اللباد متكئا على عصا، وأحيانا كان الذئب يقترب منه يحاول تمزيق البطانية. في نهاية العرض ظهر شكل من العلاقة الجديدة بين الاثنين فعانق بويز الذئب قبل أن ينقل بسيارة الإسعاف مرة أخرى إلى المطار تاركا أميركا كما أراد، لم تطأ قدمه أرضها ولم يرها.

عن هذا العرض يقول "أردت أن أعزل نفسي وألا أرى شيئا في أميركا سوى ذئب البراري".

مكث جوزيف بويز  3 أيام مع ذئب القيوط ملتحفا ببطانية سميكة رمادية من اللباد (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان هذا العرض الأدائي الذي أطلق عليه "أنا أحب أميركا وأميركا تحبني" يجسد الطريقة التي يفكر بها بويز في التعايش طويل الأمد بين البدائية والحداثة، فمثّل ذئب البراري السكان الأميركيين الأصليين والطبيعة كما كانت موجودة قبل وصول الأوروبيين، ومن النقاد من وجد في القيوط رمزا للإنسان الفيتنامي، دون أن يخفي ذلك تلك الرؤية المتفائلة التي حملها العرض والثقة بقدرة الذئب على البقاء والتعايش بشكل سلمي مع الآخر الغريب المتدخل.

التجربة الأكاديمية

عين بويز أستاذا للفن في أكاديمية ديسلدروف للفنون عام 1962، وفيها بدأ يطرح أفكاره التي اعتبرت أن الفن ظل يحافظ على مكانته في منظومة مغلقة جدا سياسيا وثقافيا، وأن الأوان قد آن لتغيير ذلك، وكان أحد أبرز شعاراته "كل إنسان فنان".

لقيت محاضراته إقبالا كبيرا، وحملت بعض ألواح المحاضرات التي ملأها بكتاباته ورسوماته أثناء الشرح كما هي لتعرض في متحف، لكن هذا المجد بين الطلبة الذين تحولوا إلى مريدين جلب عليه مشاعر الغيرة والعداء، لا سيما حين أعلن أنه لن يرفض أي طالب يريد التسجيل في محاضراته محتجا على سياسات الأكاديمية في قبول الطلبة وتوزيعهم أو إقصاء بعضهم.

وحين رفضت المؤسسة ممارساته هذه أسس بويز مجموعة من المنظمات الطلابية التي كان دورها التظاهر ورفض سياسات الجامعة، كما أسس لاحقا مع هاينريش بول "الجامعة الحرة للإبداع" التي كانت مفتوحة للأبحاث وتلقي الأعمال الفنية والأفكار الجديدة وانضم إليها عدد من أهم الفنانين في ألمانيا في تلك الحقبة.

بسبب هذه الممارسات فُصل بويز من الأكاديمية عام 1972، وعندما طالب بتفسير لفصله قال له وزير التعليم يوهانز روو "لا أستطيع ولن أسمح بأن أجعل من نفسي موضوعا لعمل فني محتمل".

صحيح أن بويز رفع دعوى قضائية ضد الأكاديمية وكسبها وعادت إليه وظيفته، لكن الإجابة التي قدمها روو تكشف حجم التخوف الذي حمله زملاء بويز من طريقته في التفكير في الفن وقدرته على تحويل أي شيء وأي أحد إلى موضوع عمل فني، وهذا يعني التعرض للجمهور بكل ما تحمله هذه الكلمة من شراسة النقد والهجوم والتفحص والرفض أو القبول.

7 آلاف شجرة بلوط ومضخة عسل

حين تلقى بويز الدعوة لحضور "دوكيومنتا 6" عام 1977 (تظاهرة انطلقت عام 1955 وتقام كل 5 أعوام في مدينة كاسل وهي من أهم تظاهرات الفن المعاصر في العالم)، أعد لمشاركته مضخة تدار بمحركين قويين، تدفع العسل في أنبوب يبلغ ارتفاعه 17 مترا ويمتد إلى شبكة توزيع تمر عبر غرف متحف فريدريسيانوم.

جلبت المضخة الانتباه وأصبحت بمثابة "موقع عمل" تدور حولها المحادثات والخطب والمناقشات في مجموعات من مختلف البلدان. ولمدة 100 يوم، روى بويز أفكاره حول ضرورة أن يتغير الفن والمجتمع، وقدم نظريته حول مفهوم توسيع الفن وما الذي يجعله مختلفا عن المفهوم التقليدي للفن.

وفي عام 1982، دُعي مرة أخرى إلى "دوكيومنتا 7″، ليقدم أكثر أعماله تدخلا في البيئة، خرج الفنان إلى ساحة عامة في مدينة كاسل وألقى كومة كبيرة من حجارة البازلت وشكلها على هيئة سهم يشير إلى شجرة بلوط زرعها.

واشترط ألا ينقل أي حجر من مكانه إلا بزراعة شجرة بدلا منه، استغرق الأمر عدة سنوات ليحقق بويز هدفه بزراعة 7 آلاف شجرة بلوط، ليصبح هذا العمل أيقونة في ما بات يُعرف بـ "النحت الاجتماعي التشاركي".

لم يكن هدف المشروع التدخل البيئي وحسب، بل كان هجاء لأنظمة الإسكان الصماء وتغول الأبنية على المناطق الخضراء، مثلما كان انتصارا للإنسان العادي على السلطة الذي تخطط له مدينته وتقرر حجم ومكان مساحاتها الخضراء.

وقد وصلت رسالة بويز هذه، واستفزت أشجار البلوط سياسيين محافظين فحاولوا إيقاف زراعتها، لكن المشروع استمر بمشاركة آلاف المتطوعين، حاملا اسم صاحبه الذي اعتبر أن "كل شجرة هي نصب تذكاري".

مات بويز عام 1986، وبعد موته زرع ابنه "فنزل" آخر شجرة من مشروع "7 آلاف شجرة بلوط" في مدينة كاسل.

المصدر : الجزيرة