المحارب التائه.. السينما الوثائقية الشعرية

المحارب التائه
الاهتمام بالإيقاع المتوازن المتنقل بين لندن ومقديشو هو أساس رؤية المخرج للفيلم (مواقع التواصل)

فاطمة نبيل

يحدد المخرج الصومالي نسيب فرح مكان أحداث فيلمه "المحارب التائه" (Lost warrior) بين العاصمة الإنجليزية لندن والعاصمة الصومالية مقديشو، ثم ينتقل لاحقا في مرحلة ما من الفيلم إلى العاصمة الكينية نيروبي، حيث استطاع بطلا الفيلم التلاقي أخيرا.

لكن هذا التحديد المكاني الدقيق لا يعني حصر الفيلم في هذه الأماكن فقط، أو حصر أزمته في هذين البطلين فحسب، فالأزمة أكبر؛ وتمتد لتشمل معظم مهاجري الدول الأفريقية الفقيرة الذين فروا إلى أوروبا هربا من جحيم الحرب أو الفقر أو حتى بحثا عن مستقبل أفضل لأطفالهم الصغار، لكن ماضيهم الأفريقي ظل يطاردهم، فلا المجتمع الجديد المتحضر قبل بهم كما يفترض به، ولا سمحت لهم دولهم الأولى بالعودة والاندماج وسط أهلهم الأصليين.

يختفي صانع الفيلم خلف بطليه "محمد" وزوجته "فتحي" المشتتين بين لندن ومقديشو ونيروبي، لكنه يلاحقهم بكاميرته في كل تفاصيلهم الخاصة والحميمية، حتى يكاد المشاهد ينسى أن هذا فيلم تسجيلي بالأساس.

يتابعهم في صراعهم؛ محمد في صراعه من أجل العودة إلى بريطانيا التي لفظته ولم تعتبره واحدا من مواطنيها أبدا، على أمل أن يجتمع شمله مجددا بزوجته وطفله الذي لم يره منذ ولادته.

ويتابع مشاجراته مع زوجته وأوقات خصامهما وأوقات تبادلهما المحبة، ويتابع سعيه من أجل العودة إلى لندن، ومحادثاته مع محاميته عبر سكايب للمّ شمل عائلته، ويتابع كيف تضيق العاصمة الفسيحة به كبطل تراجيدي أخطأ وظل خطؤه يلازمه دون حل.

على جانب آخر يتابع فرح الزوجة "فتحي" في عنايتها بالطفل الذي أنجبته قبل أن تتم عامها الثامن عشر، وظروف عيشها الصعبة في منزل عائلتها المزدحم، وتعرضها للعنصرية من المجتمع البريطاني الذي ما زال يطالبها بالعودة إلى حيث أتت، غير متقبل حجابها أو لون بشرتها.

هذا الاهتمام بالإيقاع المتوازن المتنقل بين لندن ومقديشو هو أساس رؤية فرح لفيلمه؛ فمحمد وفتحي كلاهما ضحايا لأفكارهما وأفكار عائلتيهما، وإن عاش واحدا منهما في أشد بقاع العالم ظلامية، وبقي الآخر في أشدها مدنية وتحضرا وثراء.

وهو في ذلك يغلب عليه الاهتمام بالجانب الجمالي من علاقتهما المعقدة، مع الإشارة إلى أوضاع بلادهما السياسية والاقتصادية التي قادتهما إلى هذه النقطة، لكن دون إفراط يجعل الفيلم يأخذ منحى إخباريا.

وقد غاب التعليق الصوتي واكتُفي بالعناوين التي تخبر المشاهد بعضا من تاريخ الشخصيات، حتى أن الشخصيات لا توجه حديثها لصانع العمل (المتلقي)، لأن ما يهم المخرج هو ما وراء الحدث محل النقاش وأثره على شخصياته ومشاعرهم.

مع انتقال بطلي الفيلم إلى كينيا، يبدأ فصل جديد في القصة ربما هو الأضعف فيها.

يعبّر محمد عن السؤال الذي طالما أرقه بأكثر الطرق مباشرة، مخاطبا والدته، كيف لها أن تتخلى عن طفلها الصغير في بلد لا يعرفه، وكيف لا توفر له المال اللازم لعملية هروبه.

ويتحول صراع البطلين الذاتي إلى أن يصبح صراعا بينهما؛ فمحمد لا يريد لابنه "ياسر" أن يتربى بعيدا عن أبويه، كما عاش هو عندما أبعده والداه عن الصومال إلى لندن خوفا عليه من الحرب الدائرة هناك، فكانت النتيجة إدمانه المخدرات ودخوله السجن ثم انضمامه إلى جماعة "الشباب" المتطرفة، بينما لا تريد فتحي العودة بطفلها إلى أفريقيا حيث يقضى عليه بالعيش وسط التخلف والفقر والحروب الأهلية.

هذا الصراع الذي لا تملك إلا أن تتعاطف مع طرفيه -لأن لكليهما حجته الوجيهة- لا يملك معه نسيب فرح إلا أن يترك النهاية مفتوحة بعودة فتحي إلى لندن ومعها الطفل، بينما يظل محمد في شتاته الأفريقي.

المصدر : الجزيرة