سيد درويش.. فنان الشعب والثورة

سيد درويش
توفي درويش في العاشر من سبتمبر/أيلول 1923 عن عمر ناهز 31 عاما ولا تزال أسباب وفاته غامضة (مواقع التواصل)

علاء عبد الرازق-القاهرة

رغم عمره القصير، الذي لم يتجاوز 31 عاما، يظل سيد درويش أحد أهم الموسيقيين المصريين والعرب، إذ جمع بين المواقف الوطنية والموهبة الفنية الفريدة، وامتد تأثيره لأجيال وأجيال بعد رحيله، ولا يزال الفنانون في العالم العربي يتغنون بأغانيه الشهيرة، كما يردد المصريون ألحانه في نشيدهم الوطني "بلادي بلادي"، ليستحق لقب "فنان الشعب" عن جدارة.

ويتزامن هذا الشهر مع ذكرى مرور قرن كامل على ثورة 1919، كما يتزامن اليوم الأحد مع ذكرى ميلاد درويش، الرجل الذي وصفه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بأنه ليس مجرد أغنية ولحن، بل "فكر، وتطور، وثورة".

النشأة
ولد درويش في 17 مارس/آذار 1892 بمدينة الإسكندرية، وتعلم القراءة والكتابة في الكُتاب، وحفظ بعضا من القرآن الكريم في صغره، قبل أن يلتحق بالمعهد الديني بالإسكندرية عام 1905.

عشق الموسيقى منذ نعومة أظافره، وتربى على ألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري، رائدي المسرح الغنائي، وفي صباه جرّب الغناء والإنشاد في المقاهي، والتحق بالعمل في فرقة موسيقية لم يستمر معها طويلا، وتزوج في سن 16، مما أجبره على العمل عامل بناء ليوفر نفقات المعيشة.

بعد تعرفه على الأخوين أمين وسليم عطا الله، رافقهما في رحلتهما إلى الشام عام 1908، وعاد للشام بعدها بأربعة أعوام ليتعلم فن العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية، مما ساعده على ثقل موهبته وكتابة ألحانه.

في عام 1914، بينما تندلع الحرب العالمية الأولى، بدأت أغاني درويش الانتشار، وذاع صيته في القاهرة، فدعاه الشيخ سلامة حجازي للقاهرة والعمل مع فرقته المسرحية، ليغني بين فصول العروض المسرحية، لكنه لم يحظَ بالنجاح المرجوّ، فلم يعجب الجمهور بألحانه، ودافع عنه الشيخ سلامة قائلا "هذا الفنان هو عبقري المستقبل"، لكن عزة نفسه دفعته للعودة إلى الإسكندرية.

ارتبطت ألحان درويش بتاريخ مصر في تلك السنوات الصاخبة، حيث يجبر الاحتلال الإنجليزي الشباب المصري على التجنيد في "الجهادية" أو الخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، فيلحن درويش أغنيته الشهيرة "يا عزيز عيني".

وتحدث درويش عن أحوال العمال خلال الحرب العالمية الأولى، حيث الفقر والإفلاس، وتوقف الأعمال في أغنية "محسوبكو انداس".

خلال سنوات قليلة انتشرت ألحانه في مصر، وعاد للقاهرة عام 1917 نجما شهيرا، واستعانت به الفرق الفنية الشهيرة بشارع عماد الدين في قلب القاهرة، مثل فرق نجيب الريحاني وعلي الكسار وجورج أبيض، مقدما عشرين لحنا من الأوبريتات، كما قدم أنواعا من فنون الغناء الشعبي مثل الموشح والدور والطقطوقة والمونولوج الشعبي والأناشيد.

ثورة 19
ألحان سيد درويش وثورة 1919 لا ينفصلان، فكما كان سعد زغلول مفجر الثورة وملهم المصريين سياسيا في الكفاح ضد الإنجليز، صار درويش ملهم المصريين بألحانه وأغانيه، فهو من غنى "قوم يا مصري".

ومع نفي الزعيم المصري سعد زغلول خارج مصر، لحن درويش أغنية "يا بلح زغلول"، من كلمات بديع خيري وغنتها نعيمة المصرية، دون أن يذكر اسم الزعيم مباشرة، نظرا لمطاردة الإنجليز كل من ينطق باسم سعد مباشرة.

يمتد الحراك الشعبي المصري ضمن ثورة شعبية تجمع المسلمين والمسيحيين، رجالا ونساء، وتتعطل حركة القطارات، ويستخدم المصريون المراكب الشراعية في النيل بدل القطارات، فيلحن درويش أغنيته عن "الوابور" (القطار بالعامية المصرية).

يعطل الإنجليز التلغرافات، ويعيقون حرية المرور بين المدن المصرية، فيغني درويش "ما قطعوا لنا التليفونات، وعطّلوا التلغرافات، عمركش سمعت الدلنجات، بيسافروا ليها ببزابورتات".

يعود الزعيم الوطني لمصر، وتحتشد الجماهير في حفل استقباله في مارس/آذار 1921، ليغني درويش من كلمات خيري: 

"مصرنا وطننا سعدها أملنا.. كلنا جميعًا للوطن ضحية.. أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية.. يا مصر بعدك.. مالناش سعادة…".

كما قدم الأغنية –التي صارت في ما بعد النشيد الوطني المصري- "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي…"، مقتبسا كلمات الزعيم الوطني مصطفي كامل، الذي نشط في النضال ضد الإنجليز، ومن كلمات بيرم التونسي، لحن وغنى أغنيته الشهيرة "أنا المصري كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرمين".

فنان المصريين
تنوعت ألحان درويش التي مست الشعب المصري لقربها من مشاكله وهمومه، فقدم مشكلات العمال، وتحدث عن الحرفيين والبسطاء، فهو صاحب "أهو ده اللى صار"، و"الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية"، و"زوروني كل سنة مرة"، وهي أغان تغنى بها كبار نجوم الغناء في مصر والعالم العربي مثل السيدة فيروز.

وفاة غامضة
في العاشر من سبتمبر/أيلول 1923 رحل درويش عن عالمنا، عن عمر ناهز 31 عاما، ولا تزال أسباب وفاته غامضة، حيث قيل إنه توفي بسبب جرعة من المخدرات، وقيل إنه تسمم بتدبير من الإنجليز أو الملك فؤاد لخوفهم من حثه المصريين على الثورة من جديد، ليسدل الستار على أسطورة مصرية خلدت ألحانها وأغانيها.

المصدر : الجزيرة