وفاة الطفلة جوري تثير القلق من انهيار القطاع الصحي.. هل باتت حياة اللبنانيين في خطر؟

يعيد خبراء سببَ الأزمة إلى سيطرة القطاع الخاص على 80% من القطاع الصحي وتحويله لقطاع استثماري، وترك القطاع الصحي الحكومي يواجه الفقر والإفلاس

وفاة الطفلة جوري وتفاقم أزمة القطاع الصحي في لبنان
الطفلة اللبنانية جوري السيد (10 شهور) توفيت السبت الماضي وقالت عائلتها إنها لم تجد الدواء بسبب إضراب الصيدليات (الجزيرة)

بيروت- لم تستوعب اللبنانية ريان الحاج خسارتها لطفلتها البالغة 10 أشهر، وقالت -بصوت يخنقه البكاء- "لن أنتظر نتائج التحقيقات، لأن جوري راحت ولن تعود، ولأننا جميعا ضحايا لحالة الانهيار الصحي والاقتصادي".

وذكرت الأم -للجزيرة نت- أن ابنتها "جوري السيد" توفيت إثر مضاعفات صحية أصابتها، وذلك بعد أن عجزت العائلة عن تأمين الدواء لها بسبب إضراب الصيدليات، ولأن المستشفى التي قصدوها بجبل لبنان لا تتوفر فيها غرف عناية فائقة للأطفال.

عند الخامسة والربع من مساء السبت الماضي، عانت الطفلة جوري من مضاعفات صحية وارتفاع طفيف بدرجة حرارتها. ونتيجة إغلاق الصيدليات، لم يتمكن والدها من العثور على "دواء للالتهابات". وبغضون 4 ساعات، فارقت الطفلة الحياة نتيجة النقص الحاد بالأكسجين في جسدها الصغير.

وقالت والدتها "كنت أخشى تجربة معاناة الآباء والأمهات بعدم العثور على دواء لأولادهم، لكنني لم أتوقع أن يكلفني ذلك حياة ابنتي".

ملابسات القصة

أشعلت وفاة الطفلة منصات التواصل الاجتماعي، ودفعت اللبنانيين للتعبير عن سخطهم، مع المخاوف من انهيار البنية الصحية بالبلاد بسبب النقص الحاد في الأدوية، إلى جانب انعكاس أزمة انقطاع التيار الكهربائي -لأكثر من 20 ساعة يوميا- على المرضى الذين يحتاجون لأجهزة التنفس.

وتأثّر اللبنانيون بمشهد والد جوري الذي حملها بين يديه بعد وفاتها، مكلوما يتساءل "إلى مَن أوصل صوتي؟"، واستدعى نداؤه ردود أفعال رسمية أيضا.

من جهتها، قالت إدارة المستشفى -التي نُقلت إليها الطفلة- إنها حضرت إلى قسم الطوارئ بحالة حرجة وأعطيت العلاج الكامل والمناسب، إلا أنها توفيت بعد دقائق من إخراجها من المستشفى على مسؤولية عائلتها.

وصرح نقيب أطباء لبنان في بيروت شرف أبو شرف؛ موضحا أن الطبيبة التي تابعت الطفلة أعطتها الأدوية اللازمة وطلبت من الأهل عدم نقلها بسيارتهم، لكنهم أصروا على ذلك، فرافقتهم. و"سرعان ما ساءت حالتها وانخفض نبضها، واضطرت الطبيبة للعودة بها إلى طوارئ المستشفى لتقوم بعملية إنعاش لها، لكن دون نتيجة".

وقال أبو شرف إن الأزمة تكمن في "عدم وجود مراكز عناية فائقة للأطفال بالمستشفيات الجامعية، أو أسرّة كافية، فضلا عن ضآلة الأطباء الذين يقومون بهذا العمل".

تفاقم الأزمة

وبينما فتحت كل من وزارة الصحة وقوى الأمن الداخلي تحقيقا بالملف؛ ربط اللبنانيون الحادثة بتفاقم أزمة القطاع الصحي في البلاد من مطلع العام الجاري 2021، وذلك في ظل الانهيار التاريخي لليرة أمام الدولار، بعد أن خسرت أكثر من 95% من قيمتها وتجاوز سعر صرف الدولار 19 ألف ليرة بالسوق السوداء.

ويعتمد لبنان على الاستيراد لتوفير حاجاته من الأدوية والمستلزمات الطبية. واشتدت الأزمة بعد أن صار مصرف لبنان المركزي عاجزا عن فتح اعتمادات جديدة للاستيراد بالدولار المدعوم الذي توفره الحكومة من خلاله، نتيجة استنزاف الاحتياطي لديه، وبقي منه أقل من 15 مليار دولار كاحتياطي إلزامي للمصارف التجارية.

هذا الواقع، أدى إلى شح كبير بالأدوية، وبدت رفوف الصيدليات فارغة من معظم الأصناف وبدائلها، كخافض الحرارة والمسكنات وأدوية الالتهابات والأمراض المزمنة وحليب الأطفال، وهو ما دفع تجمع أصحاب الصيدليات إلى إعلان الإضراب احتجاجا على نضوب الأدوية.

وبينما كان المركزي يطالب وزارة الصحة منذ أشهر برفع لائحة بالأدوية الأكثر أهمية لحصر الدعم بها؛ تُحمّله شركات استيراد الأدوية مسؤولية عدم فتح اعتمادات بعد أن دفعوا تكلفة الشحنات للمصارف التجارية، من دون أن يقوم بتحويلها للشركات في الخارج.

وتقّدر الفاتورة السنوية لاستيراد الدواء بـ1120 مليون دولار وفق "الدولية للمعلومات". وتوجد في لبنان 12 شركة لتصنيع الدواء، مقابل 67 شركة لاستيراده، من بينها 7 شركات تستورد 75% من كمية الدواء.

تحول البحث عن الدواء إلى عادة يومية لآلاف اللبنانيين، وسط شح في وفرتها لا سيما المخصصة للأمراض المزمنة (الأناضول)

هجرة الأطباء والممرضين

يقول رئيس لجنة الصحة في البرلمان اللبناني عاصم عراجي إن القطاع الصحي يعاني الأمرّين، بسبب الشح بالأدوية والمستلزمات الطبية، والكلفة الاستشفائية العالية، والنقص الحاد بالكوادر البشرية داخل المستشفيات، وتحديدا بعد الهجرة الواسعة في صفوف الأطباء والممرضين، وتآكل كبير بقيمة رواتب العاملين، وهذا كله أدى لتهاوي القطاع الصحي.

ويُذكّر النائب أن تهريب الأدوية والمستلزمات الطبية ينشط على نطاق واسع نحو سوريا كحال المحروقات، ما يضاعف ندرتها بالأسواق. ويدعو السلطات الأمنية لتفتيش مستودعات المستوردين "للكشف عن كميات كبيرة يجري تخزينها واحتكارها"، على حد تقديره.

وقال عراجي -للجزيرة نت- إنه ثمة حالة من تقاذف المسؤوليات بين المصرف المركزي والشركات المستوردة، بينما يقع المواطن ضحية لذلك، خصوصا أن لبنان يعتمد على استيراد أكثر من 95% من حاجاته بالقطاع الصحي.

وأشار إلى أن المركزي خلال عام دفع أكثر من 7 مليارات دولار لاستيراد الدواء، "لكن أكثر من 80% من اللبنانيين لم يستفيدوا منه"، معتبرا أنه لا يوجد دول مثل لبنان تدعم استيراد نحو 5 آلاف صنف من الأدوية، فيما يمكن الاكتفاء بدعم استيراد نحو ألف صنف تشمل كل ما هو أساسي.

وحذر عراجي من رفع الدعم عن الدواء، واعتبره خطا أحمر ينذر بتداعيات خطيرة، "إذ سيجعل اللبنانيين عاجزين عن شرائه إذا رُبطت أسعاره بقيمة الدولار بالسوق السوداء".

مخاوف وقلق

وإذ يخشى معظم اللبنانيين انهيارا وشيكا بالقطاع الصحي، عمد كثيرون إلى البحث عن مصادر لشراء الدواء، فصارت بعض الأصناف تُباع بين المواطنين بالظرف أو الحبة، ما أدى لخلق نوع من سوق سوداء. بينما لجأ آخرون لطلب شراء الأدوية من الخارج، عبر المغتربين القادمين للبنان.

وفي السياق، يعزو ناصر ياسين -الباحث والمشرف على مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية ببيروت- هذا التراجع لعدة عوامل؛ أولها استمرار الدعم العشوائي لاستيراد الدواء، حيث الإنفاق على الأدوية بلبنان هو من الأعلى عالميا، ويشكل نحو 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي.

ويقول ياسين -للجزيرة نت- إن غياب سياسة عامة تقارب ملف الدواء على ضوء الانهيار المالي والاقتصادي، سيؤدي إلى التخبط والانهيار، و"إن الالتجاء المستمر إلى المصرف المركزي وجعله بموقع صانع السياسات العامة، يضاعف الأزمة".

ويلفت ياسين إلى أن 80% من القطاع الصحي تعود ملكيته للقطاع الخاص، الذي جعل منه قطاعا استثماريا ربحيا. بينما يعاني القطاع الصحي -الذي يعتمد على الدولة عبر وزارة الصحة والمؤسسات الضامنة أو عبر النفقة الشخصية للمواطنين- من الإفلاس والفقر.

وتوقّع ياسين أن تحتاج المستشفيات الحكومية قريبا "للجان دعم"، لأن الدولة لن تكون قادرة على ذلك.

ودعا إلى اتخاذ تدابير عاجلة تفاديا للانهيار الشامل، كتطوير الاستثمار بالصناعات الدوائية المحلية، والاستيراد المباشر من قبل القطاع العام عبر منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، وإلا "ستصبح الرعاية الصحية سلعة نخبوية في لبنان".

المصدر : الجزيرة