رمضان زمان في قرى مصر.. حنين لمظاهرات النقر على الأواني واللمة حول المسجد انتظارا للأذان

بمجرد ثبوت رؤية هلال رمضان في الإذاعة -فمعظم البيوت لم يكن فيها تلفزيون- تبدأ فرقة الطبول في القرية بقرعها مرددة "بكرة صيام.. يا رمضان".

طقوس ريفية رمضانية جميلة كان الريف المصري يعيشها فور إعلان ثبوت رؤية هلال رمضان وعند انتظار أذان المغرب وصلاة القيام (الأوروبية)

يحمل الذين عايشوا شهر رمضان في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم بريف أو قرى مصر حنينا لا يقاوم لتلك الأيام التي تفردت بطقوس وعادات اختفت ولم يعد لأي منها وجود الآن.

طقوس مختلفة فور إعلان ثبوت رؤية هلال رمضان، وكذلك عند انتظار أذان المغرب، وصلاة القيام.

شراء الفوانيس طقس رمضاني (الأوروبية)

استقبال رمضان

بمجرد ثبوت رؤية هلال رمضان في الإذاعة -فمعظم البيوت لم يكن فيها تلفزيون وربما لم تدخلها الكهرباء أصلا- تبدأ فرقة الطبول في القرية بقرعها مرددة "بكرة صيام.. يا رمضان".

وتنطلق الفرقة من مكانها لتجوب البلدة بأكملها مارة بكل شارع فيها، وتقف أمامه في انتظار قاطني الشارع للانضمام لمظاهرة الفرح باستقبال الشهر الكريم، ويخرج الكبار والصغار كل يحمل شيئا يطرق عليه مرددا الجملة الثابتة مع فرقة الطبول.

منهم من يحمل إحدى آواني المطبخ ومعها ملعقة كبيرة ليطرق بها، وآخرون يحملون علب الصفيح الفارغة أو الصفائح الكبيرة ويطرقون عليها بالعصي، وهكذا تبدأ المظاهرة صغيرة حتى تصل في نهاية جولتها إلى ضم معظم أهالي القرية، وبعد أن كانت أصوات طبول فقط فإنها تصبح أصواتا مدوية تهز حوائط البلدة المبني معظمها في ذلك الوقت من الطوب اللبن.

وكان البعض يحرص على حمل المشاعل لتنير الطرق التي ليس فيها سوى أعمدة إنارة قليلة ومتباعدة ومنعدمة في بعض المناطق من القرية، وكان حاملو المشاعل يتقدمون تلك التظاهرة وبعضهم يسير بمحاذاتها.

كان البعض يحرص على حمل المشاعل لتنير الطرق التي لا توجد فيها سوى أعمدة إنارة قليلة ومتباعدة (الأوروبية)

التجمع حول المسجد انتظارا للأذان

طقس آخر كانت تشهده القرى في السبعينيات والثمانينيات، حيث كان الأطفال والصبيان يجتمعون يوميا أمام المسجد انتظارا للأذان و"للنفحة" التي كانت توزع عليهم فور انطلاقه.

وكانت الفكرة من وقوفهم أمام المسجد أن هناك فرق توقيت بين أذان المغرب في القاهرة الذي يبثه الراديو وتوقيت الأذان في تلك البلدات، ولم تكن الساعات قد انتشرت، أو بالأحرى لم يكن الكثير عندهم ساعات، وليست هناك معرفة بفارق التوقيت أصلا وكم يبلغ من الدقائق.

الأطفال كانوا ينتظرون الأذان ثم يسرعون إلى أهليهم لزف بشراه ومن ثم الإفطار (الأوروبية)

فيقف الأطفال انتظارا للأذان ثم يسرعون منطلقين إلى أهليهم لزف بشراه ومن ثم الإفطار، أما النفحة فيقصد بها الحلوى التي يرميها المؤذن وبعض المصلين من داخل المسجد نحو الأطفال الواقفين، احتفال ببدء الإفطار بعد يوم صوم طويل في جو حار للغاية.

صينية من كل بيت

كان القاطنون إلى جوار المسجد يستشعرون أن من واجبهم تقديم إفطار للذين يؤدون صلاة المغرب فيه، فيحملون صواني الطعام -كل حسب قدرته- ويسلمونها لعامل المسجد الذي يبدأ فور الصلاة بإعداد مائدة سريعة، داعيا المصلين عقب الصلاة إليها، ولكن الجميع يعلم أنها للأكثر احتياجا.

اختلفت مظاهر رمضان الحالي خصوصا مع تزامنه للعام الثاني مع كورونا (رويترز)

لم تكن هذه الأطعمة في الغالب تتعدى خضروات مطبوخة دون لحم، وهو ليس بخلا وإنما كانت هذه هي أطعمة معظم البيوت في تلك الفترة، فالجزارون كانوا لا يعملون إلا يوم الجمعة فقط، أما وسط الأسبوع فكانوا يذبحون الدواجن والبط الذي يربونه في المنازل.

وكان عابرو السبيل ومن لا يملك قوته يلجأ للمسجد قبيل الأذان، أو يمكث فيه بعد صلاة العصر، انتظارا لما يجود جيران المسجد عليهم به، موقنين أنهم لن يذهبوا جوعى أبدا.

جيران المساجد في الريف المصري يعدّون الطعام لعابري السبيل ومن لا يملك قوته (رويترز)

المسحراتي

كان المسحراتي هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة حلول موعد السحور، نظرا لأن السهر كان أمرا نادرا، فمعظم أهالي القرى ينامون مبكرين، ومن لم توقظه طبلة المسحراتي فقد فاته السحور.

ويوجد في القرية أكثر من مسحراتي يقسّمون بينهم المناطق، وهم معروفون بالاسم، ومنهم من كان يستخدم الطبلة الصغيرة الشهيرة ويستعين بصوته أيضا للمناداة على النائمين، قائلا "اصحى يا نايم .. كلْ لك لقمة واصبح صايم".

كان المسحراتي هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة موعد السحور (رويترز)

وكان مشهدا معتادا في القرية أن تجد من يقابل المسحراتي ويلومه على عدم المرور بحارته أو منزله، فيجيب المسحراتي أنه قد مرّ عندهم طالبا منه سؤال جيرانه، وهنا يمازحه الرجل بالقول "ابقى تقل إيدك ورجلك عندنا شوية"، يقصد أن يقرع الطبلة بشدة وألا يتعجل في الانصراف، وينصحه بالطرق على بابه بشدة كل مرة.

بينما هناك مسحراتي يفضّل أن تكون وسيلة إيقاظه للناس أكبر وأعلى صوتا، فيشترى طبلة كبيرة للغاية كتلك التي تصحب فرق الطبول والمزامير بالموالد، كي لا تكون للناس حجة عليه، فقد كانت تصل تلك الطبول إلى مسامع أحياء أخرى يمر بها المسحراتي صاحب الطبلة الصغيرة.

للمسحراتي نصيب من مخبوزات العيد ونادرا ما يأخذ أموالا إلا من ميسوري الحال (رويترز)

وفي نهاية الشهر الكريم وقبيل العيد، يحرص المسحراتي على المرور بالمنازل في المنطقة التي كان يوقظ الناس بها للسحور ومعه أولاده، فيعطيه الأهالي نصيبا من مخبوزات العيد من البسكويت و"الفايش" (نوع من الكعك يؤكل مع الشاي أو الحليب)، وغيرها من المخبوزات التي اشتهر بها الريف، ونادرا ما كان يأخذ أموالا إلا من ميسوري الحال.

نساء الريف في مصر يشتركن جميعا في صنع مخبوزات العيد في يوم واحد (الأوروبية)

طقوس مبهجة لكعك مختلف

يحرص كل بيت في القرى خلال الأسبوع الأخير من رمضان على خبز مخبوزات العيد من البسكويت والفايش والكعك في الفرن المبني من الطين، ولكن في فترة السبعينيات والثمانينيات، لم يكن الكعك المعروف حاليا الذي يؤكل بالسكر قد دخل القرية، ولكنه كعك كبير أقرب للخبز الشمسي وأقل منه سمكا، يخلط به السكر أثناء عجنه فيكون حلوا دون أن أي إضافة، ويسمونه في بعض القرى "قرص بالسكر".

النساء في ريف مصر يتناوبن على الفرن لخبز الكعك (الأوروبية)

وتوفيرا للوقود والوقت الذي يحتاجه الفرن من الخشب والقش والروث الجاف، كان كل عدة منازل يتفقون فيما بينهم على عمل مخبوزات العيد في يوم واحد، يشتركون جميعا في مراحله ويتناوبون فيه على الفرن، ثم يقسمون المنتج في نهاية اليوم الشاق الذي يحمل فرحة ومشاعر خاصة لدى الأطفال والكبار على حد سواء.

المصدر : الجزيرة