في الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني

كييف - أوكرانيا - (رمضان) صلاة التراويح في مسجد المركز الثقافي الإسلامي 1436هـ
الجزيرة

كثر الحديث، في العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا، عن راهنية تجديد الخطاب الديني، وارتفعت الأصوات هنا وهناك، تدعو إلى ضرورة الإسراع "بمراجعة جذرية وشاملة وعميقة، للطرق والأساليب والقوالب والصيغ والمناهج، التي تعتمد في مجال تبليغ مبادئ الإسلام وأحكامه وتوجيهاته ومقاصد شريعته إلى الناس كافة".

-1-

يختزل أصحاب هذه الأصوات مسألة تجديد الخطاب الديني في نقطتين اثنتين بانيتين لمطلبين أساسيين اثنين:

– المطلب الأول ويرتكز على "مسلمة" أن هذا الخطاب لم يعد يواكب، أو لا يواكب بما فيه الكفاية، ما حملته وسائل الإعلام الجديدة من مزايا كبرى، لم تكن مباحة أو متاحة في زمن الندرة التكنولوجية، حيث كانت "الرسالة" محصورة في المساجد، أو في الحلقات النقاشية الضيقة، أو من بين ظهراني بعض النوادي النخبوية المغلقة، فكان أثرها محدودا ومفعولها غير ذي وقع كبير بالنفوس والعقول.

المطلب هنا واضح ومباشر: ضرورة صياغة خطاب ديني يتساوق وطبيعة الوسيلة المتبناة، جريدة كانت أم محطة إذاعية أم قناة فضائية أم موقعا على الشبكات الرقمية أم ما سواها، بل وإعادة صياغة حتى ذاك الخطاب المقدم بالمساجد، بحكم الخاصيات الجديدة لمرتاديها والطبيعة المتجددة للحاجة إلى الدين وتوجهات التدين، الفردي منه والجماعي سواء بسواء.

من الضروري صياغة خطاب ديني يثمن الثابت المشترك، ويتجاوز على المختلف بشأنه، ويحاصر منابع الخطاب المتشدد، المرتكز على التأويل الجاف لمنطوق الدين والقراءة المتزمتة لروحه

– أما المطلب الثاني، والمنطلق من مجريات واقع الشأن الجاري، فيلاحظ بأن الصيغ والقوالب والطرق والأساليب التي ركب الخطاب الديني ناصيتها إلى عهد قريب، لم تستطع مواكبة "الظاهرة الدينية" في حركيتها وتموجاتها، فلم تفرز، ضمن ما أفرزته، إلا تشددا في الدين، وتقوقعا حول المذهب، وتطرفا في الموقف، وتكفيرا للآخر واستباحة لحرية معتقد الناس، أبناء العقيدة المشتركة كما المنتمين لباقي العقائد على حد سواء.

المطلب هنا واضح ومباشر أيضا: ضرورة صياغة خطاب ديني يثمن الثابت المشترك، يتجاوز على المختلف بشأنه، ويحاصر منابع الخطاب المتشدد، المرتكز على التأويل الجاف لمنطوق الدين والقراءة المتزمتة لروحه.

هذا في سياق المطلبين. أما في أسباب نزولهما، فيبدو أن توالي الأحداث في العالم العربي والإسلامي خلال العقدين الأخيرين، قد عجل بتجسيد المطلبين أعلاه، ووضع المؤسسات القائمة على الشأن الديني، كما الجماعات الدينية المختلفة، وضعها جميعا على المحك:

– فأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من العام 2001، كان لها تأثير قوي وأثر فعال في إعادة إحياء وتغذية الطروحات المبنية على الربط بين الإسلام والإرهاب، بل والمتبنية "لمسلمة" أن الأول هو مصدر الثاني، بالنصوص "القطعية" الصريحة التي لا تحتاج إلى اجتهاد، تقول ذات الطروحات، كما بالتأويلات المحتكمة إلى خلفيات هذا المذهب أو ذاك.

لم يكن المطلوب هنا، من منطوق "نظرية تجفيف منابع الإرهاب"، استئصال ذات النصوص بالجملة والتفصيل، باعتبارها المنبع المغذي "لفكر الإرهاب"، بل أيضا محاصرة الخطاب المحيل عليه، سواء كان ذلك بالمساجد والنوادي، أم اقتني لغرض بثه وإرساله بوسائل الإعلام واسعة الانتشار.

الخلفية بهذه الحالة كما بتلك، هي العمل إما على ضرب الفكر مباشرة، ما دام هو الأصل في تصور المنطوق أعلاه، أو التدثر بطبيعة الخطاب الرائج لضرب ذات الفكر بجريرته، بطريقة غير مباشرة.

– واشتداد عود الحركات التكفيرية، التي تعددت مشاربها وتنوعت غاياتها، وتوسع مجال فعلها واشتغالها، لم يعبر فقط عن استصدار من لدنها للفكر وللخطاب الدينيين، بل استصدر لفائدتها قضايا الفتوى المبتورة من سياقها، أو المحتكمة إلى وقائع في التاريخ حتمتها في حينه ظروف الزمن والمكان.

ولذلك، لاحظنا ولا نزال نلاحظ بأنه بقدر نجاح الحركات إياها في تسويق فكرها المتصلب، ومن بين ظهراني كل وسائل الترويج المتاحة، بقدر تزايد المطالب هنا وهناك بضرورة تجديد الخطاب الديني، إذا لم يكن لذاته وهو في حاجة إليه بكل الأحوال، فعلى الأقل لمواجهته والحد من مفاعيله.

بقدر نجاح الحركات إياها في تسويق فكرها المتصلب، ومن بين ظهراني كل وسائل الترويج المتاحة، بقدر تزايد المطالب بتجديد الخطاب الديني، إذا لم يكن لذاته وهو في حاجة إليه بكل الأحوال، فعلى الأقل لمواجهته والحد من مفاعيله

يبدو الأمر هنا كما لو أننا بإزاء رد فعل خالص، يصدر عن صاحبه عفويا وبصورة تلقائية، تماما كما يكون رد فعل من تداهمه المخاطر أو يكون عرضة للاستهداف.

وعلى هذا الأساس، فإن كل المبادرات، الرسمية كما غير الرسمية، التي تبنتها مؤخرا أطروحة تجديد الخطاب الديني (في مصر وتونس والعديد من دول الخليج) إنما أتت في سياق انتشار موجات الخطاب التكفيري، الممتطي لفكر لا أثر من أمامه ولا من خلفه لما يسمى الاختلاف أو الحوار، فما بالك الاجتهاد.

وعلى هذا الأساس أيضا، فإن كل سياسات إعادة هيكلة الحقل الديني (في المغرب مثلا) إنما نهلت ولا تزال تنهل من نفس المعين، معين محاولات إعادة مركزة هذا الحقل في إطار المؤسسات الرسمية دون غيرها، وتجفيف كل مصادر الفعل المضادة، سواء نبعت من علماء وفقهاء ذاتيين، أم أتت من مستويات أخرى، تتخذ من الدين مجالا للبحث والاشتغال أو دعامة للتوظيف السياسي ولما سواه.

-2-

لو سلمنا جدلا بأن الخطاب الديني في حاجة ماسة إلى الإصلاح، وفي حاجة أمسّ إلى التجديد، إما لذاته بحكم الترهل العميق الذي طاله، أو للحيلولة دون القراءة المتطرفة للدين، والبناء على أنقاضها لدرء الفتنة المترتبة عنها، وإطفاء نار الاحتراب التي توفر لها ما يكفي من هشيم، فإن ذات المطلب يبقى رهين توفير الرد على التساؤلين التاليين:

– الأول: هل هناك خطاب ديني واحد، جامع ومانع، يمكن الارتكان إليه لبناء مقومات خطاب ديني جديد ومتجدد؟

– الثاني: بتسليمنا أن سبل تجديد الخطاب الديني واردة وثابتة، فهل بمقدورها أن تقف في وجه الخطابات الدينية التي تمتطي ناصية التشدد والتطرف، لا على مستوى المرجعية والفكر فحسب، بل أيضا على مستوى الممارسة والخطاب؟

عندما يتوقف المرء عند السؤال الأول، فسيلحظ حتما أنه ليس ثمة على أرض الواقع خطاب ديني واحد وناظم، بقدر وجود خطابات متعددة ومتباينة لدرجة التناقض في بعض منها. إذ هناك خطابات سلفية موغلة في التشدد، وأخرى محافظة وأقل غلوا، وثالثة وسطية أو معتدلة وأخرى متحررة، وقس على ذلك.

ثم هناك إلى جانب هذا وذاك، خطابات نابعة من المؤسسات الدينية الرسمية (سلفية هنا، محافظة ومعتدلة هناك) وأخرى صادرة عن تنظيمات ومجاميع خارج المؤسسات الرسمية. ثم هناك، في تصنيف ثالث، خطابات تشدد على منطوق الدين وحرفيته، وأخرى تدفع بضرورة الأخذ بروحه ومقاصده، لبناء خطاب ديني يستلهم من الدين قيمه وأخلاقه ومقاصده الكبرى.. وهكذا دواليك.

نعتقد أن غايات التوظيف السياسي والأيديولوجي للنص الديني من لدن هذه الجهة كما من لدن تلك، إنما كان من تبعاته، ولا يزال، إفراز فكر ديني متحجر، يركب ناصية التكفير في مقارعة الخصم لخصمه

بالتالي، فـ تعدد الخطابات الدينية يحول حتما دون سبل "تجميعها" في سلة واحدة على أمل تجديدها، ليس فقط على اعتبار تباين مرجعيتها وطبيعتها، بل أيضا بحكم صعوبة (لدرجة الاستحالة) إيجاد الخيط الناظم الذي سيكون من شأنه إن لم يكن توحيد منطوقها، فعلى الأقل توفير الحد الأدنى من التواصل لتجسير الفجوة القائمة بينها.

أما عن السؤال الثاني، عن مدى نجاعة وفعالية تجديد الخطاب لمواجهة تيارات الخطابات الدينية المتشددة، فيبدو أن عناصر جوابه تبقى هي الأخرى رهينة بمرجعية وطبيعة الخطاب في حد ذاته، أي في مقصوده وفي الغاية منه.

والخطاب الملمح هنا ليس كلاما عابرا يقتني هذه الوسيلة الترويجية المتاحة أو تلك. إنه "مجموعة من المعايير المعرفية والأخلاقية، المتناسقة في منظومة فكرية ولغوية واحدة، لها حدودها التي تفصلها عن باقي المعايير والخطابات".

وهي (أعني المنظومة) غالبا ما تكون مرتبطة بتموجات الواقع، "تتحرك في سياقات محددة ومعينة من خلال اللغة المحكية والمكتوبة، وطرق التواصل في مجتمع صغير أو كبير، تحدد تلك اللغة طريقة التعامل بين من يتبنون ذلك الخطاب مع من يتبنون خطابات أخرى".

وعلى هذا الأساس، فإننا نجد مثلا أن الخطاب السلفي، المتبني لقراءة معينة للنص الديني، مرتكزة على ما تركه السلف الصالح بالتحديد، يحتكم إلى منظومة معيارية "ترفض كل قيمة عقلية متجددة، وترفض كل قيمة لها جذور غربية"، أو تتطلع للتطور في أفق التجديد بناء على تطور مجريات واقع الحال.

ثم إن لهذا الخطاب بيئته الاجتماعية والسياسية، فنجده يتحرك بالمساجد والأحياء من خلال ناشطين يروجون له عن قرب، تماما كما يروج له الخطباء والدعاة من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية المتاحة. بالتالي، فطبيعة خطاب هؤلاء، كما ملبسهم وآليات مخاطبتهم للناس وطرق نشرهم للدعوة، تميزهم حتما عما سواهم، بل وتشي بسمات العقلية الفردية والجماعية التي تطبع وعيهم وسلوكهم في الزمن والمكان.

ما يقال عن الخطاب السلفي، بكل أطيافه ومشاربه، يمكن أن يقال عن باقي الخطابات، إذ كلها رهينة منظومة سميكة، لا يستطيع المرء اختراقها أو التواصل معها، أو توفير القابلية لدى من يتبنونها للتحاور معهم أو مخاطبتهم حتى.

ولذلك، فطالما بقي الأمر كذلك، فإنه من المتعذر حقا تجديد هذا الخطاب أو ذاك، فما بالك ضمان نجاعة تصدي هذا لذاك.

-3-

أكبر مشكلة تواجه مسألة تجديد الخطاب الديني إنما الرفض الذي نلاحظه، من لدن المؤسسات الدينية الرسمية، والجماعات المتشددة، في التعامل مع النص الديني بما يضمن التعبير عن مجاراته للعصر والنأي به عن التشدد والتطرف

إن تجديد الخطاب الديني هو بالبداية وبالمحصلة النهائية، تجديد لآليات وطرق التواصل التي لا تلائم وتناسب احتياجات المتلقين، في زمن بات فيه للكلمة والصوت والصورة وقع كبير في أساليب تمثل الرسالة المبثوثة. وهو من هنا (أعني التجديد) لا يطال جوهر الفكر أو مكنون النص المقدس. إنه يشتغل على المسالك الناجعة لضمان سريانه وتوصيله للمتلقي بالصيغة المثلى.

بيد أن هذا لا يعني أن لا مشكلة تذكر مع الفكر، وبالمحصلة مع النص المقدس. إذ أن خطابا ما، مرتكزا على تفسير ما للنص الديني، وإدراجه في إطار "المعين السردي" المنتقي لوقائع تاريخية محددة، بإمكانه أن يفرز لنا ممارسات على الأرض لا يرضاها لا الله ولا رسوله ولا المؤمنون. وهو ما نشهده بقوة في خطاب الجماعات المتشددة وممارسات المجموعات التكفيرية.

بالقدر ذاته، فإن مبالغة الخطاب الديني في تقديم دروس في الوعظ والإرشاد جافة، قد يحرم النص الديني من مبادئه الكبرى في الإصلاح ومقاصده المتضمنة لمبادئ التغيير. بالتالي، فإن مسألة تجديد الخطاب الديني لا تبدو ناجعة أو ذات فاعلية كبرى، لأن "المشكلة مازالت قائمة في أصل طريقة التواصل مع النص". أي أن الغرض لن يقضى لو ارتكن إلى الدعوة إلى ضرورة تجديد الدين، وترَك -جانبا- تجديد ما يبنى من خطاب على أساس من فهم له، أو تأويل لمضامينه، أو اجتهاد في تفسير مقاصده وغاياته.

ولذلك، فإن أكبر مشكلة تواجه مسألة تجديد الخطاب الديني إنما الرفض الذي نلاحظه، من لدن المؤسسات الدينية الرسمية، كما من لدن الجماعات المتشددة، في التعامل مع النص الديني بما يضمن التعبير عن مجاراته للعصر والنأي به عن التشدد والتطرف والغلو.

إننا نعتقد بأن غايات التوظيف السياسي والأيديولوجي للنص الديني، من لدن هذه الجهة كما من لدن تلك، إنما كان من تبعاته -ولا يزال- إفراز فكر ديني متحجر، يركب ناصية التكفير في مقارعة الخصم لخصمه، وخطاب ديني يبدو للمرء وهو يتأمله ولكأن الكل -في ظل الدين- بات مع الكل ضد الكل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.