اختراق لا تطبيع

اختراق لا تطبيع

ضربة كيميائية
ربيع كامب ديفيد
حلول ومقترحات

يحلو لنخبنا الوطنية أن تطلق على العلاقات التي تقيمها دولنا العربية مع "إسرائيل" مصطلح التطبيع، لكن الحقيقة أن ما تتعرض له تلك الدول من خلال تلك العلاقات ليس تطبيعا وإنما له مسميات أخرى.

وإذا ما اعتبرنا مصر نموذجا لذلك، من منطلق أنها أول دولة عربية تطبع علاقاتها مع "إسرائيل"، وأبرمت معها اتفاقية تسوية سلمية في 26 مارس/آذار من عام 1979، فسنتوقف مع المؤتمر الصحفي الذي عقده الجنرال عاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) في أواخر عام 2010 بمناسبة إحالته للتقاعد، حيث استعرض من خلاله إنجازاته، والتي من أهمها اختراق أهم الدول العربية والإسلامية.

وقال يادلين: مصر الملعب الأكبر لنشاطاتنا، فلقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي داخلها.

يادلين: مصر الملعب الأكبر لنشاطاتنا، فلقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية وعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي داخلها

وأشار المسؤول الإسرائيلي السابق إلى أن ذلك أدى إلى توليد بيئة مصرية متصارعة ومتوترة دائما، ومنقسمة إلى أكثر من شطر، في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك عن معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر.

وعندما قال المسؤول الإسرائيلي السابق هذا الكلام، كان حسني مبارك لايزال يحكم مصر، وكان يبدو للكافة أيضا أن نظامه لايزال متماسكا، وذلك على الرغم من الكراهية الشعبية لهذا النظام.

وبعد تفجر ثورة ٢٥يناير/كانون الثاني من عام ٢٠١١، وتنحي حسني مبارك عن الحكم، وما تلا ذلك من تداعيات، تبين لنا أن عاموس يادلين لم يكن يخرف أو يهزأ، إنما الرجل كان جادا لكون مصر منذ خلع الرئيس مبارك من السلطة وحتى الآن لم تشهد أي نوع من الاستقرار في أي مجال.

ضربة كيميائية

وقبل تصريحات عاموس يادلين، كُنا نعتقد أن الاختراق الإسرائيلي للمجتمع المصري ربما ينحصر في إطار اتفاقية كامب ديفيد وملاحقها، تلك الاتفاقية التي تلزم مصر بالتطبيع الاقتصادي والسياسي والثقافي مع "إسرائيل".

وهو التطبيع الذي لم يتم تفعيله إلا في المجال الزراعي فقط، بينما ظل التطبيع بين القاهرة وتل أبيب في بقية المجالات الأخرى هامشيا، وربما يرجع ذلك للمقاومة التي لاقاها من قبل أبناء الشعب المصري الرافضين له.

ولقد اتضح للمصريين خطورة آثار التطبيع الزراعي على صحة الإنسان والحيوان ونظافة البيئة، تلك الخطورة التي تجلت بوضوح في تفشي أمراض خبيثة بين المصريين مثل السرطان والفشل الكلوي والكبدي والعقم.

وقال الأستاذ الدكتور محمد غنيم، وهو من أبرز خبراء المسالك البولية والكلى في مصر، وناشط سياسي معروف، إن معدلات نسب تفشي أمراض الكبد والكلى في مصر تفوق نظيرتها في أي دولة بنسبة تصل إلي ٦٠٠%.

وتحتل مصر المرتبة الأولى في العالم الآن من حيث تفشي أمراض السرطان والكبد، حيث كشفت دراسة أجرتها جامعة المنصورة أن مائة ألف مواطن يصابون بالسرطان سنويا بسبب تلوث الغذاء والمياه، وأن أكثر من 35 ألفا يصابون بالفشل الكلوي، و30% من أبناء مصر أيضا يعانون من أمراض الكبد.

وقد أكد مؤتمر لسلامة الغذاء عقد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن ثلاثين مليون مصري مصابون بالأمراض المزمنة بسبب التلوث الزراعي.

ومن الواضح أن مستلزمات الإنتاج الزراعية الإسرائيلية المصدرة لمصر، لم تكف خبراء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، لكي يوجهوا من خلالها ضربة كيميائية وبيولوجية للمصريين عبر هذا النوع من التعاون الزراعي، وإنما كان هؤلاء الخبراء بتلك الأجهزة يعملون ضد مصر على جبهة أخرى هي في الواقع أكثر خطورة، ويستخدمون سيف المعز وذهبه، ويستغلون علاقاتهم بواشنطن في تجنيد عناصر داخل المجتمع واختراق الجبهة الداخلية المصرية في عصبها وبكل المجالات.

ونتيجة لهذا الاختراق نجد عوامل الفوضى والعنف وعدم الاستقرار، وبوادر الاقتتال الداخلي تعصف بمصر الآن.

اتضح للمصريين خطورة آثار التطبيع الزراعي على صحة الإنسان والحيوان ونظافة البيئة، تلك الخطورة التي تجلت بوضوح في تفشي أمراض خبيثة بين المصريين مثل السرطان والفشل الكلوي والكبدي والعقم

وحول ما تعرضت له الزراعة المصرية بسبب التطبيع مع تل أبيب، قال الدكتور محمد عباس، وهو ملحق زراعي مصري سابق في واشنطن، وقبلها كان يشغل موقع وكيل أول وزارة الزراعة، في دراسة قيمة له كان قد رفعها للرئيس المخلوع حسني مبارك، إن التنمية الزراعية في مصر أوقفت عن عمد لصالح "إسرائيل".

ولعبت الولايات المتحدة دورا مهما في الضغط على السلطات المصرية عبر المعونات والمساعدات التي تقدمها لقطاع الزراعة المصري من أجل توظيفها بمجال التطبيع مع تل أبيب وتنفيذ مشروعات ثلاثية بين القاهرة وواشنطن وإسرائيل بمجالات الزراعة المتعددة.

وتلك المشروعات الثلاثية مثل مشروع النارب، تم من خلالها الاستيلاء على سلالات مصرية مثل "أقطان البيما"، وذلك بمعرفة خبراء واشنطن وتل أبيب، ومحو الأقطان المصرية وراثيا، وإرسال خريجين مصريين لتلقي تدريبات على الزراعة.

ربيع كامب ديفيد
ولذلك ينظر الخبراء في القاهرة إلى عقدي الثمانينات والتسعينات وأوائل العقد الماضي بمثابة ربيع للتطبيع مع تل أبيب.

وأذكر أنني استمعت إلى كلمة للدكتور يوسف والي نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة الأسبق، في كلمة ألقاها في ندوة تم عقدها له خصيصا في جامعة القاهرة أواخر التسعينات، حيث وقف خلالها يخطب في مئات الأساتذة, ويهاجم من ينتقدون التطبيع مع تل أبيب، وقال إنه لو كان مكان رئيس الوزراء لأمر بالتحقيق مع أي وزير بحكومته لا يطبع العلاقات مع "إسرائيل" في مجاله.

وأرسل يوسف والي، والذي كان يشغل أيضا موقع الأمين العام للحزب الوطني الحاكم بمصر وقتها، شباب هذا الحزب إلى مركز "شيمون بيريز "للسلام بتل أبيب لكي يتلقوا تدريبات ضمن شبكة قادة المستقبل التي أقيمت في إطار المركز، وتضم شبابا من "إسرائيل" والأردن والسلطة الفلسطينية ومصر.

ولم يكتف بذلك إنما شرع يوسف والي في تكليف شركة "فيروسوفت " الإسرائيلية من أجل تشييد شبكة معلومات زراعية لمصر، تربط كل إدارات وزارة الزراعة، وهو مشروع تداركت خطورته الأجهزة المصرية ونجحت في إيقافه.

ومن المهم أن نشير إلى أنه بعد قيام ثورة ٢٥ يناير المصرية كاد التطبيع مع الكيان الصهيوني يتوقف تماما ويتحول إلى ذكرى, لاسيما في عهد الرئيس الدكتور محمد مرسي حيث أمر بوقف شراء مستلزمات الإنتاج الزراعية من إسرائيل، وحتى مشروعات الكويز بمجالات الغزل والنسيج بدأ التعاون فيها يتقلص ويضعف بين الجانبين.

وبدأت الزراعات المصرية وخصوصا الخضر والفاكهة تتعافى من مستلزمات الإنتاج الإسرائيلية، ومن التلوث، وبالفعل ظهر ذلك في طعم الثمار واكتمال نموها بشكل طبيعي وعدم تلفها بسرعة بعد قطعها من أشجارها.

غير أنه منذ أن تمت عملية الإطاحة بالرئيس مرسي وتعيين حكومة انقلابية تولى تلميذ يوسف والي الدكتور أيمن فريد أبو حديد المسؤولية عن قطاع الزراعة وبدأ اتصالاته من جديد بالدوائر الزراعية الإسرائيلية لاستئناف التطبيع.

وطبقا لما كشفته مصادر, فقد تم بالفعل عقد لقاء اتخذ طابعا سريا بين الوزيرين المصري والإسرائيلي على هامش اجتماعات زراعية دولية تمت في مطلع العام الجاري بألمانيا, واتفق الجانبان المصري والإسرائيلي على استئناف التطبيع الزراعي مرة أخرى.

حلول ومقترحات
وفي ظل عدم توفر الإرادة السياسية الآن بمنع الاختراق أو بوقف التطبيع الزراعي مع تل أبيب، اقترح علماء الزراعة والصحة بالقاهرة بعض الإرشادات في التعامل مع الخضر والفاكهة الملوثة من بينها غسلها جيدا بالخل وبعض المطهرات، إضافة للمياه الجارية, التي لا تؤثر على صحة الإنسان.

ما ينطبق على مصر يمكن أن ينطبق على كل الدول العربية، وخصوصا الأقطار التي طبّعت مع إسرائيل لاسيما وأن هناك شركات غربية تتولى تسويق مستلزمات الإنتاج الإسرائيلية بالأسواق العربية

وليست تلك الإرشادات إلا اجتهادات ومسكنات لا تمنع الآثار الناجمة عن تراكم النترات والمواد الكيميائية داخل أنسجة الخضر والفاكهة، أو تراكم متبقيات الأعلاف المعاملة وراثيا داخل أنسجة الأسماك ولحوم الدواجن والثروة الحيوانية.

وكان لابد من إيجاد حلول جذرية لهذا الخطر القادم من "إسرائيل". ولهذا برزت للوجود أهمية الأدوار التي يمكن أن تلعبها أجهزة الدولة السيادية المعنية بالأمن القومي، إلى جانب دور أجهزة الرقابة على الصادرات والواردات بشكل يحمي صحة المواطن ويمنع تلوث البيئة.

ونؤكد بأن دور تلك الأجهزة غير كاف، وهي في حاجة ماسة لقرار سياسي يطلق يدها في العمل على حماية الوطن، وإمدادها بأجهزة حديثة, وكوادر بشرية على مستوى عال من الخبرة, من أجل منع تسرب أي مواد زراعية وغير زراعية أو مستلزمات إنتاج ضارة إلى داخل مصر، هذا فضلا عن تكثيف الحراسة على الموانئ والحدود لمنع عمليات التهريب لتلك المواد الضارة إلى داخل الدولة.

وما ينطبق على مصر يمكن أن ينطبق على كل الدول العربية، وخصوصا الأقطار التي بدأت علاقات تطبيع مع إسرائيل لاسيما وأن شركات أوروبية وأميركية تتولى تسويق مستلزمات الإنتاج الإسرائيلية بالأسواق العربية المختلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.