خلفيات المشهد السياسي التونسي

تونس.. الجمهورية الثانية

أطلقت تحليلات وتعليقات سياسية أحكاما نمطية على الانتخابات النيابية التونسية حول فوز العلمانيين وهزيمة الإسلاميين، ولم تلتفت إلى مغزى التغيير الذي حصل في المشهد السياسي التونسي، إن لجهة تراجع الثورة وتواضع نتائجها أو لجهة احتمال عودة النظام القديم ورموزه وسياساته.

لم تنطلق الثورة في تونس ترفا أو عبثا بل لحاجة موضوعية إلى التغيير السياسي والاقتصادي بعد أن عجز النظام البورقيبي -بمرحلتي بورقيبة وبن علي- عن مواجهة قضايا المجتمع في مجالات الهوية والاستقرار الاجتماعي والتنمية، حيث بقيت تونس تتأرجح بين خيارات متعددة: العرب، وأفريقيا، والمتوسط، وأوروبا، والإسلام، والعلمانية، والاشتراكية، والليبرالية، وتتبنى مواقف آنية لاعتبارات مرحلية ضاغطة، إضافة إلى انتشار الفقر والبطالة وتراجع مستوى الخدمات واستشراء الفساد ونهب المال العام أيام بن علي.

عاشت تونس فترة طويلة من 1956-1987 تحت سلطة "المجاهد الأكبر" الحبيب بورقيبة الذي حكمها زعيما أكثر منه رئيسا، حكمها حكما فرديا مطلقا، كانت علاقته بالدولة كعلاقة لويس الـ14 صاحب مقولة "الدولة أنا، وأنا الدولة"، وإجابته عن سؤال صحفي عن السبب وراء عدم امتلاكه حسابا مصرفيا تعكس ذلك بوضوح، حيث قال "ما حاجتي لحساب مصرفي طالما أن الشيك الذي أوقعه يصرف؟".

كان بورقيبة مصابا بجنون العظمة، صحيح أنه نجح بعد الاستقلال في تحسين وضع البلاد وتنميتها وتجنيبها خضات كبيرة، وتعامل مع المواطنين بطريقة أبوية، لكنه خلق -مع الوقت- حالة عدم رضا بينهم نتيجة اختياراته الثقافية والسياسية والاقتصادية، فقد أغلق الفضاء السياسي على الحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي الدستوري) وعلى أفكاره الخاصة.

لم تنطلق الثورة في تونس ترفا أو عبثا بل لحاجة موضوعية للتغيير السياسي والاقتصادي بعد أن عجز النظام البورقيبي -بمرحلتي بورقيبة وبن علي- عن مواجهة قضايا المجتمع في مجالات الهوية والاستقرار الاجتماعي والتنمية، حيث بقيت تونس تتأرجح بين خيارات متعددة

وتصرف كمعلم للشعب، حيث تبث أقواله بالصوت والصورة قبل كل نشرة أخبار في التلفزيون الوطني تحت عنوان "من توجيهات الرئيس"، يتحدث فيها عن كل القضايا من قضايا المعيشة إلى العلاقات الأسرية والجنسية إلى السياسة والدين، انطوى بعضها على استفزاز لإيمان المواطنين.

قال في أحد توجيهاته "إنه مثل سيدنا محمد جاء إلى تونس فوجدها قبائل وعشائر متنافرة متباغضة فوحدها، وإنه يختلف عن النبي لأنه عمل بوحي عقله، بينما النبي كان يتبع تعليمات الوحي".

واستخدم إمكانيات الدولة ووسائلها الإعلامية لتأكيد خصوصيته وتفوقه وتحويله إلى رمز مقدس، فقد كانت الإذاعة التونسية تفتتح برامجها بما تسميها "مدائح وطنية" على وزن مدائح نبوية، إحدى هذه المدائح تقول "سيد الأسياد يا حبيب بورقيبة الغالي محرر البلاد.. إلخ". 

وفي أحد تجلياته قال في حديث أمام طلبة الجامعة التونسية "إنه ليس عاديا ومعجزة فقد أنجب رغم أنه بخصية واحدة".

عزل بورقيبة الإسلام وحد من دوره في المجتمع، وعامل خريجي جامعة الزيتونة الإسلامية باحتقار وإهمال بحيث لم تقبل شهاداتهم في معظم الوظائف العامة، وبالغ في توجهه المعادي للدين لدرجة الدعوة إلى الإفطار في رمضان لأن للصيام تأثيرا سلبيا على الإنتاج، وكرس الفرنسية لغة رسمية في مؤسسات الدولة رغم ما ورد في الدستور "تونس دولة مستقلة ذات سيادة، العربية لغتها والإسلام دينها"، وحارب التوجه العربي حتى ساء ظن التونسيين بالعرب وشاعت بينهم مقولة "إذا عُربت خُربت".

وإذا كان صحيحا أن مجلة الأحوال الشخصية قد أنصفت المرأة نظريا فإن الصحيح كذلك أنها نزلت على واقع اجتماعي وثقافي غير مستعد لذلك، مما أفرز مشكلات اجتماعية وأسرية خطيرة من ارتفاع نسبة الطلاق ارتفاعا جنونيا، إلى تفكك الأسرة وتفشي الخيانة الزوجية، ناهيك عن الاحتيال على القانون، ففي مواجهة منع تعدد الزوجات عمد الرجال -خاصة في الريف- إلى الزواج بأكثر من زوج وتسجيل كل الأولاد باسم الزوج الأولى.

هذا إضافة إلى علاقة صراعية بين الرجال والنساء، فلم يعد غريبا أن ترى رجلا يضرب جارته، أو موظفا يضرب زميلته في الشارع لأنها وشت به للإدارة بسبب تأخره في الحضور إلى العمل، وقد ضرب بورقيبة نفسه مثلا في احترامه المرأة بعد أن غدا رئيسا عندما أرغم زوج "وسيلة" التي سبق ورفض أهلها تزويجها له فتزوج من فرنسية على تطليقها ليتزوجها هو وتصبح "الماجدة وسيلة بورقيبة"، ولم يكن بن علي أفضل حالا فقد كان متزوجا وله عشيقة هي "ليلى بن علي" أنجب منها أطفالا دون زواج وعاد وتزوجها بعد أن أصبح رئيسا.

كل ذلك خلق رد فعل اجتماعي وثقافي وشكل حاضنة لولادة التيار الإسلامي ممثلا في حركة الاتجاه الإسلامي التي أسسها الأستاذ راشد الغنوشي (غادر تونس للدراسة في مصر، انتقل بعدها إلى سوريا وهو ناصري وعاد إخوانيا) عام 1981، تعبيرا عن رد المجتمع على جملة مواقف حكومية وبورقيبة شخصيا.

لم تكن حركة الاتجاه الإسلامي متميزة عن حركات الإسلام السياسي في مصر والمشرق العربي، فخلفيتها الإخوانية وما تنطوي عليه من تركيز على أولوية الإمساك بالسلطة واستخدام القوة لتحقيق ذلك أديا إلى لجوء جناحها الطلابي إلى العنف ضد خصومه السياسيين في الجامعات

لم تكن حركة الاتجاه الإسلامي متميزة عن حركات الإسلام السياسي في مصر والمشرق العربي، فخلفيتها الإخوانية (انشق عنها مبكرا الثنائي أحميده النيفر وصلاح الدين الجورشي، وشكلا ما عرف بحركة الإسلاميين التقدميين)، وما تنطوي عليه من تركيز على أولوية الإمساك بالسلطة واستخدام القوة لتحقيق ذلك أديا إلى لجوء جناحها الطلابي إلى العنف ضد خصومه السياسيين في الجامعات فخرب نشاطاتهم الثقافية والفنية، وضد النظام، حيث قام أعضاء من الحركة بمهاجمة مقر للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في حي القصبة بالعاصمة تونس يوم 17/2/1991، وضربوا أعضاء من الحزب المذكور كانوا يناوبون فيه قبل أن يصبوا عليهم البنزين ويوقدوا فيهم النار وهم أحياء، ولم يجد الغنوشي في ما حصل سوى رد فعل على عنف السلطة.

الغنوشي ذاته -على تميز مواقفه الفكرية والسياسية بالمرونة والاعتدال- لم يقطع مع فكر الجماعة وخياراتها، فقد كتب تقويما لكتاب "عن العروبة والإسلام" للدكتور عصمت سيف الدولة أطنب في مدحه ومدح مؤلفه ولكنه أخذ عليه رفضه عودة نظام الخلافة الإسلامية، وعبر عن تمسكه بعودة الخلافة مؤخرا في حديث له مع قادة السلفية في تونس، والطرافة أن كوادر الحركة رفضوا التقريظ لأنهم كانوا في اشتباك مع تيار قومي في الجامعة يتبنى أطروحات سيف الدولة.

اصطدم بورقيبة مع المجتمع وقواه الثقافية والسياسية والاجتماعية كثيرا، لكن أخطر الاصطدامات كان في مناسبتين، ففي عام 1978 اصطدم باتحاد الشغل، فتحولت الاضرابات والتظاهرات إلى مجازر ذهب ضحيتها العشرات، تطوع ضابط الشرطة زين العابدين بن علي بسحقها (قتل فيها بحدود المائة مواطن) بعد أن رفض وزير الدفاع تحمل مسؤولية إنزال الجيش للقيام بالمهمة، فكافأه بورقيبة بنقله إلى السلك الدبلوماسي وأرسله سفيرا لتونس في بولندا، وقد استدعاه عام 1984 للتصدي للتظاهرات الشعبية التي انفجرت بعد رفع أسعار مشتقات الطحين وعينه وزيرا للداخلية.

لم تهدأ "انتفاضة الخبز" إلا بعد تراجع الحكومة عن رفع الأسعار، ولكن تونس لم تعد كما كانت قبل ذلك فتجددت التظاهرات بعد أكثر من عامين لكن بخلفية سياسية إسلامية رفعت شعارات تمس بورقيبة شخصيا، ومطالب على الضد من سياسته، فطلب اعتقال قادة التظاهرات وهم قادة حركة الاتجاه الإسلامي، وطلب من رئيس وزرائه الحكم عليهم بالإعدام، كان رئيس الوزراء حينها رشيد صفر، ولما جادل في قانونية الطلب أقاله وعين بن علي مكانه فكانت فرصة ربما انتظرها الأخير طويلا، فشكل لجنة طبية قررت بعد "فحص" بورقيبة عجزه عن القيام بواجبات رئيس جمهورية، وتمت إقالته يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1987 عن عمر ناهز الـ83، قال العارفون "إن العملية تمت بتوجيه من السفارة الأميركية التي كانت قد بدأت تخترق شمال أفريقيا وتنافس فرنسا على النفوذ فيه، للتخلص من بورقيبة الفرنسي الهوى".

جاء بن علي من قوى الأمن الداخلي، ذخيرته الثقافية والعلمية متواضعة، لا يمتلك خلفية رجل دولة ولا خبرة سياسية، عبر عن بؤس ثقافته وخبرته السياسية في إجابته عن سؤال حول الوضع في بولندا خلال صعود نقابة التضامن، حيث كان سفيرا لتونس أيامها، فرد "ليس هناك أي شيء، لقد اعتقلوهم جميعا وألقوهم في السجن".

أحاط نفسه -بناء على نصائح أميركية- بعدد من المثقفين والخبراء، وفتح الفضاء السياسي والإعلامي كي يحول الأنظار عن وصوله إلى السلطة بطريقة غير شرعية، وعاد وأغلقه بعد أن أجرى انتخابات نيابية ورئاسية وفاز بها، وبدأ حملة كبيرة لتصفية المعارضة التي اتضح حجمها وعمقها وجذريتها.

حركة النهضة وحدها تحدت قرارات النظام وتصدت له عمليا بالتظاهرات والتجمعات الشعبية، خاصة بعد ما ساءت العلاقات مع نظام بن علي، وتعرضت لحملة قمع قاسية ودموية، فلم يتورع بن علي عن أي ممارسة للتشهير بخصومه وتدمير سمعتهم الأخلاقية ومحاصرتهم اجتماعيا وإحباط تحركهم

في فترة الانفتاح القصيرة صدر قانون الأحزاب فتقدمت حركة الاتجاه الإسلامي للحصول على ترخيص فطلب منها تغيير الاسم (يمنع قانون الأحزاب الذي صدر تشكيل أحزاب عرقية، أو قومية، أو طائفية، أو دينية) وتعديلات في البرنامج السياسي، وقد حصل وغدا الاسم حركة النهضة، ومع ذلك رفض الطلب وبدأت حملة اعتقالات طالت الآلاف أحيلوا إلى المحكمة بعد فترة تحقيق.

وقد تعمدت السلطة إجراء المحاكمة بصورة علنية لإثارة الرعب في المجتمع، حيث مثل المعتقلون في حالة يرثى لها، أحدهم مكسور اليد وآخر مفقوء العين وثالث على نقالة، واستمر التنكيل بالمعتقلين بعد أن أنهوا محكوميتهم بفرض برنامج يومي لمراجعة أقسام الشرطة، حيث على المطلق سراحه إثبات وجوده يوميا في ثلاثة أقسام في مناطق تبعد عن بعضها عشرات الكيلومترات، بحيث يقضي النهار يتنقل بينها، ناهيك عن التكلفة المادية في ضوء تسريحه من العمل لدى الدولة ومنع القطاع الخاص من استخدامه.

كان في تونس أحزاب أخرى، بعضها حقيقي (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، والتجمع الديمقراطي التقدمي) وبعضها مصطنع (الاتحاد الديمقراطي الوحدوي، والحزب الاجتماعي.. إلخ) غير أنها جميعا تعايشت مع المشكلات والأزمات وتعاطت معها برد فعل منخفض الحدة.

حركة النهضة وحدها تحدت قرارات النظام وتصدت له عمليا بالتظاهرات والتجمعات الشعبية، خاصة بعد ما ساءت العلاقات مع نظام بن علي، وتعرضت لحملة قمع قاسية ودموية، ولم يتورع بن علي عن أي ممارسة للتشهير بخصومه وتدمير سمعتهم الأخلاقية ومحاصرتهم اجتماعيا وإحباط تحركهم، فلجأ إلى أساليب لا أخلاقية مثل توزيع شريط فيديو مركب للأستاذ عبد الفتاح مورو (محام، ونائب الغنوشي في قيادة النهضة) وهو يمارس الجنس مع زبونة على سجادة الصلاة في مكتبه، وشريط آخر للأستاذ علي العريضي -وهو من قادة النهضة تسلم رئاسة الوزراء مؤخرا- وهو يمارس الفاحشة مع حدث.

لذا لم يكن غريبا أن تفوز حركة النهضة في انتخابات البرلمان المؤقت وتدير البلاد ضمن الترويكا، فقد كافأها المجتمع على تصديها لنظام بن علي المستبد والفاسد، أما تراجعها النسبي في الانتخابات البرلمانية فارتبط بعدة عوامل: نهم النهضة للسلطة، ورد فعل القوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية ضد تصرفها الاستحواذي، والاحتقان السياسي الذي نجم عن بروز تيار سلفي جهادي، ورد فعل المجتمع وقواه السياسية وتحميل "النهضة" المسؤولية لقبولها التعايش مع السلفيين، واحتقان اجتماعي نتيجة ارتفاع نسبة البطالة وفشل الترويكا في تحسين ظروف البلاد الاقتصادية وجلب الاستثمارات، ومناخ رسمي عربي مضاد للربيع العربي ونتائجه، خاصة تسلم الإسلام السياسي الحكم، ودعم خصومه في هذه البلدان.

المأزق الآن في النتائج غير الحاسمة للانتخابات البرلمانية، حيث إن حزب "نداء تونس" الذي حل بالمرتبة الأولى بـ85 مقعدا لن يستطيع تشكيل حكومة دون الدخول بتحالفات مع أحزاب أخرى، وفيها أحزاب من رجالات العهد السابق، كما أنه لن يستطيع تمرير قرارات في البرلمان دون صفقات ترضي الأحزاب الأخرى، بما فيها حركة "النهضة" التي جاءت في المرتبة الثانية بـ69 مقعدا، والتي دون التفاهم معها حاجز مرتفع سببه تبشير بعض قادة "نداء تونس" بعودة البورقيبية خصم النهضة التاريخي، مما ينذر بضياع فرص التغيير، وبحالة عدم استقرار مديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.