المجتمع المدني ودوره في الصعود الحضاري

العنوان: المجتمع المدني ودوره في الصعود الحضاري - الكاتب: إبراهيم ديب

undefined

تتداول الحضارات والأمم وفق سنن وقوانين جارية لا تتبدل، هذا ما اتفق عليه فلاسفة ومفكرو الغرب والإسلام حين بحثوا في فلسفة نشوء وتداول الحضارات. ويذكر بن خلدون أن الأحداث التاريخية وأسبابها يحددها الواقع الاجتماعي، فهي نتاج له، وأن هناك دورة تمر بها الدولة وتتداول في طريق حلزوني لا مستقيم.

وما استند إليه آرنولد توينبي في تفسيره لفلسفة التاريخ عبر نظريته الشهيرة التحدي والاستجابة، والتي تتوافق وتتكامل مع ما ذهب إليه جمال الدين الأفغاني حين أكد على أن الأزمة تلد الهمة، والتي تعني أن من ضرورة تعرض الحضارات للتحدي باعتباره شرطاً أساسياً لنهوضها وارتقائها.

على هذا يعتبر التاريخ سلسلة من التحديات والاستجابات.
وعلى نفس هذا الانسجام الفكري يجد مالك بن نبي في فلسفته مركب الحضارة أن المجتمعات تستكمل أدوات نهوضها لتنهض وتتداول في دورات متتالية.

الدورة الحضارية جارية والذي يحدد سرعتها هو قوة فعل الاستمرار والتمكين لدى كل حضارة، قوة فعل الاستمرار عند الحضارة السائدة، وقوة فعل التمكين عند الحضارة القادمة

نخلص من ذلك إلى أن الدورة الحضارية جارية والذي يحدد سرعتها هو قوة فعل الاستمرار والتمكين لدى كل حضارة، قوة فعل الاستمرار عند الحضارة السائدة ، وقوة فعل التمكين عند الحضارة القادمة.

الكثير من المؤشرات تدلل على أن الصعود الحضاري القادم يحمل شارة الإسلام والعروبة, بالتأكيد الربيع العربي وصعود تيار الإسلام السياسي ووصوله إلى الحكم والسلطة بشكل متتال في العالم العربي ليس من قبيل الصدفة، ولا يمكن تفسيره على أنه حالة دينية أو حركية أو سياسية فقط, ولكنها تأتى في سياق تيار حضاري قادم ليس في العالم العربي فقط، بل من وسط وجنوب آسيا في إندونيسيا وماليزيا، كما يأتي من الشمال من تركيا، بل يأتي بشكل مختلف من داخل أوروبا وأميركا ممثلا في الأعداد المتزايدة من المسلمين الجدد كل ساعة وكل يوم، إذاً وبلا أدنى شك هو المشروع الإسلامي الحضاري القادم بكل قوة.

في نفس الوقت تعانى الحضارة الغربية أقصى أزماتها الاقتصادية والقيمية الداخلية، ناهيك عن انتهاء عصر القوى العالمية الكبرى المسيطرة في شكل إمبراطوريات، والإعلان عن مفتتح عهد جديد أعده من قبيل المرحلة الانتقالية لدخول الوافد الإسلامي العائد إلى الإسهام والمنافسة الحضارية من جديد حيث أصبحنا نعيش عصر تعدد الأقطاب والدول الست الكبرى والاتحاد الأوروبي والنمور الآسيوية والقادمين الجدد تركيا وإيران والبرازيل والساحة ممهدة بشكل كبير لإعادة التشكل في تكوينات جديدة للأيديولوجيا فيها نصيب كبير.

بالتأكيد الصعود الحضاري يحتاج إلى استحقاقات نوعية متعددة تحتاج إلى ما يشبه الموجات الثورية المتنوعة (طفرات ونقلات نوعية سريعة التحقق على إثر امتداد عقود طويلة من الإعداد المؤسس على نموذج التحدي والاستجابة) والمتوازية في عالم أفكار وخطط ومشاريع المجتمع المدني لتنقل بعدها مباشرة إلى الحكومات والأنظمة، ومن حسن حظنا أن عالمنا العربي الكبير يعد أرضا خصبة ومجتمعا ثريا بكافة أنواع الموارد البشرية والمادية والتاريخية التي يمكن أن تعيد إنتاج حضارته في اسرع مما نتخيل.

يأتي في مقدمتها عودة الأمة إلى ذاتها وتصالحها مع هويتها وإعادة إعلائها والتمسك به وتمثلها والتمركز والدوران حولها من جديد وهذا هو مفتتح طريق الصعود الحضاري حيث يمنح الأمة الطاقة النفسية والذهنية والروحية اللازمة لإقلاع الأمة نحو بوصلتها الحضارية الجديدة.

يأتي بعدها حركة التجديد الفقهي والفكري التي تنطلق من بنية مؤسساتية متنوعة من مراكز البحث العلمي في كافة تخصصات الحياة القديمة والمعاصرة، زاخرة بطبقة خاصة من أصحاب العقول الأصولية والمقاصدية لتبعث الروح في مجال المبادرات والمشاريع. وصولا إلى صناعات معيارية خاصة بصناعة إسلامية عربية في كافة مجالات الحياة الإنسانية والكونية, صناعة معيارية لحقوق الإنسان والمرأة والأسرة والتعليم والصحة والاجتماع والسياسة والمهن والفنون والآداب والرياضة… إلخ، كما صناعات معيارية في تكنولوجيا السيارات والفضاء والطاقة… إلخ.

بالتأكيد يحتاج ذلك إلى بيئة نوعية مساعدة تتميز بالاستقرار الديمقراطي الداعم والحافظ لكل هذه العمليات الجارية على التوازي في عوالم الأفكار والخطط والمشاريع والتي تدير عجلة التنمية والنهوض الحضاري.

تمتلك مؤسسات المجتمع المدني منظومة من الأهداف الوطنية والإنسانية الجليلة يأتي في مقدمتها المساهمة في حل مشاكل المجتمع والتخفيف من معاناته وآلامه، والمحافظة على قوته وتماسكه خاصة الفئات المهمشة

ولا بد من بيان المميزات الخاصة التي يتمتع بها المجتمع المدني، والكشف عن فرصته الكبيرة في إنجاز جزء كبير من استحقاقات الصعود الحضاري القادم للعرب والمسلمين, فمؤسسات المجتمع المدني هي تجمع بشري منظم وفق قواعد العمل المؤسسي الحديث يعمل لتحقيق أهداف ومصالح عامة محددة تهدف لخدمة وتنمية المجتمع في شكل مؤسسة مدنية غير حكومية، تطوعية لا تهدف لتحقيق ربح، تنطلق من القيم التي اجتمع عليها أعضاؤها، شرط ألا تتعارض مع قيم وثوابت المجتمع، تتعدد منطلقات العمل المدني بين الأيديولوجية، السياسية، الإنسانية، الاجتماعية، منفردة ومجتمعة، ومن أهم أمثلتها الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والأحزاب، والنقابات العمالية، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية والعمالية، ومؤسسات العمل الخيري, وتتنوع مجالات عمل المجتمع المدني لتشمل كافة شرائح المجتمع العمرية + النوعية من الدعوة والتربية والتعليم والتدريب والتأهيل، إلى الصحة، إلى الأدب والثقافة والفن والإعلام وحقوق الإنسان، والعمل الإنساني الإغاثي، والمحافظة على البيئة.

وتتدرج مستويات العمل المدني من مؤسسة، وجمعية، ومركز، إلى رابطة لعدد من المؤسسات على أساس جغرافي، أو تخصصي في مجال العمل (رابطة المؤسسات الخيرية بالقاهرة) (رابطة مؤسسات الأيتام بالقاهرة)، وتتجلى أعلى مستوياته حين يصل مستوى الشبكة الوطنية أو الإقليمية والعالمية والتى تجمع في عضويتها المؤسسات العاملة في نفس المجال.

تمتلك منظومة من الأهداف الوطنية والإنسانية الجليلة يأتي في مقدمتها المساهمة في حل مشاكل المجتمع والتخفيف من معاناته وآلامه، والمحافظة على قوته وتماسكه خاصة الفئات المهمشة، والشرائح التي لا تصل إليها أجهزة الدولة، كما تعد شريكا وداعما للدولة في بناء وتنمية المجتمع في كافة مجالاته، وتقوم أيضا بدور الرديف لأجهزة الدولة خاصة في أوقات الأزمات، وهى بذلك توفر بيئة خصبة لتدريب الأفراد وإعداد الكوادر القادرة على المشاركة في تحمل مسؤوليات العمل العام، كما إنها كيانات منظمة لاستيعاب وحشد وتوجيه الجهود الوطنية المخلصة لخدمة وتنمية المجتمع والدولة.

بالإضافة إلى ذلك تحقق منظومة أخرى من الأهداف غير المباشرة, من أهمها منع احتكار الدولة لإدارة المجتمع والمشاركة في إدارته، كما إنها ضمانة لعدم احتكار القطاع الخاص للمجتمع، وتطوير ورفع مستوى جودة العمل العام، كما إنها أيضا أداة جيدة للضغط الشعبي وضمان جودة إدارة الدولة، ووسيلة وضمانة ومعيار لحيوية المجتمع ومستوى تحضره، لذلك فإن سعة ونمو المجتمع المدني دلالة حقيقية على مدى جودة النظام الديمقراطي الحاكم بما يفرضه من التركيز على قضايا بعينها وفرضها على مائدة صناع القرار السياسيى، والقدرة على المشاركة في صناعة وتغيير سياسات الأنظمة الرسمية، وبهذا فهو يشارك بقوة في بناء وتعزيز وتمكين مفاهيم وخطط وأدوات وبرامج تمكين الحكم الراشد، بالإضافة إلى كونه أحد أهم أدوات الرقابة المجتمعية لإدارة وضبط وترشيد الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع من أسفل لأعلى (الحكم الرشيد = قيادة نوعية + مشروع وبرنامج نهضوي + مشاركة مجتمعية فاعلة) مما يؤكد أن المجتمع المدني هو أحد أهم مكونات البناء الديمقراطي في الدولة المدنية الحديثة.

يتمتع بمساحة كبيرة من الحرية تفتقدها المؤسسات الحكومية في (تحديد الأهداف، وسائل العمل، اختيار قياداته، آليات وإجراءات العمل… إلخ)، ولا يهدف لتحقيق ربح مما يمنحه حصانة اجتماعية ونفسية عالية لا تتمتع بها المؤسسات الربحية، كما يمتلك القدرة على التواصل مع المؤسسات الدولية العاملة والمنظمة لنفس المجال.

ويتمتع بآفاق واسعة للمنافسة مع الغير ومع الذات وتحقيق أكبر قدر من الإبداع والابتكار، والقدرة السريعة على التشكل والحركة في الأماكن والظروف التي يصعب على الحكومات التواجد فيها.

ويتمتع بفرص واسعة للحركة وصناعة جبهات للضغط في اتجاهات محددة، القدرة السريعة على الانتشار المعنوي والمادي، والنمو الأفقي والرأسي خاصة في المجتمعات العربية التي تتميز بالخصوبة الدينية المحفزة للمشاركة في أعمال البر، التنوع والثراء المفتوح في مجالات عمله، واندماج وتكامل تركيبته الداخلية، امتلاك رصيد سابق من الثقة والمصداقية لدى الجماهير المستفيدة من ناحية، ومن الممولين، من جهة ثانية. وكذلك الكشف عن فرصته الكبيرة في إنجاز جزء كبير من استحقاقات الصعود الحضاري القادم للعرب والمسلمين.

يتمتع المجتمع المدني بفرص واسعة للحركة وصناعة جبهات للضغط في اتجاهات محددة، القدرة السريعة على الانتشار، المعنوي والمادي، والنمو الأفقي والرأسي خاصة في المجتمعات العربية

في سياق كل هذه المميزات التي يتمتع بها المجتمع المدني، وجب عليه أن يستغل الفرصة جيدا ويفكر ويخطط عالميا وبصيغة إنسانية تستوعب جميع البشر، لتأسيس بنية من المؤسسات الإسلامية بنكهة إنسانية عالمية توفر صناعات معيارية تغطي كافة مجالات الحياة الإنسانية، العمرية بداية من الطفل والمرأة والشباب والكبار والأسرة، والنوعية من تعليم وصحة وفنون وآداب وإغاثة وعلوم وتكنولوجيا. وتقدم البديل الحضاري الإسلامي للمؤسسات الدولية التي شاخت وساءت سمعتها حينما أعاد الغرب استخدامها لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب دول ومجتمعات العالم النامي باسم الإنسانية تارة، وباسم المؤسسات الدولية تارة أخرى.

وليكن بذلك سباقا للحكومات العربية والإسلامية التي ربما تحتاج لوقت لتحقيق تحولها الديمقراطي واستقرارها السياسي، وتأخذ طريقها نحو التنمية والصعود الحضاري في شكل دول إقليمية متفرقة يمكن أن تساهم المؤسسات المدنية بدور كبير في جمع شتاتها في وحدات إقليمية، وعالمية, خاصة عندما تكون قد امتلكت معايير وصناعات دولية في عالم الأفكار والخطط والمشاريع والمؤسسات الإنسانية العالمية بمرجعية إسلامية عربية تمثل قاعدة أساسية ينضم إليها وتبني عليها أي دولة تريد أن تنضم لعصبة الأمم الإنسانية العامية الرشيدة الجديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.