في عمق التقارب الأميركي الإيراني

حقيقة التدخل الإيراني في اليمن . الكاتب: نبيل البكيري

undefined

ما بعد الربيع العربي
إعادة ترتيب المنطقة
إيران اللاعب الأبرز
موقع الخليجيين من الإعراب
البدائل المغيبة

ربما لم يعد الأمر مجرد مكالمة هاتفية مدتها 15 دقيقة، أجريت بالصدفة بين الرئيسين الإيراني حسن روحاني، والأميركي باراك أوباما، على هامش زيارة الأول لنيويورك لحضور أعمال قمة الجمعية العامة للأمم المتحدة وإلقائه كلمة مثيرة فيها.

 

فكل المؤشرات على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، ابتداء بالانقلاب العسكري على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، وحتى تراجع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تنفيذ وعده بالضربة التأديبية لنظام الأسد ردا على استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد معارضيه، كلها تشير إلى أن ثمة شيئا ما يتم تحضير المنطقة له فيما بعد ثورات الربيع العربي لإعادة صياغتها وفقا للمصالح الغربية الإستراتيجية بعد أن كادت تسقط عشية الربيع العربي.
 
ما بعد الربيع العربي
يعد الحضور الكبير للقوى الإسلامية "الإخوانية" وتربعها على المشهد السياسي في بلدان ثورات الربيع العربي هو المتغير الأبرز الذي ظل يخشاه الغرب طويلا، فظل يعمل بقوة على تأخير ذلك اليوم، بتحالفه المتين مع أنظمة القمع والفساد والاستبداد التي ظلت تنتج نفسها طيلة عقود بعملية ديمقراطية ديكورية مزيفة، باركها الغرب ورعاها بكل ما فيها من تشوه وصورية.
لم يتخذ قرار عزل مرسي حتى ضمن الغرب عدم تفجر المشهد عنفا مدمرا، وذلك بالتنسيق مع بعض القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المنطقة العربية كإيران وروسيا، اللتين أبدتا موافقة تلتقي بها مع مخاوف الغرب من حكم الإسلاميين

ولتكريس صورية تلك الديمقراطية المشوهة، عمدت بعض مراكز دراسات وأبحاث الغرب وبعض مفكريه كجيل كبيل وفوكوياما وغيرهم بدلا من انتقاد تلك الديمقراطية المزيفة، إلى خلق جدلية هزلية تفترض بل تؤكد أن الإسلام والديمقراطية لا يجتمعان، في مقابلة غير منطقية في وضعهم للإسلام كدين أمام الديمقراطية كآلية سياسية إجرائية، هذا عدا تصويرها للقوى الإسلامية التي أطلق عليها قوى الإسلام السياسي، كقوى غير ديمقراطية ولا يمكن لها أن تكون كذلك.

لا شيء في حسابات الغرب يفسر لنا هذه المواربة تجاه العالم الإسلامي وقواه الديمقراطية الحقيقية ممثلة بالإسلاميين، سوى أنه يرى أن الإسلاميين هم القوى الحضارية التي إن تمكنت من القرار السياسي في أوطانها ديمقراطيا ستتغير معادلات النظام السياسي العالمي، لغير صالح الحضارة الغربية.

وهذا الشيء الوحيد الذي يفسر لنا كل هذا التحامل الغربي على الإسلاميين، بل وعلى العملية الديمقراطية في العالم العربي التي يرى الغرب ضرورة وحتمية الخلاص منها.

لذا لم يكن قرار الانقلاب العسكري على رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر قرارا مصريا محضا بقدر ما كان قرارا للقوى الدولية بامتياز، وهو القرار الذي لم يكن ليتخذ حتى ضمن الغرب عدم تفجر المشهد عنفا مدمرا، وذلك بالتنسيق مع بعض القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المنطقة العربية كإيران وروسيا، اللتين أبدتا موافقة تلتقي بها مع مخاوف الغرب من حكم الإسلاميين.

ولذلك لم يكن مفاجئا موقف الإعلام المحسوب على هاتين الدولتين كقناة روسيا اليوم وقناة الميادين وقناة العالم في تغطيتها المتحيزة والمحرضة ضد الإسلاميين في مصر والمنطقة.

إعادة ترتيب المنطقة
الانقلاب العسكري في مصر والموقف الغربي المريب منه والمتخاذل تجاه الثورة السورية وعدم جدية التهديد الأميركي بضرب نظام الأسد في حال ثبوت تورطه باستخدام الأسلحة الكيميائية -وهو ما ثبت بالفعل- لم يكن كل ذلك سوى مؤشرات على أن ثمة تحضيرات ما تساق إليها المنطقة العربية، لإعادة ترتيبها على أنقاض أنظمة ما قبل الربيع بمحاولة إعادة استنساخها.

على أن يتم ذلك، حسبما يتوافق مع مصالح القوى الدولية غير المشروعة، التي كانت على وشك إعادة تصحيح وضعها من قبل القوى المنتخبة ديمقراطيا عقب ثورات الربيع العربي، فبادرت تلك القوى بالتواطؤ على ضرب العملية الديمقراطية برمتها، في طريقها لإعادة ترتيب المنطقة التي يسعى الإسلاميون لإعادة صياغتها وفقا لبرامجهم السياسية والثقافية.

فعلى مدى التاريخ العربي القريب والمعاصر، لم يكن سوى العرب هم الطرف الوحيد الخاسر في كل ترتيبات المنطقة والعالم الجيوسياسية، من سايكس بيكو وحتى روحاني أوباما، كنتيجة طبيعية لهامشية الأنظمة العربية وغبائها السياسي وصراعاتها البينية.

وليس هذا الضعف ناتجا عن ضعف إمكانيتها المادية والتاريخية والحضارية، فهي كلها في صالحهم، وليس ثمة من شيء يقف في طريق هذه الأنظمة سوى تحولها إلى دمى في مسرح الصراع الدولي وأحجار لرقعة شطرنج يجيد مخترعوها الكبار نقلاتها جيدا.

ربما ما لا يختلف فيه اثنان اليوم أن التفسير المنطقي للوضع العربي العام الراهن هو أننا وبعد أزيد من نصف قرن من الاستقلال، لم نتمكن كعرب من تأسيس حقيقي لكيان اعتباري لدولنا كبقية شركائنا في المنطقة من الفرس والترك وحتى اليهود المستحدثين سياسيا في المنطقة، بزرع دولتهم تلك منذ العام 1948.

وبالتالي يكون طبيعيا النظر إلى ديناميكية الجيوبولتيك الراهن التي تعتمل من حولنا، بنوع من عدم المفاجأة أو الدهشة كوننا في المحصلة الأخيرة، نتصرف كمجرد قبائل عربية متناحرة تحاول أن تقدم نفسها للعالم كدول، وهي لا تعدو كونها شبه دول أوجدتها الصدفة التاريخية وقوى الاستعمار الغربي على حين غفلة من التاريخ أيضا.

لم ولن يجد الأميركيون غضاضة في التخلي عن حلفائهم بالخليج، كونهم ليسوا بحلفاء أصلا وإنما توابع، مقابل فتح مجال للنقاش مع دولة كإيران يعدها الغرب دولة محورية وذات تراث دولتي عريق وتسابق نحو الندية للغرب بقوة

وتزيدك وقائع المشهد من أمامك يقينا بأن هذه الدول أو شظايا الجغرافيا كما يسميها الدكتور عبد الله النفيسي، لم تزل كما هي تؤدي دورها الوظيفي الذي أنشئت من أجله حتى اللحظة، لذا لم ولن يجد الأميركيون غضاضة في التخلي عن حلفائهم في بعض دول الخليج، كونهم ليسوا بحلفاء أصلا وإنما توابع، فالتحالف يقتضي الندية أولا، وهو غير متحقق هنا، مقابل أن تفتح مجالا للنقاش مع دولة كإيران يعدها الغرب دولة محورية وذات تراث دولتي عريق وتسابق نحو الندية للغرب بقوة.

إيران اللاعب الأبرز
لم تكن مؤشرات التقارب الإيراني الأميركي الأخير وليدة المفاجأة والصدفة إلا عند من لا ذاكرة لهم، أو مثقوبي الذاكرة، الذين لم يكلفوا أنفسهم مجرد تشغيل خاصية الاستذكار لديهم.

فعلى مدى السنوات العشر الأخيرة توالت هذه المؤشرات، ولم يكن سقوط بغداد في ابريل/نيسان 2003م تحت جنازير الدبابات الأميركية ليتم لولا التسهيل والترحيب الإيراني، كما صرح بذلك نائب الرئيس السابق محمد علي أبطحي في 2004م بقوله "لولا إيران لما سقطت كابل وبغداد"، في إشارة إلى التعاون الإيراني الأميركي حينها.

وقبل هذا كله، ينبغي عدم النظر إلى دولة كإيران بأنها دولة طائفية دينية كما يحب بعض كسالى التفكير تصويرها، فإيران دولة قومية فارسية براغماتية، تسعى إلى استعادة مجدها التاريخي الضارب في القدم، كأمة فارسية كان لها شأن في غابر الأيام، ويجب أن يكون لها شأن في مستقبل الأمم اليوم.

وهو المنحى الذي يفسر لنا التوجه الإيراني الراهن في سبيل إخراج إيران من عزلتها ولو باستباحة كل مقدس لديهم، كما هو الحال في موضوع إعادة تأويل وتفسير مقولات الإمام الخميني ومواقفه من الغرب عموما بحسب الدكتورة فاطمة الصمادي، بقولهم إنه لم يكن مع اقتحام السفارة الأميركية ولم يكن يرفض قيام أي علاقة مع أميركا جملة وتفصيلا.

ولهذا كله بدا واضحا مدى تسارع وتيرة التحولات في الخطاب السياسي الإيراني، لدرجة ينقلب معها المرشد الأعلى علي خامنئي من صاحب شعار الاقتصاد المقاوم إلى الدبلوماسية الشجاعة الجريئة.

هذا عدا تغريدات وزير الخارجية محمد جواد ظريف التويترية، بقوله إن إيران لا تنكر المحرقة "الهولوكوست" وإن الذي كان ينكرها قد غادر، في إشارة منه لموقف الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد من المحرقة، بل ولزيادة التأكيد على ذلك، يصطحب الرئيس روحاني معه إلى نيويورك عضو مجلس النواب الإيراني اليهودي سياميك مره صدق.

ورغم كل هذا، فإن ما تحققه إيران على الصعيد الدبلوماسي اليوم هو نتيجة طبيعية لنجاحاتها واختراقاتها الكبيرة للمنطقة العربية، باستخدام ورقة الأقليات الشيعية قنطرة للعبور، وهو ما يسهل لها المهمة في اللعب مع الكبار.

فقد شاهدنا جميعا وعايشنا أيضا، الاجتماع الإيراني الأميركي في بغداد نهاية 2007، ذلك الاجتماع التاريخي الذي رسم مسار ومصير دولة العراق بوضعها تحت الوصاية الإيرانية مقابل استمرار تدفق براميل النفط العراقي لأميركا.

أما وقد تمددت إيران اليوم إلى كل من سوريا ولبنان واليمن وكل دول الخليج وصار لها يد في مصر بعد الانقلاب، فإنه سيكون من الطبيعي أن يطرق الغرب والأميركيون بابها لمناقشة أمن وسلامة مصالحهم التي باتت شبه مهددة بفعل التوسع الإيراني، القادر على حمايتها في حالة تصالحهم معها.

موقع الخليجيين من الإعراب
أن يندفع مقربون إعلاميون من صانع القرار الخليجي والسعودي إلى وصف مكالمة روحاني-أوباما بأنها المكالمة التي هزت الشرق الأوسط، ظنا من هؤلاء الإعلاميين أن ذلك سيكبح صانع القرار الأميركي في المضي نحو ما يريد، فليس سوى نوع من التهويم الإعلامي في الوقت بدل الضائع كون هؤلاء الإعلاميين كانو وما زالوا من صناع الرأي العام الخليجي الذين ساهموا في تسطيح المشهد وتحويله إلى ما يشبه مسرحية هزلية مملة.

بعد أن تمكن الغرب من إجهاض حلم الديمقراطية العربية ليتخلص بها من خصومه الإسلاميين، لم يعد لديه من خوف على مصالحه سوى التهديد الإيراني، الذي يحتم الوضع أن يسعى الغرب لعمل صفقة معه يضمن بها تحقق مصالحه وعدم تهديدها مستقبلا

وأسرف هؤلاء الإعلاميون بحديثهم الدائم عن أن أي تقارب أميركي إيراني يجب ألا يكون على حساب مصالح وحقوق دول الخليج، وهو حلم مشروع لهذه الدول ومثقفيها، لكن الحلم لا يرقى مطلقا إلى مصاف الحقائق على الأرض كما هو حاصل.

تمثل دول الخليج المصدر الرئيسي للنفط المتدفق للغرب بأرخص الأثمان، وهو نفس النفط الذي يمكن تعويضه من احتياطيات العراق وإيران، مع فارق أن هذا الأخير سيكون نقله وتصديره أكثر أمانا بعكس الأول الذي يتطلب كلفة عسكرية وأمنية باهظة تقوم بها البحرية الأميركية ونظيراتها الغربية.

عدا ذلك فإن بعض أهل الخليج وقعوا في مأزق ربط أمنهم القومي بمبدأ المصالح المتغيرة وليس بمبدأ المصالح الدائمة والثابتة التي في مقدمتها شرعية النظام القائم وتصالحه مع شعبه وليس باستناده على شرعية الحامي الأجنبي مقابل فواتير النفط وشيكاته، هذا عدا معاداة هذه الأنظمة لأكبر تيارات الحالة العربية الراهنة وأكثرها فاعلية وحضورا، ممثلا بالتيار الإخواني.

البدائل المغيبة
طيلة العامين الماضيين من عمر الثورات العربية، دأب المال والإعلام في بعض دول الخليج على خلق جو من الريبة بهدف تشويه وإرباك مسيرة الثورات الربيعية، كخطوة استباقية لمنع تمددها وتوسع رقعتها إلى تلك الممالك المتخمة بالنفط والفوضى، بحسب إدوارد سعيد.

غياب الرؤية الكاملة والتصور الدقيق للدولة في ذهنية بعض الأنظمة الخليجية جعل من السهل أن توجه إمكانيات هذه المجتمعات إلى غير مكانها، كما هو الحال اليوم في تحويل كل هذه الإمكانيات إلى المعركة الخطأ بهدف خلق حالة من الفوضى، لن يستفيد منها سوى الغرب والقوى المهيمنة على المنطقة وفي مقدمتها إيران.

لذا كان من السهل أن يرسم الغرب لبعض هذه الأنظمة عدوا كالإسلاميين بهدف شق الصف "السني" بخلق فزاعة الإخوان كعدو إستراتيجي لأنظمة الخليج ينبغي التخلص منهم دون النظر إلى عواقب مثل هذا الفعل غير المنطقي وغير السياسي أيضا وتداعياته على المنطقة التي يمثل الإخوان أهم دعائمها السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية التي أسهمت في الحفاظ على توازن المعادلة السياسية للمنطقة برمتها على مدى عقود.

فبعد أن تمكن الغرب من إجهاض حلم الديمقراطية العربية ليتخلص بها من خصومه الحقيقيين ممثلين بالإسلاميين، لم يعد هناك من خوف لدى الغرب على مصالحه غير المشروعة سوى من التهديد الإيراني، الذي يحتم الوضع أن يسعى الغرب لعمل صفقة معه يضمن بها تحقق مصالحه وعدم تهديدها مستقبلا.

وأمام هذا المشهد المرتبك الذي أحدثه التقارب الأميركي الإيراني ليس أمام الخليج من بديل سوى التفكير جيدا في أنه طالما لم تستدرك هذه الأنظمة تصحيح خطئها -بضرب تيار الإخوان والتآمر عليهم- بخلق تحالف جديد مع هذا التيار الأكبر في المنطقة والضامن الحقيقي لاستقرار معادلتها السياسية، داخليا وخارجيا، فإنها ستدفع فاتورة غبائها السياسي ثمنا قاسيا، أقله هو وضعها تحت الحماية الجبرية الإيرانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.