ميدان التحرير بين الثورة والجمهورية الثانية

ميدان التحرير بين الثورة والجمهورية الثانية

 undefined

ظلت التجمعات والحشود الجماهيرية الهائلة -التي كان يكتظ بها ميدان التحرير في قلب القاهرة- مثل عدد من الميادين والساحات الأخرى المنتشرة في طول البلاد وعرضها منذ الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، والتي وصفت إعلاميا وخلال أيام الجمعة تحديدا بـ"المليونيات"، تشكل ملمحا مهما وموحيا في آن لتلاحم القوى الوطنية والثورية، وآلية فعالة وناجزة للتأثير في مجمل التفاعلات السياسية التي تلت خلع مبارك.

فخلال السبعة عشر شهرا المنقضية من عمر المرحلة الانتقالية، حرص الميدان ومليونياته على أن يبقيا بمثابة شعلة للثورة لا تنطفئ بفعل الهجمات الشرسة والمتوالية لقوى الثورة المضادة، لا تفتأ جذوتها تذكر المصريين بالثورة وأهدافها التي لم تتحقق بعد، وعنصر ضغط شديد الوطأة على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يتولى تسيير أمور البلاد منذ تنحي مبارك مكرها عن السلطة في الحادي عشر من فبراير/شباط 2011، كيما يظل ملتزما بحماية الثورة ودعم الثوار حتى بلوغ المسار الثوري منتهاه، ولا يحيد عن هذا المسار.

وبينما بدأت معالم الجمهورية المصرية الثانية في التشكل عبر سلسلة من الخطوات، جاء في صدارتها إجراء الاستفتاء الشعبي على الإعلان الدستوري الأول، الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مارس/آذار من العام 2011، ومن بعده الانتخابات البرلمانية الأولى، التي انطلقت أولى مراحلها الثلاث في نوفمبر/تشرين الثاني من ذات العام وتمخضت عن تشكيل مجلس الشعب، والتي أعقبتها انتخابات مجلس الشورى لتلتئم بذلك غرفتا برلمان الثورة.

ثم التحضير حاليا للانتخابات البرلمانية الثانية بعد حل مجلس الشعب، بالتزامن مع تكاتف المساعي لصوغ الدستور الجديد الدائم في غضون أشهر قلائل، وصولا إلى انتخاب أول رئيس مدنى للبلاد، لم يكن بدوره بمنأى عن الثورة والميدان، كما أعلن أنه سيشرك كافة القوى المدنية والثورية في إدارة البلاد ولن ينفرد هو أو تياره السياسي الذى ينتمى إليه بهذا الأمر، يثور التساؤل بشأن دور ميدان التحرير مستقبلا والتأثير المتوقع لمليونياته في مقبل الأيام.

تراجع مرحلي
في الوقت الذى يصر بعض أطياف القوى الثورية على أن يبقى ميدان التحرير وسلاح المليونيات وسائل ضغط ضرورية لمواصلة النضال الشعبي بغية الإبقاء على حالة الزخم الثوري بما يساعد على استكمال الثورة وبلوغ أهدافها، التي يرون أنها لم تتحقق حتى الآن، بدأت تثور لدى البعض الآخر هواجس وشكوك حول إمكانية احتفاظ الميدان ومليونياته بذات القدر من الزخم الجماهيري كما بنفس هذا الدور الفاعل مستقبلا. وقد انبلجت شكوك وهواجس أصحاب الفريق الأخير من رحم معطيات وعوامل شتى من أبرزها:

أفضى تفاقم أزمة الثقة بين القوى الثورية والسياسية وبعضها البعض, إلى النيل من صدقية دعواتها إلى الحشد الجماهيري، فضلا عن تقويض قدرتها على إقناع الجماهير بالتوافد إلي الميدان بأعداد غفيرة

أولا، انطلاق عملية سياسية ترمي إلى وضع دستور جديد بعد أن أسفرت عن برلمان منتخب، يثور الجدل بشأن شرعية بقائه من عدمها، ورئيس جديد، تشي المؤشرات الأولية بتعاظم قدرته على التأقلم وتلافي أية صراعات أو مصادمات تحول دون مضيه للأمام والعمل بدأب لترجمة رغبات الشعب وتطلعاته وأهداف ثورته، إلى واقع ملموس.

ورغم أن الثورة بطبيعتها هي عمل جماهيري جماعي لا يخلو من السياسة، إلا أن تركيز شرائح ثورية وقوى سياسية عديدة لنشاطها في المؤسسات السياسية الجديدة وتفاعلاتها، أو التئامها في تنظيمات سياسية وحزبية جديدة على شاكلة "التيار الثالث" قد أفقد الميدان ومليونياته قسطا مهما من زخمهما السياسي والجماهيري الجارف.

وثانيا، انقسام القوى السياسية والثورية بشأن الموقف من أداء المؤسسات السياسية المنتخبة وتباين وجهات نظرها بخصوص سبل وآليات العمل الوطني خلال المرحلة المقبلة، علاوة على انفراط عقد تلاقيها في الميدان على خلفية عدم اتفاقها حول جدوى النزول إليه من عدمه، خصوصا بعد أن انحاز بعضها إلى العمل السياسي المؤسسي وآثر البعض الآخر وسائل الإعلام المرئي والمقروء كمنابر سهلة ونافذه للتعبير عن وجهة نظره.

وثالثا، أفضى تفاقم أزمة الثقة بين القوى الثورية والسياسية وبعضها البعض وافتقادها للقدرة على التوافق بشأن قضايا وملفات عديدة ملحة، إلى النيل من صدقية دعواتها إلى الحشد الجماهيري، فضلا عن تقويض قدرتها على إقناع الجماهير بالتوافد إلى الميدان بأعداد غفيرة، وفي ظل أجواء وظروف أمنية بالغة الصعوبة، مثلما كان يحدث فيما مضى خصوصا أيام الجمعة.

ورابعا، أسفر تواتر المليونيات وتكرارها بشكل أضحى شبه أسبوعي في بعض الأحيان ونصف أسبوعي في البعض الآخر، إلى تقليص تأثيرها وفاعليتها، فضلا عن انفصالها عن نبض وتطلعات القاعدة الشعبية الجماهيرية العريضة، وهو ما بدا جليا في عزوف جماهير عريضة، إضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية عن المشاركة المنتظمة، أحيانا، في بعض المليونيات المتكررة بدعوى الحيلولة دون فقدانها لجدواها ورمزيتها.

أما خامس تلك العوامل، فيتعلق بالأهداف، فلقد كانت المطالب والأهداف التي تطرحها المليونيات في بداية عهدها من أبرز العوامل المساعدة على حشد الجماهير وتعبئتها، ولا سيما إذا كانت منطقية ومنزهة عن أية أهواء أو مصالح حزبية أو شخصية، علاوة على قابليتها للتحقق وتمتعها بإجماع شعبي ووطني، بيد أن لجوء بعض القوى الثورية إلى طرح أهداف ومطالب خلال بعض المليونيات تنأى كثيرا عن هذه السمات، جعل قطاع، لا بأس به، من المواطنين ينأى بنفسه عن المشاركة في فعالياتها.

بدائل محبطة
وبدوره، يشكل العامل الجغرافي، إشكالية ملفته في هذا المضمار، فلطالما كان أحد أبرز أسباب نجاح المليونيات والتظاهرات الشعبية بنقلها من ميدان التحرير لتعم ميادين ومدنا أخرى في أصقاع المحروسة، وإعطائها زخما هائلا وإكسابها سمتا ثوريا لا مراء فيه، بعد أن أحدث حالة نادرة من التفاعل الشعبي والتواصل الجماهيري منقطع النظير. فما اكتسبت ثورة 25 يناير سمتها الثوري إلا بعد أن تجاوزت التجمعات والحشود الهائلة ساحة ميدان التحرير لتملأ عددا من الميادين والساحات الأخرى المنتشرة في ربوع البلاد.

بيد أن العامل الجغرافي قد لعب على صعيد آخر دورا معاكسا ومقوضا للميدان ومليونياته، خصوصا حينما استعاضت بعض القوى الثورية عن ميدان التحرير بميادين أو مواضع أخرى. فبتركها ميدان التحرير، بكل ما يحمله من رمزية وما يمثله من دلالة كونه قلب الثورة النابض، وانتقالها إلى مواقع أخرى كميدان العباسية أو تمركزها بالقرب من بعض الأماكن السيادية والحساسة في الدولة كمحيط وزارتي الداخلية والدفاع أو قناة السويس أو مبنى قيادة بعض المناطق العسكرية في القاهرة والإسكندرية وغيرهما، بدأت المليونيات والتجمعات الجماهيرية تفقد رمزيتها وتأثيرها رويدا رويدا.

عندما تركت بعض القوى الثورية ميدان التحرير، بكل ما يحمله من رمزية وما يمثله من دلالة كونه قلب الثورة النابض، وانتقالها إلى مواقع أخرى, بدأت المليونيات والتجمعات الجماهيرية تفقد رمزيتها وتأثيرها رويدا رويدا

فإلى جانب افتقادها للرمزية الثورية التي يحظى بها ميدان التحرير، استعصى على مواضع كهذه ممارسة ضغوط حقيقية على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو أية أجهزة مسؤولة، بما يساعد على تحقيق النتائج المرجوة من الاحتشاد أو حتى الاعتصام عندها. بل إنها غالبا ما كانت تأتى بنتائج عكسية.

فكثيرا ما كانت هذه التجمعات البشرية تثير غضب تلك الأجهزة والمؤسسات وتسفر عن مواجهات ومصادمات بين المتظاهرين وقوات الجيش والشرطة كما بعض الأهالي القاطنين بالقرب من تلك المناطق والذين تطالهم بعض الأضرار الناجمة عن هذه التظاهرات وما تستتبعه من مواجهات وتعطيل لدولاب الحياة اليومية، الأمر الذى يفضي في نهاية المطاف إلى سقوط قتلى بالعشرات وجرحى بالمئات على نحو يفاقم من أجواء التشرذم بين القوى الثورية وبعضها البعض من جانب كما بينها وبين قطاعات شعبية عريضة من جانب ثان، فيما يعزز من فجوة الثقة بين القوات المسلحة والثوار من جانب ثالث.

هذا في حين تتسم مليونيات وتظاهرات ميدان التحرير بكونها أقل إنتاجا، في عمومها، للضحايا من أى نوع، كما تؤتي أكلها في معظم الأحيان، إذ كان من شأنها أن حملت المجلس الأعلى للقوات المسلحة على البدء في محاكمة مبارك ورموز نظامه، فضلا عن إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتحديد موعد لتسليم السلطة، علاوة على الإسهام في منع عمر سليمان من خوض السباق الرئاسي مخافة تقويض الثورة وإعادة إنتاج نظام مبارك، إضافة إلى التعجيل بموعد النطق بحكم المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون العزل السياسي ومدى شرعية برلمان الثورة، ثم إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية من دون أية تدخلات قد تفضي إلى تزييف إرادة الناخبين، وصولا إلى حمل المجلس العسكري على تسليم السلطة للرئيس المنتخب.

رقابة موازية
برغم ما طال دوره من تراجع مرحلي مع انطلاق العملية السياسية، أسهمت انتخابات الرئاسة وما تمخضت عنه من تداعيات في استعادة ميدان التحرير ومليونياته لزخمهما وفعالياتهما. ففي حين أطلق مرشحون رئاسيون كخالد علي وحمدين صباحي حملاتهما الرئاسية الانتخابية من الميدان، الذى لم يكن بمنأى عن معركة الدعاية والمنافسة الانتخابيتين، كان للميدان دور محوري في حسم نتيجة الانتخابات الرئاسية، لا سيما في جولتها الثانية، حيث أسهم نجاح جماعة الإخوان المسلمين في حشد غالبية القوى الثورية والمدنية وتشكيل تكتل مدني ثوري في مواجهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في حمل الأخير على الوفاء بتعهده وإعلان نتيجة الانتخابات، وفقا لما أنتجته صناديق الاقتراع وإرادة الناخبين، وتسليم السلطة للرئيس المدني المنتخب بالرغم من كونه إخوانيا.

كذلك، كان الاصطفاف الثوري المدني الذي شهده ميدان التحرير بعد انتهاء التصويت في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية وما تبعه من مليونيات حاشدة واعتصامات متواصلة أحد العوامل المهمة التي دفعت بواشنطن إلى تغيير لهجتها في التعاطي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من المودة واللين إلى الانتقاد والتحذير على خلفية إصداره الإعلان الدستوري المكمل ودوره في إصدار قانون الضبطية القضائية لأفراد الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية، وهو ما حمل المجلس على الإسراع بإعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية وإبداء مرونة وسلاسة ملحوظتين خلال إجراءات تسليم السلطة للرئيس المدني المنتخب.

وفي هذا الإطار، حفلت "جمعة" أو "مليونية" "تسليم السلطة" بفعاليات غاية في الإثارة كان من شأنها أن أعطت قبلة الحياة للميدان. فبعد أدائه صلاة الجمعة بالأزهر الشريف، توجه الرئيس المنتخب محمد مرسي إلى الميدان وبعد أن تعهد في خطبته بمواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها، أدى اليمين الدستورية بميدان التحرير قبل أدائها رسميا أمام المحكمة الدستورية العليا، وهى الخطوة التي جاءت بمثابة رد اعتبار للميدان وللشرعية الثورية أو الشعبية، واعتذار ضمني عن تصريحات بعض نواب مجلس الشعب التي قالوا فيها إن الشرعية للبرلمان وليست للميدان، كما اعتبرت اعترافا صريحا من الرئيس المنتخب بفضل الميدان والثورة عليه.

يبدو أن ميدان التحرير ومليونياته قد أضحيا فاعلا جديدا ومهما على الساحة السياسية المصرية، ربما لا يقل تأثيره في مسيرة تدشين الجمهورية الثانية عن سائر الفاعلين السياسيين التقليدين

ولقد أحسن الدكتور مرسى صنعا حينما لاذ بالميدان واستقوى به، ليس من أجل اقتناص فوز محقق في الانتخابات الرئاسية فحسب، وإنما لانتزاع صلاحياته غير منقوصة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، على نحو أكد عليه النائب الإخواني الدكتور حسن البرنس وكيل لجنة الصحة بمجلس الشعب المنحل، حينما خطب في المتظاهرين بمليونية "تسليم السلطة" قائلا: "وجودكم في الميدان كان له الفضل في إسقاط قانون الضبطية القضائية".

وفي ذات السياق، وصفت الصحف الأجنبية خطاب الرئيس مرسي في الميدان بـ"الجريء"، مؤكدة أن أداءه اليمين الدستورية بالميدان به "تحد" واضح لجنرالات المجلس العسكري، حيث أيقظ الجماهير لاستئناف النضال من أجل تحقيق أهداف عدة كاستعادة صلاحيات الرئيس كاملة، وإلغاء الإعلان الدستوري المكمل وعودة مجلس الشعب المنحل.

وفي مؤشر على عودة الزخم الثوري العربي إلى ربوعه، فتح ميدان التحرير ذراعيه خلال مليونية "تسليم السلطة" للشيخ راشد الغنوشي -رئيس حركة النهضة التونسية- ليلتقي المتظاهرين ويلقي كلمة أشاد فيها بدور الثورتين المصرية والتونسية في بذر بذور الحرية والديمقراطية بالعالم العربي قاطبة. وبعد تهنئته المصريين على انتخاب رئيس ثوري مدنى، أثنى الغنوشي على كفاح الشعب السوري لتحرير بلاده من الظلم والاستبداد اللذين يمارسهما بشار الأسد ونظامه.

وهكذا، يبدو أن ميدان التحرير ومليونياته قد أضحيا فاعلا جديدا ومهما على الساحة السياسية المصرية، ربما لا يقل تأثيره في مسيرة تدشين الجمهورية الثانية عن سائر الفاعلين السياسيين التقليدين. وهو تأثير قابل للتفاقم والاستمرار مستقبلا، بحيث يغدو الميدان ومليونياته أداة ضغط ورقابة فاعلة وموازية على الأجهزة والمؤسسات التي أبصرت النور خلال المرحلة الانتقالية، ليس فقط في ظل تعثر جهود وضع الدستور الجديد وغياب مجلس الشعب، وإنما أيضا بعد اكتمال أركان ومؤسسات الجمهورية الثانية، ليبقى الميدان ومليوناته بمثابة صوت الثورة الخالد وضميرها اليقظ، الذى لا يفتر عن حث النظام الجديد على الالتزام بمسار الثورة وحضه على استكمالها وتحقيق أهدافها مهما كانت التحديات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.