الديمقراطية في ليبيا.. بين المجتمع والمسلحين

الديمقراطية في ليبيا بين المجتمع والمسلحين .الكاتب: صالح السنوسي

 undefined

الثورة على الطغاة لا تؤدي بالضرورة إلى الديمقراطية، وتاريخ الثورات الاجتماعية الكبيرة يثبت صحة ذلك، فالثورة الفرنسية لم تستقر مبادؤها وقيمها إلا بعد أن مرت بمرحلة حالكة كانت المقصلة وروبسبير هما رمزيها البارزين، ولم تكن الثورة البلشفية نظريا إلا من أجل تسويد طبقة اجتماعية لتمارس دكتاتوريتها في مواجهة الطبقات الأخرى، ومع ذلك فإن الحزب هو الذي اضطلع بممارسة الدكتاتورية في مواجهة الجميع إلى نهاية التجربة.

الثورات قد تأتي بطغاة جدد يستمدون شرعيتهم من الثورة على طغيان من كان قبلهم، وثورات الربيع العربي ليست محصنة من مثل هذا المصير، فالثورة الليبية وهي إحدى هذه الثورات، تمثل أحد هذه النماذج المعرضة لمثل ذلك الاحتمال، ولذا فقد يكون من الأفضل أن ننظر إلى ما يمكن أن يجرها إلى مسار الدكتاتورية وما يمكن أن يبعدها عنه.

الثورات قد تأتي بطغاة جدد يستمدون شرعيتهم من الثورة على طغيان من كان قبلهم، وثورات الربيع العربي ليست محصنة من مثل هذا المصير

لعل ليس هناك خلاف على حقيقة أن الثورة لم تكن ثمرة تخطيط وإعداد كانت تقوم به قوى تنسق بينها في الخفاء، تتحكم في أدواتها وتسيطر منهجيا على مسارات أفعالها، بل كانت انفجارا مدويا لوضع محتقن متأزم أغلق كل الطرق لمعالجته بحلول أخرى، ولكن هذا لا يعني أن المجتمع كان خاليا من قوى معارضة معادية لحكم القذافي في الخفاء، وتتسم بنوع من التوافق في أفكارها، وبنوع من التماسك الذي لا يلفت نظر السلطة، غير أن هذه القوى لم تكن تخطط لثورة، بل كان أعضاؤها يكتفون بالمحافظة على وجودهم المادي، وعلى قدر من علاقاتهم الشخصية التي يمكن استثمارها في أية لحظة للقيام بمبادرة أو عمل جماعي إذا ما وقعت أحداث ليست من صنعهم وخلقت ظروفا مواتية للعمل ضد القذافي، وذلك عين ما حدث عقب خروج الحشود الغاضبة في شوارع المدن والقرى في السابع عشر من فبراير/شباط، فخلقت حالة غير مسبوقة من التمرد الشعبي ضد رموز الخوف والإذلال، ولكنها كانت تحتاج إلى من يفتح أمامها المسارات ويوجه أفعالها.

لقد ساعدت طبيعة رد فعل القذافي هذه القوى غير المتهيئة لصراع من هذا النوع على أن تقوم بالمبادرة، فتندمج في زخم الفعل الجماعي وتلعب دور "الإسمنت" بين كتل غاضبة تحررت فجأة من عقدة خوفها، وأخذت تواجه ما تعتبره رموز إذلالها وترويعها.

كان حجم الانفجار الشعبي وسرعة انتشاره على رقعة جغرافية واسعة في شرق ليبيا وغربها مفاجأة للقذافي وللقوى المعارضة معا، وكان لهذا الحجم وهذه السرعة نتيجتان:
النتيجة الأولى تمثلت في طبيعة وكيفية رد فعل القذافي، فقد كان رد فعل القذافي على أي فعل معارض يتسم بالعنف، ولكن ذلك كان دائما محصورا في منقطة محددة أو ضد أشخاص وفئة معينة نظرا لمحدودية الفعل جغرافياً أو فئوياً، غير أنه في هذه المرة غطى الانفجار الشعبي مساحات واسعة على الخريطة الليبية من شرقها إلى غربها، وتجرأت كتل بشرية كبيرة على المشاركة فيه، ولهذا كانت ردة فعل القذافي المرتبك عنيفة بحجم الفعل وسرعة انتشاره، فكان ذلك -على عكس ما أراده- بمثابة تغذية عكسية لهذا الانفجار، فأخذت الكتل الثائرة تبحث عن وسائل أخرى للدفاع عن نفسها أمام عنف كتائب القذافي الأمنية.

النتيجة الثانية تتعلق بالقيادة والتنظيم، فقد أدى رد الجماهير على عنف قوات القذافي بعنف مضاد إلى دخول المواجهة مع القذافي في مرحلة خطيرة من الصراع تقتضى -على الأقل- الحد الأدنى من التنظيم والتوجيه، وفي هذه اللحظة بدأ دور القوى المعارضة التي كانت في حالة تشرذم، فأخذت تنتظم وتؤثر في مسار الفعل الجماعي، سواء بالقيادة أو بضرب المثل في التصدي لكتائب القذافي أثناء المعارك، مما يلفت نظر المقاتلين وينال إعجابهم فينضوون تحت قيادة هذه القوى ويقاتلون تحت مظلتها، بصرف النظر عن مدى توافقهم مع أفكار ورؤية هذه القوى، فقد كانوا جميعهم يريدون التخلص من القذافي ويخشون الفشل، وكانوا جميعهم يبحثون عن كل ما يعتبر عنصر قوة في مواجهة خطر يهددهم جميعا، ولهذا فإنهم كانوا يرون أن تكتلهم وانخراطهم في وحدات وكتائب تخضع للقيادة وتتمتع بقدر من الانضباطية هو أهم عناصر القوة، وهكذا تشكلت وترسخت كيانات هذه الكتائب في ظل قيادة بعض القوى وبفضل وحدة الهدف وعلاقات رفقة السلاح وطول الصراع.

وحدة الهدف أثناء الحرب تخفف من الاختلافات في الرؤى ووجهات النظر، فلا تكون تفاصيلها بقدر الأهمية والوضوح الذي تكون عليه بعد نهاية الصراع مع العدو المشترك

لا شك في إن وحدة الهدف أثناء الحرب تخفف من الاختلافات في الرؤى ووجهات النظر، فلا تكون تفاصيلها بقدر الأهمية والوضوح الذي تكون عليه بعد نهاية الصراع مع العدو المشترك، والنظر فيما يجب أن تؤل إليه الأمور وما تستقر عليه بعد ذلك.

ذلك عين ما حدث ويحدث في التجربة الليبية، فبعد التحرير والبدء في تشكيل المؤسسات السياسية وطرح قضايا تتعلق بالانتخابات والدستور والدولة المدنية، ظهرت تيارات من بين هذه القوى لا ترى في هذه المطالب ما يستجيب لرؤيتها التي من أجلها ثارت وقاتلت ضد القذافي، فالدولة التي يحكم فيها بغير ما أنزل الله ليست مطلبا لهم، كما أن الدستور والديمقراطية هما صناعة غربية يضعان إرادة المخلوقات فوق إرادة الخالق، وهذا في نظرهم كفر بواح، ورغم أن هذه التيارات تعتبر بالفعل أقلية بين القوى الأخرى التي شاركت في الثورة، وتعتبر أيضا أقلية نسبة إلى امتدادها داخل فئات المجتمع، فإن انخراط معظم أعضائها في مليشيات مسلحة جعل منها قوة تعوض ضآلة حجمها بقوة سلاحها.

لقد أدت ضآلة حجم هذه القوى من ناحية وقوتها التسليحية من ناحية أخرى إلى اتخاذها عددا من المواقف كلها تنسجم مع وضعها كأقلية مسلحة، ومن هذه المواقف:
1- عدم قبول الحوار انطلاقا من مبدأ نسبية الحقيقة، أي أن هدف الحوار بالنسبة لهؤلاء هو فقط توضيح ما استعصى عليك فهمه من آرائهم، وليس من أجل التخلي عن هذه الآراء إذا ما ثبت عدم صحتها.

2- عدم الاعتداد بما يؤدي إليه تطبيق آليات الديمقراطية من نتائج كمفهوم الأكثرية والأقلية، وهذا يترتب عليه عدم الاعتراف بحق الأغلبية طالما أنه يخالف رأى الأقلية، لأن هذه الأخيرة على حق والأكثرية على ضلالة.

وفي مقابل هذه القوى، هناك كتلة كبيرة غير متجانسة تضم الوطنيين الذين ليست لهم انتماءات عقائدية أو تنظيمية، إلى جانب بقايا القوميين واليساريين الذين لم يعودوا يمثلون أحزابا بل أفكارا وتوجهات، ولكن أطراف هذه الكتلة غير المتجانسة تلتقي جميعها حول مطالب الديمقراطية والدستور والدولة المدنية، وهذا يجعلها عمليا تقف صفا واحدا في مواجهة كل من يقف ضد هذه المطالب ويرفع شعارات تتناقض معها.

إن ما يميز هذه الكتلة المجتمعية بمختلف أطيافها هو أن قوتها تكمن في تجمعات ومكونات المجتمع المدني، وليست لها امتدادات قوية داخل الكتائب والمليشيات المسلحة التي تعتبر شبه محتكرة من قبل التيارات الدينية المعتدلة منها والمتطرفة، وهذا يعني أن هذه الكتلة تجد قوتها في زخم المجتمع الذي قد يتدفق بعفوية ويصبح سيلا جارفا إذا ما استشعر استفزازا ينبئ بخطر على مكتسب الحرية التي تحققت بعد ثورة السابع عشر من فبراير.

الكتائب المسلحة جزء من المجتمع ومن داخل نسيجه، ولابد من أن يدرك الكثير منهم أن الديمقراطية تتيح لآرائهم وأفكارهم فرصة أكبر وأفضل مما يتيحه لهم سلاحهم في مجتمع مسلح حتى أسنانه

لا شك في أن هذا الاختلاف حول ما ينبغي أن تؤل إليه الثورة بين قوة منظمة ومسلحة ترى أن مساهمتها في الثورة كانت حاسمة وبين بقية قوى المجتمع يضع الثورة الليبية أمام مسارين، أولهما يتمثل في فرض رؤية هذه القوة التي لم تشارك في الثورة من أجل بناء دولة مدنية ودستور وضعي وديمقراطية غربية، أما المسار الثاني فيقود إلى إنجاز ما كان مرفوعا من شعارات أثناء الثورة، وهي لا تلتقي مع الرؤية المتبناة في المسار الأول، ولكن لا ينبغي إغفال بعض الحقائق التي تؤثر في هذا المشهد، وأولاها أن هذه القوى المسلحة لم تدخل إلى هذا المشهد على إثر انقلاب خاطف بينما كانت بقية قوى المجتمع نياما أو تصفق وتتفرج، وثانية هذه الحقائق أن بقية قوى المجتمع وإن لم تكن منضوية في تشكيلات مسلحة إلا أنها ليست عزلاء من السلاح، وثالثة هذه الحقائق هي أن المجتمع قد اكتشف قوة الفعل الجماعي ولم يعد قطيعا يمكن أن نهش عليه ونعيده إلى الحظيرة.

ولعل خير دليل على ذلك هو ما حدث في جمعة إنقاذ بنغازي التي خرجت فيها جماهير المدينة تطالب بحل الكتائب المسلحة ووضع حد لفوضى السلاح، وما أعقب ذلك من صدامات عندما اقتحم آلاف المتظاهرين عددا من مقرات هذه الكتائب، وأخرى هذه الحقائق هي أن المنتمين إلى هذه الكتائب هم جزء من المجتمع ومن داخل نسيجه، ولابد من أن يدرك الكثير منهم أن الديمقراطية تتيح لآرائهم وأفكارهم فرصة أكبر وأفضل مما يتيحه لهم سلاحهم في مجتمع مسلح حتى أسنانه.

إن هذا المشهد الليبي -الذي يضم معظم قوى المجتمع المصرة على الخيار الديمقراطي والدولة المدنية في مقابل أقلية معارضة مسلحة- لا ينبئ بإمكانية قيام دكتاتورية، بل يفضي منطقيا إلى الديمقراطية أو إلى الفوضى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.