عن الثورة الليبية

العنوان: عن الثورة الليبية



الثورة والتحديات
الثورة والأساس الجديد للتحرير

تمثل الثورة العربية في مفتتح القرن الـ21 سياقا جديدا في المنطقة العربية والعالم لا بد من استحضاره عند النظر في الوضع الدولي وما يمكن أن يشهده من أحداث وردود أفعال.

ذلك أن كثيرا من الجدل الدائر يتم وكأن الثورة لم تحدث، ويمثل قرار مجلس الأمن عدد 1973 بتنفيذ ضربات جوية ضد كتائب القذافي الأمنية بغاية حماية المدنيين علامة فارقة. حتى لكأنه يعيدنا إلى سياق ظننا أن الثورة قد جبته ويتمثل في الوقوع في نقيضة سياسية طرفاها الاستبداد والاستعمار وبينهما نزعة تحرر، فكيف نفهم القرار وتداعياته وصلته بالثورة والمقاومة ومآلاتهما؟

الثورة والتحديات

"
إذا قسنا الثورة الليبية على نموذجي تونس ومصر فإنها تكون قد أنجزت مهمتها في وقت قياسي، وأسقطت القذافي سياسيا ورمزيا في الأسبوع الأول منها
"

انطلقت الثورة الليبية شعبية سلمية، وإذا قسناها على نموذجي تونس ومصر فإنها تكون قد أنجزت مهمتها في وقت قياسي، وأسقطت القذافي سياسيا ورمزيا في الأسبوع الأول منها، فلم يصدق "القائد الأممي" عينيه وهو يرى صوره تداس بالأقدام وكتابه الأخضر يتفحم حرقا، وهاله ما سمع من صرخات الثائرين تلعنه وتطالب برحيله… وبدا عنفه النسقي غير المسبوق فعلا انقلابيا على ثورة جذرية حقيقية، وردةَ فعل انتقامية تلغي كل علاقة إضافة، بالمعنى الخلدوني، بينه والشعب الليبي.

فقد ارتفعت أمام دك المدن علاقة حاكم/محكوم لتحل محلها علاقة أخرى من الصعب تحديدها بالاستناد إلى المعلوم من التجربة الإنسانية قريبها وبعيدها.

وبذلك يكون القذافي قد جر الثوار إلى المغالبة العنيفة بعد أن أثخن فيهم ولم يترك لهم إمكانا لمواصلة المغالبة السلمية، لقد كان يطمح إلى تحويل الثورة إلى حرب أهلية القبلية شرطها الأساسي، ولكن نجاح الثوار في تجاوز المطب القبلي وقدرتهم، إلى حد كبير، على توظيف رابطة الانتماء الاجتماعي وطنيا، حوّل ثورتهم السلمية إلى حركة تحرر شعبية، ولم يبق للقذافي من ولاء إلا ولاء الدائرة العائلية الضيقة، أو ولاء المرتزقة الذين فاقت جنسياتهم العشر. ولم يكن له من وازع يزعه عن تحويل المواجهة المسلحة مع الثوار إلى حرب إبادة طالت كل ما يتحرك على الأرض، فكان القرار الأممي.

كانت الثورة حدثا متوقعا في أرض الكنانة بعد نجاحها المظفر في تونس، وعاد إلى الأذهان دور مصر الريادي في المجال العربي، فهي قلبه النابض حتى قيل مع بداية اندلاع الثورة فيها إن مستقبل الثورة العربية يتقرر في مصر.

وكانت قلة من المراقبين تشير على استحياء إلى العقبة الليبية التي اجتمع في "نظامها" ما لم يجتمع في غيره، فلا أقل من طول العهد (أربعون سنة من حكم الفرد المطلق) وأهمية الموقع الجغرافي (بين ثورتين) وامتلاك الحاكم بأمره ثروة لا أول لها ولا آخر.

ولم تتضح هذه العقبة إلا بعد أن نجحت الثورة في مصر في إسقاط مبارك، ولولا اتعاظ القذافي بما وقع فيه من عداء لتجربة تونس لأظهر مثله للثورة المصرية، فزع القذافي الثورة من تونس، ولم يتورع عن وسمها بالعبثية ونصب نفسه وصيا على الجماهير التي فجرتها يوجهها لقصورها عن إدراك مصلحتها ويعيب عليها تخليها عن صديقه بن علي.

كانت سمة هذا الجيل الجديد من الثورات طابعها السلمي. وإن أول تحد واجه الثورة مع القذافي هو حرفها عن وجهها المميز. وكان، قبله، مبارك فشل في هذا المسعى في واقعة الجمل الشهيرة.

وقد نجحت الجماهير في تونس ومصر في إزاحة أعتى نظامين في المنطقة بصدور عارية، وتمكنت من محاصرة الفساد والاستبداد و العمل على اجتثاث شروطهما.

وكان التحدي الثاني في تدويل الثورة في ليبيا بحمل المجتمع الدولي على التدخل لحماية المدنيين الذين كانوا هدفا سهلا أمام كتائب القذافي، وهو لن يغفر لليبيين جراءتهم عليه وخروجهم آلافا تتحدى كبرياءه وتطاول جبروته وتتنكر لإرثه.

يمثل التدخل الأممي في ليبيا عودة إلى مربع قديم ظن أن الثورتين في تونس قد تخطتاه، وأن المجال العربي الذي يعيش ثورته المؤجلة قادر على أن ينجز انتقاله الديمقراطي بوسائله الذاتية، بعد أن كاد يستقر في الأذهان أن لهذا الإنسان في هذا المجال تقاليد في مقاومة المستعمر ولكن لا تقاليد له في مقاومة الحاكم المستبد.

وهذا ما جرأ الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وهو يغزو أهم عواصم الإسلام التاريخية بغداد في العام 2003 ويدمر مؤسسات الدولة تحت عنوان إسقاط النظام، على القول إنه إنما أتى بوعود للديمقراطية صدقها ركوب بعضِ من اعتبِروا معارضة عراقية على دبابات الغازي باتجاه المنطقة الخضراء.

"
كانت الحركة الجذرية في مصر وتونس ثورة خلاّقة في مواجهة فوضى بوش غير الخلاّقة، ولكن القذافي أبى إلا أن يفسد على الأحرار تحررهم الذاتي
"

كانت الحركة الجذرية في مصر وتونس ثورة خلاقة في مواجهة فوضى بوش غير الخلاقة، ولكن القذافي أبى إلا أن يفسد على الأحرار تحررهم الذاتي. ويعطي القوى الدولية التي باغتتها الثورة في تونس ومصر وارتبكت في التعامل معها، فرصة العودة بقوة، وأن يكون لها موقع في الخريطة التي ترسم ملامحها ثورة العرب الجديدة.

من هذه الزاوية ننظر إلى التدخل الأممي، وهو تدخل مرفوض من الناحية المبدئية، قبل الثورة وبعدها. وأمام إصرار القذافي على ذبح شعبه، كان اندفاعه نحو بنغازي بكتائبه وكان إسراع القوى الدولية الحثيث (ود خلص كثيرون لوكانت قوة عربية) لمنعه قبل دخول المدينة، أشبه بسباق مخيف، بلغت فيه القلوب الحناجر، خوفا على أهل بنغازي من إبادة محتمة، مما جعل تجريد هذه المهمة من كل بعد إنساني تعميما مخلا ومرافعة مهزوزة. وبنفس القوة لا يمكن دفع نتائج هذا التدخل السياسية، وما سيكون لها من أثر غير محمود على المنطقة.

الثورة والأساس الجديد للتحرير
يتقاطع في الثورة الليبية أطراف ثلاثة، الثورة العربية الجديدة، وقوى المقاومة التقليدية، والأطراف الدولية (أوروبا والولايات المتحدة). وقد بدت لنا قوى المقاومة التقليدية ورأس حربتها حزب الله في لبنان غير مرتاحة كثيرا إلى النتائج السياسية التي يمكن أن تحملها معها الثورة العربية.

وكان في موقف حزب الله المنبه على إمكانية استعادة الجليل، والثورة المصرية في أوجها بالملايين في ميدان التحرير وأرض الكنانة كلها تلهج بالحرية في حركة بديعة لا نظير لها في عالم الثورات، إشارة مزدوجة قد تفهم على أنها مساندة للثورة وتلميح للكيان الصهيوني بأن المقاومة قد تجاوزت رد الفعل إلى الفعل وتخطت الحدود اللبنانية إلى الأرض العربية ساحة للفعل.

كما قد تفهم على أنها توجس مما قد تحمله الثورة المندفعة في المجال العربي من أساس جديد للمقاومة والتحرير سيطول دون شك محورها القديم، إيران وسوريا ولبنان. وكأن لسان حال حزب الله وهو يهدد بالتفكير في استعادة الجليل يقول: إني هنا.

"
لا خلاف في أن للثورة في المجال العربي صلة متينة بالمقاومة ثقافة وأداء، في لبنان وفلسطين، فقد مثلت الثورة تتويجا لفرز عميق كانت قاعدته الحرية والمقاومة
"

لا خلاف في أن للثورة في المجال العربي صلة متينة بالمقاومة ثقافة وأداء، في لبنان وفلسطين، فقد مثلت الثورة تتويجا لفرز عميق كانت قاعدته الحرية (كفاية-مصر، 18أكتوبر-تونس، ربيع دمشق … إلخ) والمقاومة (حزب الله، حماس) مجاوزة لفرز قديم كان أساسه الإيديولوجيا.

وكما عادت الأطراف التي جمعتها الحرية إلى مربعات الأيديولوجيا بعد نجاح الثورة (عودة الصراع الأيديولوجي بقوة في مصر وتونس) عادت المقاومة أيضا إلى أساسها العميق لتشهد فرزا على قاعدته، فلم يكن موقف المقاومة الوظيفية (حزب الله) من الثورة في المجال العربي كموقف المقاومة العضوية (حماس).

ومن أهم معاني عضوية المقاومة في فلسطين تجذرها في شروطها المحلية مع قدرتها على الربط مع كل ما من شأنه أن يكون سندا لقضيتها سواء في المجال العربي والمحيط الإقليمي والسياق العالمي، في حين كان محور طهران-دمشق بمعانيه السياسية والعقدية يطبع المقاومة بطابع وظيفي لا تخطئه العين. ويجعلها تتردد في قراءة ما يمكن أن ينتج من تحوّل إستراتيجي مع الثورة العربية.

وتتضح الصورة أكثر عند استحضار القوى الدولية وموقفها من الثورة، فالولايات المتحدة لم تغادر ترددها، وقد فاجأتها الثورة وهي تبحث عن عقد جديد في المنطقة، بعد خسارتها رهانات غير هينة في أفغانستان والعراق، فضلا عن انكسار حليفها في المنطقة في مواجهة المقاومة في لبنان وفلسطين.

وهي اليوم واقعة بين خيارين أحلاهما مر، دعم الثورة العربية دون القدرة على التحكم في مآلاتها التي قد تفضي إلى وضع لا يخدم مصالحها ومصالح حليفها، أو الوقوف بطريقة ما مع النظام العربي القديم الذي أبدى بعضه إصرارا على الاستمرار بأي ثمن (ليبيا واليمن) ولو كان إفناء المحكومين.

بدت لنا الأطراف الثلاثة المشار إليها في مأزق أشده مأزق النظام العربي الذي يمثله في هذا المقام نظام القذافي: فالقذافي "ثائر" تهدده الثورة الجديدة. ولقد كان قبل اندلاع حركة الجماهير في ليبيا يعلن أنه أولى بها وسيكون قائدها حال اندلاعها. وأما مأزق قوى الثورة في ليبيا فقد كان في التوتر بين الرغبة في إزاحة الاستبداد وخشية الارتهان للقوى الدولية المتدخلة.

في حين تمثل مأزق القوى الدولية في الوقوع بين أمل التخلص من محور المقاومة القديم والتوجس من مآلات الثورة العربية الجديدة.

وقد استوقفتنا كلمة الرئيس أوباما الذي لم يكن أقل إحساسا بالمأزق، في تحيته الثوار في ميدان التحرير. وكان اللافت فيها شعريتها العالية، فهل يكون اللجوء إلى خطاب الشعر عند اليأس من قدرة الكلام العادي على الجمع بين الحميمي والعقلاني في آن؟!

بدا ميدان التحرير في كلمته، صوتا جمعيا اختزل نداءات الحرية المنبعثة من أعماق المعاناة الإنسانية عبر التاريخ، وهل من غاية للتاريخ يجري إليها إلا الحرية وتعينها في هويات انتظام تكتمل فيها إنسانية الإنسان؟!!

كان الرئيس أوباما يدرك أنه وريث فوضى جورج بوش، وأنه من الصعب أن تجتمع مرة أخرى شروط انتخابه لفترة رئاسية ثانية. وكأن الثورة العربية، من خلال كلمته لجماهير ميدان التحرير التي انتصرت، فتحت أمامه أملا شخصيا كبيرا وأبانت عن خيبة مسعى الولايات المتحدة بدعمها، لعقود ، أنظمة مستبدة فاسدةَ.

إن في كلمة الرئيس أوباما لحظة تحرر شخصي، رغم صعوبة التحرر العملي من الإدارة الأميركية، وبعدا ذاتيا إنسانيا لا يلغي اندراجه ضمن إستراتيجية المصلحة الأميركية، التي منها أن الثورة العربية بوعودها الجديدة في الحرية قد تناسب موضوعيا ما كانت خططت له الإدارة الأميركية وحليفها الصهيوني من رغبة في شل محور المقاومة (إيران-سوريا-حزب الله) بكسر حلقته الأقوى إيران تحت عنوان درء مخاطر مشروعها النووي.

ويبدو أن الخوف من فشل الحرب على إيران وما يكون لهذا الفشل من تداعيات كان من أسباب تأجيل الأمر.

إن إيران وسوريا ليستا بمعزل عن الثورة الجديدة، فشروطها قائمة في البلدين، رغم قوة التأطير الأمني فيهما، بل إن بوادرها في سوريا قد بدأت في الظهور، ومعلوم ما سيكون لها من أثر على مستقبل الحلف المذكور وعلى أساس المقاومة القديم.

وقد تكون مواجهة هذا الحلف لتيار الثورة جماعية، لأن في استهداف إحدى حلقاته استهدافا للبقية. وقد يكون لتفجير العبوة الناسفة في القدس الغربية صلة بهذا التجاذب بين أساسين لمواجهة الكيان الصهيوني، أساس قديم تمكن من كسر شوكة مؤسسة الاحتلال العسكرية وأساس جديد تقيمه الثورة لعل من تعبيراته السياسية تحذير مصر للكيان الصهيوني من أن أي عمل عسكري يستهدف غزة.

"
بتوحد المجال العربي سياسيا واقتصاديا، تبدأ مرحلة جديدة من أهم ملامحها اهتزاز أسس الكيان الصهيوني وشروط بقائه، وضعف نفوذ الولايات المتحدة وارتدادها إلى الأطلسي
"

إن من النتائج الإستراتيجية للثورة توحد المجال العربي الذي بقي مجالا لصراع قوى إقليمية ودولية، وتحديدا تركيا وإيران والولايات المتحدة، فللمجال التركي كيانه السياسي ولإيران كذلك.

وإذا كان انبناء الكيانات السياسية اللغوية سنة من السنن فلا معنى لتخلفها عن المجال العربي. وبتوحد المجال العربي سياسيا واقتصاديا، تبدأ مرحلة جديدة من أهم ملامحها اهتزاز أسس الكيان الصهيوني وشروط بقائه، وضعف نفوذ الولايات المتحدة وارتدادها إلى الأطلسي، لأن الثالوث العربي والتركي والإيراني سيشكل مثلثا إقليميا يغطي سياسيا واقتصاديا مجالا إستراتيجيا لا يسع لمنافس رابع بحجم الولايات المتحدة.

وبقدر ما تبدو الثورة العربية في مواجهة قوى الهيمنة التقليدية هي مرشحة لأن تكون بعد اكتمال دورتها قوة سياسية تملأ فراغ المجال العربي ببدائل وطنية تحررية ونماذج للتنمية قوامها العدل والرفاه، تجبر القوى الإقليمية(تركيا وإيران) على أن تعدل من سياساتها في ضوء ميزان قوى جديد ييسر تبادل المنافع بما يحفظ رفاه الشعوب والمشترك من الثقافة والأخلاق والتاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.