"الإنسوب".. إمبريالية التقنية وخضوع الإنسان

الإنسوب.. إمبريالية التقنية وخضوع الإنسان - عبد الله البريدي



– إمبريالية "الإنسوب
"
المجتمعات الافتراضية
نحو هندسة اجتماعية

تأتي التقنية والمعلوماتية كأهم العوامل المؤثرة في تشكيل المجتمعات الإنسانية في القرن الحالي، لدرجة أن الإنسان "المعتاد" لم يعد هو الفاعل الوحيد، بل أضحى لدينا -كما في تعبير الدكتور علي رحومة- "الإنسوب" أي "الإنسان الحاسوب" الذي يشير إلى "مركب مبرمج آليا في حالة من التواري والتماهي والتمظهر أيضا، في بنيته الخاصة من الأرقام الثنائية".

وبعبارة أخرى، الإنسوب "مركب رقمي غامض لا جسد له، بل ذات مجتمع، قد يكون مجرد برنامج حاسوب أو فرعا من برنامج" (علي رحومة، علم الاجتماع الآلي، ص: 23) يتم تصميمه وفق منظومة متكاملة من الأهداف والإجراءات والمكونات.


إمبريالية الإنسوب
وفي اتجاه يعزز النزعة الإمبريالية للإنسوب في الحياة المعاصرة، ستعمل الحواسيب على زيادة قدراتها وتفننها على ملاحقتنا في كل مكان، وتلوين مقاطع من حياتنا وفق مراد من يصنعها ويبدعها، مع تزايد هوامش انصياعنا الاستهلاكي وغبائنا الجمعي.

وثمة تنبؤات -لها ما يعضدها في الواقع المعاش- بتفتت الحاسوب الشخصي. ويعتبر الرئيس الأسبق لمركز "بالتو آلتو" مارك فايزر أول من تنبأ بتلاشي الحاسوب الشخصي واختفائه لتحل محله بطاقات ذكية تتموضع في حياتنا الاجتماعية بأشكال متعددة.

"
ثمة مجتمعات جديدة لبني الإنسان غير المجتمعات التقليدية، فقد تخلقت مجتمعات افتراضية تنشط في فضاء الإنترنت وسط تمظهرات وتفاعلات جديدة
"

وتقرر تلك التنبؤات أنه سيتم تفتيت الحاسوب إلى قطع صغيرة متناثرة في كل مكان، حيث سنجده مثلا "على الجدران وحول معاصم الأيدي والأثاث وأدوات المنازل والسيارات والمجوهرات وربطات العنق.. وقد صنعت حتى الآن نماذج أولية من هذه الأجهزة".

ويشير علماء الحاسوب في الولايات المتحدة إلى حتمية انتشار مثل تلك الحواسيب "وهيمنتها على حياتنا بحلول عام 2020" (المرجع السابق، ص: 119).

وفي يوليو/تموز 2010 تمكنت الهند من إنتاج حواسيب محمولة بتقنية اللمس مع القدرة على تصفح الإنترنت واستخدام مؤتمرات الفيديو، وذلك بتكلفة منخفضة جدا تتمثل في 35 دولارا، وهي تطمح إلى تخفيض التكلفة إلى عشرة دولارات فقط.

وتستهدف الهند شريحة الطلاب والطالبات، مما يعني الزيادة الهائلة في أعداد مستخدمي الحاسوب والإنترنت (الهند تنتج أرخص حاسوب محمول، الأخبار، منوعات، الجزيرة نت، 24/7/2010)

ولقد أسهم انخفاض أسعار أجهزة الحاسوب الكفية في انتشار واسع للكتب الإلكترونية، حيث أعلنت مكتبة الأمازون -أكبر مكتبة للبيع عن طريق الإنترنت- أنه في يونيو/حزيران 2010 تجاوز حجم مبيعاتها للكتب الإلكترونية الكتب الورقية (جريدة الوطن السعودية، الأربعاء 21/7/2010).

وتطالعنا الإحصائيات بأن عدد مستخدمي الإنترنت في السعودية قفز من 200 ألف مستخدم في ديسمبر/كانون الأول 2000 إلى 4.8 ملايين في ديسمبر/كانون الأول 2006، وتشير إحصائيات حديثة إلى أن العدد الحالي قد تجاوز ستة ملايين.

وقد تخطى عدد المستخدمين مليارا على مستوى العالم في ديسمبر/كانون الأول 2008، وتصل نسبة مستخدمي الإنترنت في نيوزيلندا قرابة 80% من عدد السكان. والدول الأخرى -حتى الفقيرة منها- تشهدا نموا مطردا في مجال الولوج إلى الإنترنت.


المجتمعات الافتراضية
ثمة مجتمعات جديدة لبني الإنسان غير المجتمعات التقليدية، فقد تخلقت "مجتمعات افتراضية" (Virtual Societies) تنشط في فضاء الإنترنت وسط تمظهرات وتفاعلات جديدة.

وقد بلغ عدد المشتركين في شبكة فيسبوك على سبيل المثال 2.3 مليون في السعودية وحدها، وزادت نسبة من هم تحت عمر 25 سنة فغدوا يمثلون 48% من أعداد المشتركين.

وموقع فيسبوك (أو دولة فيسبوك كما في عنوان أحد الكتب العربية الحديثة) أنشئ عام 2004 من قبل مارك زوكر وهو طالب أميركي شاب (19 عاما) درس في هارفارد وكان ينوي إقامة شبكة اتصالات تضم أصدقاء الجامعة، فإذا بالشبكة تبتلع الملايين في العالم في غضون أشهر قليلة، وقد أبانت إحصائيات بأن عدد المشتركين قرابة نصف مليار.

"
نحن أمام حقيقة ظهور سياقات جديدة تبرهن على تناقص قدرة الدول على فرض السيادة الوطنية على فضاء الإعلام الجديد، وبالأخص الإنترنت، وهذا يعني خروج العفريت من القمقم في مسارات مجهولة
"

ويقضي المشتركون ما يزيد على 700 مليار دقيقة شهريا، ويزيد عدد المشتركين في الدول العربية على 15 مليونا، في موجة تصاعد مستمر.

وفي يوليو/تموز 2010 وفي مصر مثلا بلغ العدد 3.581.460 بنسبة زيادة 357.2% خلال 24 شهرا فقط، وهذا يعني أن أولادنا وبناتنا مندفعون إلى فيسبوك بشكل يشابه ويفوق نظراءهم "الفيسبوكيين" في بعض الدول، وهو ما يدعو إلى التعرف على دواعي ذلك وآثاره ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وأمنيا.

ونحن هنا نؤكد على البعد النوعي الكيفي في التحليل، فمع أهمية الاستئناس بالأرقام والإحصائيات فإن الأكثر أهمية هو التساؤل النقدي عن مسببات التأثير وكيفيته ونوعه وحجمه ومداه واتجاهاته ومجالاته.

المسافة بين الرياض وباريس على سبيل المثال لم تعد تقاس بالأميال أو الكيلومترات، بل أضحت مسافة من نوع آخر تقاس برحلة طيران لا تتعدى بضع ساعات، أو حتى عدة ثوان من خلال الضغط على أزرار القنوات الفضائية أو بعض الأيقونات في عالم الإنترنت، لينتقل الإنسان من شارع العليا في الرياض إلى شارع شانزليزيه في باريس أو شارع أكسفورد في لندن.

وهنا نتذكر فكرة رولاند روبرتسون "انضغاط العالم إلى مكان واحد" (نقلا من: جون توملينسون، العولمة والثقافة، ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم محمد، ص: 22)، وهذا يعني أن المسافة باتت اجتماعية ثقافية أكثر من كونها مسافة مادية.

ومن المسائل التي تهمنا إثارتها هنا أننا أمام حقيقة ظهور سياقات جديدة تبرهن على تناقص قدرة الدول على فرض السيادة الوطنية على فضاء الإعلام الجديد، وبالأخص الإنترنت "الفضاء السايبري"، حتى الدولة البوليسية لم تعد تملك مجرد تحريك كتيبة واحدة صغيرة من جيشها داخل حدود المملكة السايبرية، فضلا عن التحكم في كيفية التفاعلات والتشكلات والأفكار التي تستعصي على الملاحقة والمتابعة والتحكم، خاصة أن دولا أوروبية بجانب الهند والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا تضغط باتجاه فك الارتباط بين الإنترنت وتحكم الولايات المتحدة بمفاصلها من خلال ما يعرف بـ"الإيكان" بحيث تصبح الإنترنت "ملكا كونيا مشتركا".

وهذا يعني خروج العفريت من القمقم في مسارات مجهولة لا نعرف بالضبط منتهاها، في مشهد يدفعنا إلى استجلاب تعبير "ثقافة الشبح" وفكرة "بوديار" حول وسائل الإعلام الجديد التي تصنع "واقعا خارقا للواقع.. فاقدا لأي مناخ"، أي أنها "تصنع واقعا لا واقع له، منتجا من خلال خلايا منمنمة، فيمكن بذلك أن يعاد إنتاجه إلى ما لا نهاية" في سيناريو يتوقع "تدمير كل المرجعيات"، وانحسار المخيال ومن ثم الإبداعية وابتكار الصور الذهنية لحساب المعرفة الهشة والصور المعلبة والمصطلحات الفارغة من المدلولات ذات القيمة (محسن بوعزيزي، السيميولوجيا الاجتماعية، ص: 230).

"
نحن بأمس الحاجة إلى أن نطور أدوات لتحسين طرائق الهندسة الاجتماعية بما يزيد من ذكائنا الجمعي ويجعلنا أكثر فعالية في التعاطي مع المسائل والمعطيات الجديدة، كي لا تتخلق لدينا قابلية التحول من فاعل إلى مفعول به
"

يجب علينا أن نقر بأننا أمام حقيقة التغيرات المذهلة التي تجرنا إليها وسائل وقنوات جديدة، تعمل على تشكيل المجتمعات وتلوين تفاعلاتها وإحداث تغييرات بنيوية معمقة في تلك المجتمعات من حيث الماهية والهوية والمجموعات الوظيفية والأدوار والمراتب والهرمية والرموز الثقافية والسلطوية والعلامات الاجتماعية والأنساق الثقافية والمواطنة ونحو ذلك.

ولعله يكفي أن نشير هنا على عجل إلى حتمية إعادة تشكل الهويات في عصر الإعلام والمعلوماتية وثقافة غربية مهيمنة، فنحن إزاء هويات جديدة -"هويات رقمية" أو "هويات آلية"- نحضر فيها "الشخصية الإلكترونية" وتفرز مزيجا جديدا من السمات والتفاعلات والتمظهرات الفردية والجماعية في فضاء سايبري لا حد له ولا قيد عليه (علي رحومة، المرجع السابق، ص: 134-150)، حيث ينطلق الناس في تفاعلات إلكترونية "عفوية" و"مخططة" داخل أجواء مجتمعاتهم "الافتراضية" الجديدة كغرف الدردشة أو الشات، وتدفعهم تلك التفاعلات أحيانا إلى تمثل "ذوات مثالية" أو "ذوات متقنعة" وتشكّل هويات جديدة بمغذياتها الثقافية واللغوية، وتكسير حواجز أو محرمات ثقافية مع التعرض المستمر لمؤثرات من شأنها "التطبيع" مع بعض التابوهات والموانع أيا كان نوعها.

ويتعين علينا هنا استحضار أن الهوية العربية -كما يقول الدكتور سعد البازعي في كتابه "شرفات للرؤية"- قد استحالت إلى "هوية عالمثالية"، وهي هوية هجين تجمع بين الثقافة المحلية من لغة ودين وموروث ثقافي وشعبي، وثقافة أجنبية بإطارها اللغوي والديني والثقافي والشعبي، ومن ذلك ما نشهده من تشكل لغة عربية مهجّنة معجّنة مشوّهة، وانعكاسات ذلك على الهوية وطرائق التفكير.


نحو هندسة اجتماعية
أحسب أن ما سبق كله يدل على أننا بأمس الحاجة إلى أن نطور أدوات لتحسين طرائق "الهندسة الاجتماعية" بما يزيد من ذكائنا الجمعي (وليس مجرد ذكاء مجموع الأفراد)، وبما يجعلنا أكثر فعالية في التعاطي مع المسائل والمعطيات الجديدة، كي لا تتخلق لدينا قابلية التحول من "فاعل" إلى "مفعول به" في سياقات الحياة المعاصرة التي تزداد تعقيدا وتشابكا.. لاسيما أننا لا نزال نحمل في عقولنا وقلوبنا "حلم النهضة" في ضوء مشروعنا الحضاري العربي الإسلامي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.