عالم الفضائح

العنوان: عالم الفضائح - الكاتب: محمود المبارك



إذا كان من سمة بارزة تميز عالم اليوم، فهي أنه أصبح عالم الفضائح, ذلك أن أسرار الدول لم تعد أسراراً كما ينبغي لها أن تكون، بل باتت أسرار الدول القوية والضعيفة على كل لسان وبشكل جريء وغير مسبوق.

ففضائح البرقيات المسماة "كيبل غيت" التي نشرها موقع ويكيليكس مؤخراً، ربما آذنت بانصرام عصر الدبلوماسية السرية، ودشنت عصر "الدبلوماسية المفضوحة" التي تحمل معها تحديات تتناسب مع عالم التقنية الحديث، في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

"
الجديد والمفاجئ الذي أبدعه الأسترالي أسانج يتمثل في الكم الهائل الذي لم تستشرفه أي من استخبارات الدول التي تزعم أنها ترقب دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء
"

تحديات قد لا تروق أصحاب الخبرة العريقة من الدبلوماسيين الذين أفنوا أعمارهم في دفن أسرار حكوماتهم، التي ربما يكون كشف خبيئها سبباً لانهيار بعض تلك الحكومات.

وعلى الرغم من أن كشف مستور الحكومات ليس بالجديد ولا المفاجئ، فإن الجديد والمفاجئ الذي أبدعه الأسترالي جوليان أسانج يتمثل في الكم الهائل الذي لم تستشرفه أي من استخبارات الدول التي تزعم أنها ترقب دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، وفي التوثيق الرسمي لهذه الفضائح والذي يصعب دحضه.

الأخطر من ذلك أن ما تم الكشف عنه -والذي يكفي لتغطية سطح الكرة الأرضية برمتها- ما هو إلا غيض من فيض ما هو قادم مما لا يعلمه إلا الله، الأمر الذي يحتم على حكومات الدول أن تتوقى صدمات مستقبلية محسوبة، بعد صدمتها الأخيرة غير المحسوبة.

بيد أن الملفت في فضائح البرقيات السرية هذه، هو الصورة المتباينة بين أسرار الولايات المتحدة وفضائح الدول العربية. فالوجه القبيح للوثائق المتعلقة بالحكومة الأميركية، يكمن في الطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع "حلفائها" من ناحية، وأنها لم تحفظ سر أولئك "الحلفاء" من ناحية أخرى.

أما فضائح الدول العربية والمسلمة فهي أعم وأخزى، إذ كشفت هذه الوثائق أن غاية بعض هذه الدول مقصور على كسب ود إسرائيل والولايات المتحدة على حساب مصالحها وشعوبها، ولعله السبب الذي من أجله تصر تلك الحكومات على أن يكون عملها الدبلوماسي سراً لا جهراً.

والحقيقة المرة التي كشفتها فضائح "كيبل غيت" أن دبلوماسية الدول العربية والإسلامية تشبه البكتيريا في عملها، فهي لا تعمل إلا في الظلام ولا تعيش إلا في الماء الراكد، أما حيث تصيبها أشعة الشمس أو يأتيها الماء الهادر من كل مكان، فإنها تموت وتغرق!

المثير للسخرية في أمر هذه البكتيريا التي تعشش في كامل جسد العالم العربي والإسلامي، أنه يراد لها أن تبقى من قبل العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة التي تحاول إيجاد "مضاد حيوي" ليس لإزالة هذه البكتيريا السياسية، وإنما لإبقائها بابتداع دبلوماسية "تجديد الثقة"، كما صرحت بذلك وزيرة الخارجية الأميركية!

"
دبلوماسية الدول العربية والإسلامية تشبه البكتيريا في عملها، فهي لا تعمل إلا في الظلام ولا تعيش إلا في الماء الراكد، أما حيث تصيبها أشعة الشمس، أو يأتيها الماء الهادر من كل مكان، فإنها تموت وتغرق
"

هذا المضاد الحيوي الذي يتم تحضيره في مصانع الأدوية السياسية الأميركية بسرية أكثر حذراً، يتمثل في خلق جيل من "الدبلوماسيين الجدد" الذين عليهم أن يتعلموا من دروس هذا الجيل كيف يكذبون على شعوبهم دون أن يكتشفهم أحد، وألا يكترثوا كثيراً في حال اكتشاف كذبهم!

ولعل أول وأولى الدروس المستفادة في الجانب العربي والمسلم، أن "انعدام الثقة" الذي نتج عن إشاعة "الأسرار الدبلوماسية" يجب أن يكون دافعاً، ليس إلى "تجديد الثقة" مع الولايات المتحدة، وإنما إلى "خلق الثقة" الكاملة لدى حكومات الدول العربية والمسلمة، في أن تصرح بما تعتقده وتؤمن به، دون تردد.

بل إنه ليس من المبالغة القول إن اتباع طريق "الدبلوماسية المفضوحة" لأجل المطالبة بالحقوق الشرعية، قد يكون أكثر نفعاً من المضي في طريق "الدبلوماسية السرية".

ذلك أن بعض الحقائق المكشوفة عكست إلى حد كبير، اختلاف أولويات الدول الخليجية والعربية مع حليفتها الولايات المتحدة. ففي الوقت الذي تؤكد فيه هذه الوثائق على خوفٍ مشروعٍ لعدد من الدول العربية من القوة المتنامية لإيران، لا تعكس هذه الوثائق أي قلق حقيقي رسمي في الجانب الأميركي للقوة الإيرانية النووية، فما السر في ذلك يا ترى؟!

في الوقت ذاته، ربما كان من الحكمة ألا تفرط حكومات الدول العربية والمسلمة في تفاؤلها مع "دبلوماسية تجديد الثقة" المزعومة هذه، ولتتذكر هذه الحكومات أن إحدى ركائز السياسة الأميركية الخارجية، هو ما أشرت إليه في مقال سابق باسم "سياسة الفضح" التي تنفرد بها الولايات المتحدة!

الشواهد على ذلك كثيرة، ولعل أبرزها فضيحة سجن أبو غريب الغنية بالشهرة عن التعريف، والتي لم تمتد إليها يد ويكيليكس قط! إذ تم أخذ ونشر تلك الصور المخزية من قبل مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية ومن غير وسيط!

شبيه بذلك جرائم القوات الأميركية التي تم فضحها من قبل خمسين محارباً أميركياً كانوا قد شاركوا في الغزو الأميركي على العراق، حين أدلوا بشهاداتهم لمجلة "ذي نيشن" الأميركية في عدد يوليو/تموز 2007، حيث تم نشر ما أحسبه "توثيقاً قانونياً لجرائم الحرب" من قبل هؤلاء المحاربين.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الصحافة الأميركية هي التي سربت فضيحة تعاون حكومة الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته محمود عباس مع إدارة الرئيس جورج بوش في الإعداد لإنشاء "فرقة موت" فلسطينية في غزة تحت قيادة قائد الأمن الوقائي السابق محمد دحلان، كما جاء في التفاصيل التي نشرتها مجلة "فانتي فير" الأميركية في عدد مارس/آذار 2008.

"
جيل ويكيليكس الجديد لن يبقى رهينة شخص بعينه، وما قد يعجز عنه أسانج ربما تابعه مئات أو حتى آلاف من الأسانجيين القادمين ولسان حالهم يقول: مرحباً بكم في عالم الفضائح!
"

هذه الفضائح وغيرها الكثير مما لا يسع المجال لذكره، خرجت بأيدٍ أميركية رسمية وشبه رسمية، وغني عن القول إنه لم يصحب ظهور أي من تلك الفضائح كثير اكتراث أميركي. وإذا كانت الولايات المتحدة لا تجد غضاضة في فضح أسرارها، فلا غرابة إذاً أن يكون حفظها لأسرار حلفائها بنفس الطريقة التي تعامل بها أسرارها! الغريب أن أمتنا العربية والمسلمة لا تزال تتعلم من أخطائها في التعامل بالثقة الكاملة مع من تعلم جيداً أنه ليس أهلاً للثقة!

وإذا كان العالم السياسي الجديد يؤرخ بأحداث سبتمبر/أيلول 2001، فإن عالماً آخر جديداً بدأ منذ خروج ويكيليكس. ومن خلال هذا العالم الجديد جداً، تشرئب أعناق الرقباء في كل مكان لنشر أخبار "البكتيريا" التي لن تجدي كل المضادات الحيوية في منع انتشارها!

ولو نجحت جهود الاستخبارات الأميركية وغيرها من استخبارات العالم الغربي في إيقاف نشر المزيد من الفضائح من موقع ويكيليكس، فإن الأمر الذي يجب ألا يغيب عن أذهان السادة الغربيين أن "جيل ويكيليكس الجديد" لن يبقى رهينة شخص بعينه، وما قد يعجز عنه أسانج ربما تابعه مئات أو حتى آلاف من الأسانجيين القادمين، ولسان حالهم يقول: مرحباً بكم في "عالم الفضائح"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.