وثائق ويكيليكس وحروب التشهير

وثائق ويكيليكس وحروب التشهير - الكاتب: إبراهيم عجوة



ويكيليكس الذي لا يقهر
القطب الافتراضي
فوضى خلاقة بوسائل جديدة

 

لا بد من الإقرار أولاً أن الوثائق الأميركية التي تم تسريبها في موقع ويكيليكس جاءت في جانب منها لتؤكد ما بات ثابتاً من ثوابت قناعات الرأي العام، القائل بأن كل مبررات الصراع التي طرحت للحرب الأميركية على العراق وأفغانستان وغيرهما من الأماكن في العالم، لم تكن أكثر من افتراءات كان الهدف الحقيقي منها تحويل هاتين الدولتين وغيرهما من مناطق العدوان أو التوتر إلى ميادين صراع بالوكالة بين القوى الساعية إلى الهيمنة، أو الحصول على حصة أكبر من المكاسب الإستراتيجية في ما تعتبره هذه القوى مناطق نفوذ قائمة أو ممكنة.

كشفت هذه الوثائق في وجه آخر منها عن تلك الطريقة والنظرة التي تتعاطى من خلالها الدبلوماسية الأميركية مع صناع القرار في دول العالم الثالث وفي منطقتنا بشكل خاص، حتى وإن اعتبرت هذه الوثائق مجرد تحليلات لدبلوماسيين أميركيين.

الكتابة في هذا الموضوع لا تستهدف الخوض في مدى صدقية هذه الوثائق التي لا يمكن حسمها بيقين عالٍ، بقدر ما تستهدف الإضاءة على وظيفة عملية التسريب ذاتها ومحاولة الإضاءة على المستفيد من هذه العملية، وعلى استهدافات الضجة والقلق الأميركي المفتعل حولها، والاعتذار الأميركي السمج بوقار للجهات الصديقة التي طالها بعض شرر هذه الوثائق.

ظاهرة تسريب الوثائق الأميركية بهذا الكم الضخم، وهذا التنوع الواسع، وهذا التفاوت اللافت في التركيز، وهذا التباين المدهش في الأهمية، لا بد أن يطرح تساؤلات منطقية ضرورية وعديدة:

أولها- حول متغير مفترض في القدرة التقنية على القرصنة.

والثاني- حول متغير في ميزان القوى الدولي يسمح لطرف بممارسة هجوم إلكتروني على أسرار الاستخبارات الأميركية.

والثالث- حول متغير التكتيك الأميركي في وسائل الحرب.

"
كشفت وثائق ويكيليكس -في وجه منها- تلك الطريقة التي تتعاطى من خلالها الدبلوماسية الأميركية مع صناع القرار في دول العالم الثالث وفي منطقتنا بشكل خاص، حتى لو اعتُبرت هذه الوثائق مجرد تحليلات لدبلوماسيين أميركيين
"

ويكيليكس الذي لا يقهر
ما المراد من هذه الضجة الإعلامية التي أثيرت مؤخراً حول موقع ويكيليكس الذي بات بين عشية وضحاها أقرب إلى تنظيم القاعدة الذي كان يهدد أمن وسلامة الولايات المتحدة الإستراتيجي ليتم اتخاذه ذريعة لتدمير دولتين وشعبين وشن حملة على منطقة الشرق الأوسط تحت ذريعة مكافحة الإرهاب؟ فإذا نحن اليوم إزاء "قاعدة" إلكترونية تهدد أمن وسلامة الولايات المتحدة وكأننا إزاء حرب جديدة قد تكون بدايتها الويكيليكس ولا نعرف ديناميكياتها ونهايتها.

فهل يمكن بهذه البساطة التصديق بأن موقعاً بحجم موقع ويكيليكس وطاقمه يستطيع القيام بهذا المستوى من الاختراق لأكثر الأجهزة الأمنية خبرة في العالم وأرفعها تقنية وأعلاها إمكانيات، والسطو على كل هذا الكم من الوثائق وكأنه يغرف من بحر؟ وإذا كانت المسألة تقنياً بهذه البساطة فهل تعجز الدول وأجهزتها الأمنية والتقنيات المتوفرة لديها عن القيام بمثل ما قام به موقع ويكيليكس؟ ونحن نعرف أن المقدمة الأهم لكسب أي معركة تكمن في قدرة أي طرف على اختراق جهاز معلومات واستخبارات الخصوم.

وهل يراد التصديق بأن اختراقاً أمنياً قام به طاقم ويكيليكس واستطاع من خلاله تجنيد أحد أعضاء جهاز الاستخبارات الأميركي ليقوم بهذه العملية؟ وهل آليات السرية بهذه البساطة والترهل بحيث تفسح المجال لعنصر اختراق أن يلتهم كل هذا الكم من الوثائق ويقوم ببيعها أو التبرع بها لموقع ويكيليكس؟

وما سر هذا الغموض الذي يتم إسباغه على مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج الذي كان مغموراً وتحول بين عشية وضحاها إلى لغز محير، وتتابعه أجهزة الاستخبارات الأميركية والدولية دون أن تستطيع محاصرته أو التأثير عليه وهو يتحدى كل إمكاناتها وقدراتها الاستخبارية؟!

الأجهزة الأمنية المتعاونة في اللعبة تسرب ومن خلال وسائل إعلام مرتبطة بها أن جل ما تعرفه عن الرجل أنه أبصر النور عام 1971 في جزيرة مانيتيك شمال شرق أستراليا، وأنه أمضى طفولته متنقلا كالرحّل، وتنقل بين 37 مدرسة وفق ما ادعت وسائل إعلام أسترالية أنه نقلاً عنه، وأنه اكتشف موهبته في القرصنة المعلوماتية عبر الإنترنت وقدرته على التصرف كقرصان حقيقي سعيا وراء الممنوعات الحساسة.

إذن نحن هنا إزاء قرصان إلكتروني معروف ومجهول في آن واحد، شبه مشرد ويتحدى أعظم قوة في العالم، ويستعصي على الكشف وعلى الكسر، فأين يكمن السر؟ ربما في دهاليز الاستخبارات الأميركية ذاتها.

"
من هي هذه الدولة التي يمكنها تحمل مسؤولية الهجوم التقني الذي لا يمكن النظر إليه باعتباره أقل خطورة من الهجوم العسكري إذا أردنا افتراض صحة السيناريو والوثائق كما شاءت وسائل الإعلام تصويره؟
"

القطب الافتراضي
وإذا لم يكن بالبساطة تصديق المتغير الأول فإن المتغير الثاني المتعلق بميزان القوى الدولي يفتح السؤال القائل باحتمال أن يكون الاختراق قد حدث من جهاز دولة منافس أو معادٍ للولايات المتحدة الأميركية، وهو ذاته من سربها لموقع ويكيليكس، والموقع وصاحبه ليسا أكثر من أدوات في معركة نوعية مفتوحة.

فمن هي هذه الدولة التي يمكنها تحمل مسؤولية هذا الهجوم التقني الذي لا يمكن النظر إليه باعتباره أقل خطورة من الهجوم العسكري إذا أردنا افتراض صحة السيناريو والوثائق كما شاءت وسائل الإعلام تصويره، وكما شاء المسؤولون الأميركيون تصويره أيضاً من خلال الإشارة وعبر أكثر من مسؤول عن تهديد جدي لأمن الولايات المتحدة ولحياة أشخاص متعاونين في شتى أنحاء العالم ومن مستويات مختلفة مع أجهزة الاستخبارات الأميركية.

فهل هناك دولة في المشهد السياسي الدولي الراهن تضع نفسها في موقع البادئ والراغب في شن هجوم عسكري على أميركا؟ وهل وصل احتدام الصراع بين أي قطب منافس أو نقيض للولايات المتحدة إلى هذا المستوى من التصعيد؟

وإذا كان مفهوماً في الصراع الاستخباري الدولي أن تقوم الاستخبارات المتنافسة أو المتصارعة باختراق -والتجسس على- بعضها البعض وجمع المعلومات عن الخصوم، فليس مفهوماً أن يكون الاختراق بهذا المستوى من العلنية والتحدي، حيث تحتفظ الأجهزة الاستخباراتية عادة باختراقاتها طي الكتمان إلى أطول فترة ممكنة، أو يتم كشف الاختراق من الخصوم، وغالباً ما لا يخرج حتى هذا إلى العلن. وهل يفهم من الصمت الأميركي عن كشف الدولة/الجهاز الذي يقف وراء الهجوم أنه راجع إلى عجزها عن تحديد هذا الخصم أم عن مواجهته؟

"
الوثائق التي نشرت حول العراق توجه الفضائح والاتهامات بشكل رئيسي نحو الطرف الإيراني والمليشيات التابعة له, وهي تنشر وثائق أخرى في المقابل لتقول إن العرب بدون استثناء يقفون في معسكر معاد لإيران
"

فوضى خلاقة بوسائل جديدة
أما ما يتعلق بالتساؤل الثالث حول متغير ما في تكتيك الحرب الأميركية، والذي لا ينطلق بالضرورة من نظرية المؤامرة بقدر ما ينطلق من تحليل طبيعة الوثائق المسربة، ليكتشف أن الطرف الوحيد المستفيد من تسريب هذه الوثائق هو الطرف الأميركي حصراً وتحديدا.

فالنسبة الغالبة من الوثائق المسربة تكشف عن جرائم مفترضة أو حقيقية مارستها أطراف خصوم لأميركا، وإن حوت بعض التجاوزات الأميركية فهي غالباً فردية وتعود إلى جنود أميركيين على الحواجز كما هي في حالة الوثائق العراقية المسربة، ولم تخرج عن كونها تجاوزات فردية تحدث خلال أي حرب.

ملايين الوثائق السرية التي تحتوي على فضائح أو جرائم لدول أو لصناع قرار أو لرموز سياسية، سواء تلك المنشورة أو التي تتسرب تباعاً أو تلك التي يعتزم موقع ويكيليكس نشرها والتي يتوقع أن تشمل مراسلات وصفت بالمحرجة صادرة عن عدة حكومات في العالم، وتشمل آراء سرية تفتقد إلى اللياقة التي يتسم بها الدبلوماسيون في العلن كما أشير في الإعلام.. هذه الوثائق المسربة تبقي السؤال مفتوحاً حول الدولة التي ينتمي لها الدبلوماسي أو المسؤول الضحية أو المراد فضيحته، وفي أي مستوى من الخصومة والعداء يقع هذا المسؤول وهذه الدولة بالنسبة للولايات المتحدة.

فالوثائق التي نشرت حول العراق توجه الفضائح والاتهامات بشكل رئيسي نحو الطرف الإيراني واليليشيات التابعة له بحسب توصيف الوثائق الأميركية، وهي تنشر وثائق أخرى في المقابل لتقول إن العرب -بدون استثناء- يقفون في معسكر معاد لإيران بتحريضهم الدائم لأميركا وإسرائيل على ضرب إيران. فالوثائق هنا واضحة الهدف وهو رسم خطوط صراع جديدة وتشكيل الأعداء الجدد، وتشكيل تحالفات وتعميق شروخات بحسب الحاجة الأميركية.

أميركا تعلن عن أداة جديدة للضغط، والعبث بالعقول، والرغبة في إعادة صياغة الرأي العام، والكل فيها مستهدف بحسب ابتعاده أو اقترابه من الموقف الأميركي، فبعدما تهافتت نتائج القدرة العسكرية ولم يعد ممكناً الاستمرار فيها إلى أبعد من ذلك، بل ربما لم تعد وحدها قادرة، كان لا بد من أداة إضافية تكتسب مستوى من التأثير يفوق التأثير الإعلامي التقليدي، ليصل إلى الضغط بالتشهير من خلال وثائق سرية تفصح عن فضائح من نوع الجرائم والإساءات والتحالفات السرية والتآمر، ربما لتضع زعماء الدول المستهدفة أمام حالة تشهير تفقدهم هيبتهم واحترامهم أو تصنع منهم أعداء جددا لآخرين تحددهم الوثائق/الفضائح. ومن ثم يمكن إعادة التلميع أو تصعيد الضغط بالتشهير تبعاً للأثر الذي تحدثه الوثيقة على الضحية المستهدفة.

فعواصف ويكيليكس التي تضرب بشكل أساسي صناع القرار في العديد من العواصم العالمية ولكن بشكل رئيسي من لا يقعون ضمن دائرة الاصطفاف الأميركية، سواء كدول أو كأفراد مشاغبين في منظومات حليفة، أو يمثلون توازنات دولية أخرى داخل تلك المنظومة. فالحكومات أو الدول الخصوم بدا واضحاً أنها تأخذ المساحة الأكثف في الكم أو الكيف، حيث طالت دولاً صديقة أو أصدقاء لأميركا تكون أقل تكثيفاً من حيث العدد والنوع.

"
أميركا وراء تهريب الوثائق, فهناك ضغوط على الحلفاء كما هناك ضغوط على الخصوم، والاختلاف هو في الشدة والنوع، وهو ما عكسته الوثائق المسربة، أي هناك وثائق رسائل وهناك وثائق فضائح (ضغوط)
"

ومن أجل لفت النظر أكثر إلى الوثائق وجر الرأي العام خلفها، وتعميم نظرية القطيع، تشتد عملية التمويه على وظيفة الوثائق بالإشارة إلى حجم الاضطراب الأميركي من نشر الوثائق، وتضخيم الخطورة على الأمن الإستراتيجي للولايات المتحدة التي تشكلها عملية النشر، والإشارة إلى مطاردة صاحب ويكيليكس واتهامه بالتحرش الجنسي لإثارة المزيد من الاهتمام وخلق التعاطف مع بطل ويكيليكس المفترى عليه من الولايات المتحدة من أجل إضفاء المزيد من الصدقية حول عشوائية السطو على الوثائق وإطلاق العنان لمخيلة الرأي العام على أطراف وحول كل وثيقة والمحتوى الذي لم يتم اصطياده أو سينشر لاحقاً. إنها أشبه ما تكون بالدراما الهوليودية التي يتقنها الأميركيون ويبرعون في صناعتها.

وهنا قد يطرح سؤال على هامش التساؤل الثالث وهو: هل يمكن أن تقوم دولة بفضح العديد من الدول التي تحالفت أو تعاونت أو تخابرت معها؟ وكيف يمكن بالتالي أن تكون أميركا ذاتها وراء تهريب هذه الوثائق؟ والجواب هنا: نعم حيث هناك ضغوط على الحلفاء كما هناك ضغوط على الخصوم، والاختلاف هو في الشدة والنوع، وهو ما عكسته الوثائق المسربة، فهناك وثائق رسائل وهناك وثائق فضائح (ضغوط).

يبقى آخر الأسئلة المفتوحة حول إمكانية أن تعبر عملية نشر الوثائق عن انقسام داخلي وتصفية حسابات داخل مؤسسة صناعة القرار الأميركي والكارتيلات الاقتصادية التي تقف خلفها، بعد تسريبات يقال إنها ستطال بنوكاً ومؤسسات اقتصادية أميركية كبرى، وبالتالي ما هي عناصر هذا النوع من الصراع وما هي طبيعته وحدوده؟ أسئلة وافتراضات تقود إلى الكثير ما عدا قدرات ويكيليكس الخارقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.