مؤتمر شرم الشيخ.. تسييس المساعدات تشجيع لحرب جديدة

مؤتمر شرم الشيخ.. تسييس المساعدات تشجيع لحرب إسرائيلية جديدة



مناشدات لفظية لـ"إسرائيل" وانحياز عملي إلى جانيها
سيناريو مكرر
عمى ألوان أميركي أوروبي
غياب الالتزامات السياسية غطاء لحرب إسرائيلية قادمة

رسمت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في إطلالتها الشرق أوسطية الأولى صورة دبلوماسية غير مشجعة لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، بالدور السلبي الذي لعبته كلينتون مع نظرائها الأوروبيين لجرِّ توجهات مؤتمر الدول المانحة الذي انعقد في شرم الشيخ نحو تسييس مساعدات إعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والحيلولة دون تحميل "إسرائيل" المسؤولية عن جرائم حربها، وبالتصريحات غير المتوازنة التي أطلقتها في القدس المحتلة واعتبرت فيها أن الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية هي أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، ما يشكل امتدادا لسياسات الإدارة الأميركية السابقة التي صاغت رؤيتها الشرق أوسطية من مدخل ما تدعيه "إسرائيل" من مخاوف واحتياجات أمنية.

مناشدات لفظية لـ"إسرائيل" وانحياز عملي إلى جانبها
تحت وقع الضغوط الأميركية والأوروبية، اكتفى البيان الختامي لمؤتمر شرم الشيخ بالإعراب عن قلق المانحين من عدم التوصل إلى اتفاق بشأن تثبيت التهدئة في غزة، وإطلاق دعوة غير ملزمة لـ"إسرائيل" لفتح كافة المعابر مع غزة بشكل فوري ودائم وغير مشروط، و"الاحترام الكامل للقانون الدولي والإنساني الدولي، ووقف استهداف أو تدمير البنية التحتية المدنية في غزة، أو اتخاذ أي إجراء يؤثر سلبا على حياة الفلسطينيين في غزة".

"
في ردها المباشر على مؤتمر شرم الشيخ رفضت إسرائيل دخول أموال المساعدات ومواد البناء إلى قطاع غزة، إذا لم تتوافق آليات إدخالها مع المعايير والشروط التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، كما لوحت إسرائيل بشن حرب جديدة على القطاع استكمالا لما فشلت فيه حروبها السابقة
"

وربط البيان بين إعادة الإعمار و"أهمية تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية"، وبالطبع حسب الرؤية الإسرائيلية المتواطأ معها أميركيا وأوروبيا، فليس المقصود هنا مصالحة يحدد أجندتها وأسسها الفلسطينيون بناء على مقتضيات مصلحتهم الوطنية، بل ترتيب الأوضاع الداخلية الفلسطينية (بنية مؤسسية وتوجهات وخيارات) انسجاما مع الشروط الإسرائيلية.

وقبل أن يجف حبر البيان عومت وزيرة الخارجية الأميركية دعوة إسرائيل لفتح المعابر واحترام القانون الدولي والإنساني بتبرير الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتبرير أي حرب إسرائيلية قادمة إذا استمرت أعمال المقاومة الفلسطينية، وبوضعِ المساعدات التي أقرت في شرم الشيخ في إطار ما أسمته "التخلي عن العنف والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود"، وتأكيدها الحازم أن الخلافات التي قد تظهر مع حكومة نتنياهو لن تؤثر على متانة التحالف الأميركي الإسرائيلي، وأن الإدارة الأميركية ستتعامل مع أي حكومة إسرائيلية بغض النظر عن توجهاتها وذلك احتراما لكونها "منتخبة ديمقراطيا".

وأتى الرد العملي الإسرائيلي سريعا على مؤتمر المانحين في شرم الشيخ بكشف النقاب عن خطط استيطان مكثفة، أعدتها حكومة أولمرت المنصرفة لزيادة عدد المستوطنين إلى الضعف تقريبا، ببناء 73 ألف وحدة سكنية في الضفة الفلسطينية والقدس الشرقية، وهدم 55 منزلا فلسطينيا في حي "شعفاط"، وشق نفقين جديدين تحت المسجد الأقصى لوصل ساحة "الشرف" في البلدة القديمة مع ساحة البراق، بالإضافة إلى قرار سبق مؤتمر شرم الشيخ بأيام يقضي بهدم أكثر من مائة منزل في حي "البستان" في القدس الشرقية، ضمن مخطط لتهويد البلدة القديمة فيها.

وفي ردها المباشر على مؤتمر شرم الشيخ، رفضت "إسرائيل" دخول أموال المساعدات ومواد البناء إلى قطاع غزة، إذا لم تتوافق آليات إدخالها مع المعايير والشروط التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، كما لوحت "إسرائيل" بشن حرب جديدة على القطاع استكمالا لما فشلت فيه حروبها السابقة، ومهدت لذلك باستئناف عمليات اغتيال المقاومين الفلسطينيين.

سيناريو مكرر
وفي نظرة فاحصة لمؤتمر شرم الشيخ، تَكرر السيناريو ذاته الذي سار عليه مؤتمر الدول المانحة للسلطة الفلسطينية في باريس في ديسمبر/كانون الأول 2007. ففي شرم الشيخ تعهدت الدول المشاركة فيه بتقديم 4.481 مليارات دولار، وهو رقم فاق بكثير ما حددته السلطة الفلسطينية في خطتها التي قدمتها للمؤتمر، وفي مؤتمر باريس طالبت السلطة الفلسطينية دعم ميزانيتها بـ5.6 مليارات دولار حتى العام 2010، فحصلت على وعود بتقديم 7.4 مليارات.

وقيد مؤتمر شرم الشيخ المساعدات بشروط سياسية على الفلسطينيين تستجيب للمطالب الإسرائيلية، وهو ما فعله المانحون في مؤتمر باريس بربط سلة المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية مع تطورات المسار السياسي، وتعليقها على شرط تقدم مفاوضات "قضايا الوضع النهائي"، التي أفشلتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بإصرارها على شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين وتهويد القدس وضم الكتل الاستيطانية الرئيسية في الضفة الفلسطينية ووضع اليد على مصادر المياه الفلسطينية وإبقاء الكيان الفلسطيني الموعود تحت السيطرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية برا وبحرا وجوا وتابع للاقتصاد الكولونيالي الإسرائيلي.

والحظر الذي وضعه المانحون في المؤتمرين لضمان عدم وصول الأموال ليد حكومة حركة حماس في غزة الهدف من ورائه إذكاء الخلافات الداخلية الفلسطينية، بدعم موقع رئاسة السلطة الفلسطينية وتوجهاتها السياسية، وليس "توجيه الأموال عن طريق آلية تحظى بثقة المانحين" كما يدعي الأميركيون والأوروبيون.

"
مثلما ضغطت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس على رئاسة السلطة الفلسطينية في مؤتمر باريس لمنعها من السير في مصالحة مع حركة حماس، تدخلت الوزيرة كلينتون في مؤتمر شرم الشيخ بفجاجة في الأوضاع الداخلية الفلسطينية
"

ومثلما ضغطت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس على رئاسة السلطة الفلسطينية في مؤتمر باريس لمنعها من السير في مصالحة مع حركة حماس تتعارض مع شروط اللجنة الرباعية الدولية، تدخلت الوزيرة كلينتون في مؤتمر شرم الشيخ بفجاجة في الأوضاع الداخلية الفلسطينية، واشترطت على رئاسة السلطة الفلسطينية عدم الدخول في حكومة وحدة وطنية مع حركة حماس، إلا إذا فهمت حماس ما وصفته كلينتون بـ"مبادئ الانخراط كما حددتها اللجنة الرباعية للشرق الأوسط.. وهذا يعني أنه يجب عليها أن تعترف بإسرائيل وتتخلى عن العنف".

وكما هو معروف، شروط الرباعية الدولية التي أشارت إليها كلينتون والمشمولة في "خطة خارطة الطريق الدولية" هي: الاعتراف بإسرائيل، والالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل، ووقف المقاومة وحل الأجنحة والأذرع العسكرية الفلسطينية.

عمى ألوان أميركي أوروبي
إن إظهار وجه الشبه بين مؤتمري شرم الشيخ وباريس للدول المانحة من حيث السيناريو المتبع والأهداف والشروط الأميركية والأوروبية، يقدم دليلا جديدا على أن عمى الألوان الذي يميز زاويتي النظر الأميركية والأوروبية للصراع في الشرق الأوسط منذ ستة عقود، ودعم السياسات الدموية والتوسعية الإسرائيلية، لا يزال العائق الرئيسي أمام الجهود الدولية لإيجاد تسوية سياسية شاملة ومتوازنة للصراع.

فالحلول والمقترحات الأميركية التي تسير في ركبها دول الاتحاد الأوروبي تتجاهل أن أساس الصراع هو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، وأن أي حل سياسي لن يكتب له النجاح ما لم يبنَ على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وتسليمها بالحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني، وأن المقاومة الفلسطينية والعربية هي رد فعل طبيعي على الاحتلال الإسرائيلي المتواصل.

ومنذ إطلاق خطة "خارطة الطريق الدولية" لم تتوان الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يرزح تحتها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومقايضتهم على لقمة خبزهم وحليب أطفالهم، لفرض وقائع سياسية مكملة للحروب الإسرائيلية عليهم، والتحايل على استعصاء العملية التفاوضية بمقترحات وحلول تعيد إنتاج المشاريع الإسرائيلية والأميركية، وتغفل الوقائع المترتبة على استمرار زخم مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، وفشل الحروب والسياسات القمعية الإسرائيلية في وقف مقاومة الفلسطينيين والنيل من صمودهم.

غياب الالتزامات السياسية غطاء لحرب إسرائيلية قادمة
ومما لا شك فيه، إن غياب الموقف العربي الموحد والحازم من الابتزاز السياسي الإسرائيلي والأميركي، سيمنع عمليا وصول المساعدات الموعودة إلى أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعدم وجود رؤية واضحة للدور السياسي الذي يجب أن تلعبه أطراف "الرباعية الدولية" والدول المانحة إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، سيشجع الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية القادمة برئاسة بنيامين نتنياهو على الاستمرار في استخدام سلة المساعدات المالية الدولية كأداة للضغط على الفلسطينيين.

"
يجب إسناد الالتزامات المالية بضمانات والتزامات سياسية دولية توضع لها آليات عملية لمنع تكرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإطلاق عملية تفاوضية جدية هدفها الواضح والمعلن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والفلسطينية
"

واكتفاء الدول المانحة بوعود سداد فاتورة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة دون تحميل إسرائيل المسؤولية السياسية عن ذلك ودون إخضاعها للمحاسبة الدولية، سيشجع إسرائيل على معاودة الحرب على قطاع غزة بغطاء أميركي.

ولذلك يجب إسناد الالتزامات المالية بضمانات والتزامات سياسية دولية توضع لها آليات عملية لمنع تكرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإطلاق عملية تفاوضية جدية هدفها الواضح والمعلن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والفلسطينية ووقف وإزالة الاستيطان، وتمكين الشعب الفلسطيني من تحصيل ممارسة حقوقه في أرضه والسيادة عليها وتقرير مصيره بحرية، وعودة اللاجئين من أبنائه إلى ديارهم التي شردوا منها في العام 1948.

وهذا هو الاختبار الحقيقي لما يؤمل من تغيرات في السياسات الأميركية الشرق أوسطية كان قد وعد بها الرئيس أوباما في حملته الانتخابية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.