أفغانستان مقبرة إستراتيجيات الهيمنة

أفغانستان مقبرة "إستراتيجيات" الهيمنة



مثال على التمويه
إستراتيجية التكهنات
أبعاد إستراتيجية بنكهة أفغانية

أشاد الوزراء الأطلسيون بأنفسهم وبما أنجزوه في مؤتمرهم يوم 4/12/2009م، ودار حول ما أعلنه أوباما تحت عنوان "إستراتيجية جديدة لأفغانستان" فاعتبر جميعهم المؤتمر ناجحا، ووصفه بعضهم بأنه مؤتمر التضامن والالتحام والعمل المشترك، وهذه تعابير مناسبة في الأصل لمواكبة إعلامية وحملة علاقات عامة.

أما قيمة المؤتمر سياسيا وعسكريا بالنسبة إلى الحلف الأكبر تسلحا وعددا في تاريخ البشرية، فجوهرها هو مضمون القرارات، ثم مفعولها -إذا وجدت طريقها إلى التنفيذ- وفق ميزان التأثير على مجرى الأحداث، والساحةُ المستهدفة هنا هي ساحة الحرب الأميركية الأطلسية في أفغانستان.

مثال على التمويه
التمويه والخداع السياسي كلمتان واسعتا الانتشار على مستوى الرأي العام الغربي في متابعة ما يصدر عن المسؤولين السياسيين، وهذا من أسباب انتشار مقولة "السياسة لا أخلاق لها" إنما لا يزال كثير مما يُكتب بالعربية يروج للقول إن ممارسة التمويه والخداع مقتصرة على مسؤولين في البلدان النامية والعربية والإسلامية، وهذا ما يتطلب بيانا يستدعيه تشبث كثيرين بنهج "التسليم" بصحة ما يقوله السياسي الغربي، بل وبحثهم عن "تعليلٍ" ما عند ظهور تناقض قوله مع ما يصنعه وما يحققه.

حصيلة مؤتمر وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي مثال نموذجي على ممارسة التمويه السياسي.. ومن جوانبه:

1- قبل انعقاد المؤتمر أعلن أمينه العام راسموسن عن توقعه أن يتقرر إرسال خمسة آلاف جندي إضافي من الدول الأطلسية غير الولايات المتحدة الأميركية إلى أفغانستان.

"
لا يزال كثير مما يُكتب بالعربية يروج للقول إن ممارسة التمويه والخداع مقتصر على مسؤولين في البلدان النامية والعربية والإسلامية، مع أنهما كلمتان أكثر انتشارا على مستوى الرأي العام الغربي
"

2- كان واضحا أن راسموسن تعلّم "الحذر" من تجارب سابقة لسلفه في أمانة حلف حافل بالخلافات، فلم يستبق نتائج المؤتمر برقم آخر، إن استحال الوصول إليه بدا الحلف في وضعٍ سلبي، لا يسمح بأن يوصف مؤتمره بالتضامن والتعاون والتلاحم، في الوقت الذي يحتاج الحلف فيه إلى شيوع هذه الصورة عنه مع بداية مرحلة جديدة في أفغانستان. تفتقت العبقرية العسكرية الأميركية عن تسمية أولى جولاتها بغضب الكوبرا.

3- أما عندما بدأ المؤتمر بالفعل فقد تبدل الرقم على لسان الأمين العام للحلف، وارتفع فجأة إلى طلب عشرة آلاف جندي إضافي كحد أدنى لدعم "إستراتيجية الحرب الأميركية" في أفغانستان.

4- وكانت النتيجة الفعلية من المؤتمر هي الحصول على وعود، مجملها في حدود سبعة آلاف جندي، مع إعلان فرنسا رسميا رفض إرسال المزيد، وإعلان ألمانيا تأجيل القرار بحجة ما يسمى مؤتمر أفغانستان الدولي في 28/1/2010م في لندن.

5- يمكن مقارنة النتيجة بما قيل قبل المؤتمر ليدور الحديث عن نجاح وتضامن.

6- ويمكن مقارنتها بما قيل أثناء المؤتمر ليدور الحديث -على الأقل- عن نجاح جزئي وتضامن ضعيف.

7- إنما لم يذكر أحد من المسؤولين شيئا عن الحصيلة الفعلية في لعبة الأرقام هذه، وهي:

– الفارق بين القوات الأطلسية المعلن عن احتمال إرسالها عام 2010م والقوات المعلن عن سحبها في العام نفسها، كالكندية والأسترالية.

إن حصيلة المؤتمر الاستعراضي لوزراء خارجية حلف شمال الأطلسي يوم 4/12/2009م تهبط بذلك إلى حصيلة ضحلة، تتأرجح -بلغة الأرقام هذه- بين ألفي جندي وثلاثة آلاف جندي إضافي فحسب، ومن العسير على ضوئها القول إنه كان مؤتمر التضامن والتلاحم والتصميم.

مجموع الزيادة إذن 33 ألفا أو أقل، وهذا دون "الحد الأدنى" الذي قرره كبار القادة العسكريين الأميركيين والأطلسيين، بأربعين ألفا، ليس لتحقيق نصر عسكري حاسم، بل لمجرد الحيلولة دون وقوع هزيمة أميركية وأطلسية صارخة، وفق تعبير قائد تلك القوات العام ماكريستال، لا سيما وأن تصريحات القادة الميدانيين التي واكبت انعقاد المؤتمر الوزاري الأطلسي تقول إن طالبان أصبحت تسيطر -بعد بدء تنفيذ "إستراتيجية أوباما" الحربية السابقة من مارس/آذار 2009م- على 11 من أصل 34 ولاية أفغانية.

والجدير بالذكر أن بداية التنفيذ آنذاك اقترنت أيضا بإرسال أربعين ألف جندي أميركي إضافي، وبضعة ألوف من دول أطلسية أخرى، وبالشروع في عملية عسكرية أوسع نطاقا من عملية "غضب الكوبرا" وكان أوباما في تلك الفترة يعبر عن أقصى درجات ما استبقاه من الغضب والعنجهية وراثة عن سلفه، مع تركيز ذلك على أفغانستان تخصيصا.

إستراتيجية التكهنات
لم تعد مؤتمرات الحلف تسلك سبيل التبجح وتثبيت "أهداف قاطعة" كما كانت تصنع من قبل (على وجه التحديد بين قمة 1991 التي واكبت الإعلان عن شعار الإسلام عدو بديل، وقمة 2006م التي شهدت أولى صيغ الإقرار العلني بالعجز عن الحسم العسكري في مسلسل الحروب الأخيرة) بل أصبح ما يميز مؤتمرات الحلف أنها تحاط بحملات إعلامية وسياسية كبيرة للتخفيف مسبقا من وطأة انسحاب اضطراري يكشف عن حجم الهزيمة بمنظور تاريخي.

وكلمة "تاريخي" هنا في مكانها تماما، فالهزيمة هي: عجز أكبر القوى العسكرية في الأرض، عن تنفيذ إرادتها السياسية (وهو الهدف في كل حرب) كنتيجة لاستخدام طاقة عسكرية تدميرية هائلة، ضد بلد لا يملك أهله الطعام واللباس والمسكن والدواء، ناهيك عن قوة عسكرية رادعة، وذلك على امتداد ما لا يقل عن ستين عاما مضت، هي أيضا عمر أعتى الأحلاف العسكرية في تاريخ البشرية حجما وتسلحا وعدوانا.

إن مؤتمر بروكسل الوزاري لحلف شمال الأطلسي سيدخل التاريخ -إن وجد له مكانا ما- كمؤتمر يمهّد للانسحاب وليس لجولة عسكرية حاسمة جديدة.

كلمات التفاؤل، وحديث التضامن والتلاحم، لم تعد منذ زمن بعيد مجرد كلمات مألوفة في عملية إخراج سياسي مدروس لنتيجة مضمونة أو مسيرة مقررة، إنما أصبحت تعبيرا مباشرا عن "التكهنات" والتكهنات المعتادة في الإعلام عند غياب المعلومات، تكشف عن هذا الغياب لدى صانعي القرار أيضا، وتمثل منزلقا خطيرا عندما تتحول إلى أرضية لصناعة قراراتهم السياسية والعسكرية، وتعبر عن درجة لا يستهان بها من الحيرة والتخوف.

إن المسؤول السياسي والعسكري الذي لا يستطيع "ترجيح" ما سيقع من الأحداث مسبقا، لا يستطيع أن يقدّر نوعية العواقب التي يمكن أن يسفر قراره عنها وما حجمها، وليس الحديث هنا عن "احتمالات" فالفارق كبير بين تكهنات وبين احتمالات توضع عادة في الخطط القويمة عندما تتوافر القدرة للرد على أي منها بإجراء مناسب.

"
القادة الغربيون يفكرون بأسلوب التكهنات بدلا من المخططات الثابتة، وقد صنعوا من قبل الكثير للسيطرة على أفغانستان، ولم يدخروا فيما صنعوه وسعا بالمفهوم العسكري، ولم يتورعوا عن أي جريمة بالمنظور الإنساني
"

لقد غرق مؤتمر وزراء الأطلسي في بروكسل في مسلسل التكهنات:

1- قد تتمكن القوات الأميركية بعد زيادتها بنسبة 50% من عددها الحالي، من تحقيق تغيير ما على أرض المعركة. وهذا تكهن يتناقض مع مجرى الحرب طوال سنواتٍ سابقة شهدت مضاعفة الطاقات العسكرية العدوانية باطراد، أي مع رفع عدد القوات الأميركية من عشرة آلاف إلى 67 ألفا والأطلسية من عشرة آلاف إلى ثلاثين ألفا.

2- ويتصل بذلك: قد يكون الرئيس الأميركي مخطئا في مخاوفه من استحالة تحقيق هذا الهدف، وليست مخاوفه أمرا بسيطا، فهو المطّلع على الخطط العسكرية التي يطرحها قادته العسكريون عليه، والتي أرادوا وأراد أن تكون أرضية لإعلان "إستراتيجية" جديدة، قوامها زيادة القوة الضاربة عددا وعتادا، ولكن تأثير المخاوف جعل أوباما يعلن عن موعد لبدء الانسحاب، أي أعلن عن "فترة زمنية محددة" لتنفيذ ما يزعم قادته أنهم سينفذونه إذا ارتفع عدد القوات، فهو يهدد بذلك "قادته العسكريين" بالانسحاب، إذا عجزوا عن تحقيق "نصر عسكري ما" بعد تلبية مطلبهم وزيادة عدد القوات.

3- ويتصل بهذا وذاك: قد تسارع دول أطلسية أخرى إذا حققت القوات الأميركية نجاحا عسكريا ما، إلى تأجيل سحب قواتها، وتسارع أخرى إلى إضافة مزيد من القوات.

4- وقد يخرج حلف شمال الأطلسي آنذاك فقط من مأزق الهزيمة العسكرية المحيطة به الآن.

أما "التكهن" الأرجح من سواه بمنظور إعلامي، فيأتي عبر السؤال عما يجعل القادة الغربيين يفكرون بأسلوب التكهنات بدلا من المخططات الثابتة، وقد صنعوا من قبل الكثير للسيطرة على أفغانستان، ولم يدخروا فيما صنعوه وسعا بالمفهوم العسكري، ولم يتورعوا عن جريمة بالمنظور الإنساني، وكان جميع ذلك ينتهي إلى تحوّل "فلول" طالبان إلى قوة مسيطرة على الأرض، ومسيطرة على زمام المبادرة، وتحوّل "جحافل" الأطلسي إلى مصدر لسيطرة "هواجس الهزيمة" في العواصم الأطلسية.

أبعاد إستراتيجية بنكهة أفغانية
في مسلسل صعود نجم "الهيمنة الأميركية" منذ بدايات القرن الميلادي العشرين كان كل رئيس أميركي جديد يطرح ما يسمى "العقيدة الإستراتيجية" الجديدة لبلاده، وكانت تمثل تصعيدا جديدا رئيسا بعد رئيس، بدءا بتبني مبدأ الدفاع عن حقوق المصير للشعوب، الذي وُظف على أرض الواقع لوراثة "الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية" عالميا، مرورا بتبني مبدأ "الضربة النووية الأولى" في ذروة الحرب الباردة، انتهاء بتبني أكثر من عقيدة عسكرية في عهد بوش الابن، وهي الحرب المفتوحة، والحرب الوقائية، وما سمّي بـ"الحرب المزدوجة" بمعنى تمكين القوات الأميركية عددا وعتادا وقيادة من خوض حربين كبيرتين في منطقتين متباعدتين جغرافيا في وقت واحد.

ما الذي تبناه الرئيس الأميركي أوباما في عام رئاسته الأول؟. الجواب مطروح في "إستراتيجيتين" تجاه أفغانستان تحديدا، الأولى في مارس/آذار والثانية في آخر نوفمبر/تشرين الثاني 2009م.

لأول مرة في التاريخ "الإمبراطوري" الأميركي يظهر التراجع واضحا مع رئيس جديد عما صنع أسلافه، فإلى جانب الإعلان عن الانسحاب من العراق وممارسة علاقات الود مجددا مع الحلفاء، بدأ ينسحب من تبعات الحروب، وهو انسحاب قد يستغرق فترة رئاسته بكاملها، ولكنه لا يملك سواه.

ركّز أوباما على أفغانستان وأرغمته أفغانستان خلال ستة شهور مضت على تراجع جديد، لا يواريه إرسال مزيد من القوات، بل يتحول إرسالها إلى التصميم على ممارسة قتال شرس أكثر مما مضى تقتيلا وتدميرا، لعل نتائجه تواري ظهور الهزيمة العسكرية سببا في الانسحاب (كالنموذج الإسرائيلي في لبنان وغزة).

"
لأول مرة في التاريخ "الإمبراطوري" الأميركي يظهر التراجع واضحا مع رئيس جديد عما صنع أسلافه، فإلى جانب الإعلان عن الانسحاب من العراق, بدأ ينسحب من تبعات الحروب، وهو انسحاب قد يستغرق فترة رئاسته بكاملها
"

المطلوب الآن الترويج لتعليل الانسحاب بعجز الأفغان أنفسهم عن "الارتقاء" إلى المستوى الذي يريده لهم الغزاة العسكريون، الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والرفاهية المعيشية فهذا ما يجري ترويجه لدى الرأي العام الغربي عبر التركيز المكثف على فساد حكومة كرزاي.

أي أن المقصود في نهاية المطاف تعليل الانسحاب القادم حتما بالقول، إن الفئة التي استلمت السلطة عن طريق القوات الأميركية، وبقيت فيها بدعمها هي مع دعم القوات الأطلسية، ليست جديرة بمزيد من العون العسكري والسياسي والاقتصادي لأنها فئة فاسدة.

إن ما صنعته أفغانستان أعمق بكثير من هذه الصورة الصادرة عن أسلوب التمويه والخداع السياسي، وهو ما يتمثل في التأثير المباشر على "صانعي الإستراتيجيات" الأميركية والأطلسية، فما طرحه أوباما في مارس/آذار 2009م هو في حصيلته الإعلان:

– عن تأبين "الحرب المزدوجة".
– وعن تأبين "الحرب المفتوحة".
– ومحاولة التشبث بما يسمى "الحرب الوقائية" بدعوى مكافحة "الإرهاب" العالمي.

وما أعلنه أوباما وتابعه الأطلسي الآن، هو بداية النهاية لجدوى "إستراتيجية الحرب الوقائية" أيضا.

ليست أفغانستان بذلك مجرد "مقبرة عسكرية" لإمبراطوريات العصر الحديث، بل هي أيضا مقبرة "إستراتيجيات الهيمنة" التي حملت البصمات الأميركية والأطلسية في العصر الحديث.

الجدير بالانتباه، أن ما بعد أفغانستان سيشهد تركيزا شرسا وخطيرا على ما يسمّى "الشرق الأوسط" أي على قضية فلسطين، وهذا ما يحتاج إلى استيعاب الدرس الأفغاني، لتصبح فلسطين آخر محطات الهيمنة العدوانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.