تقسيم العراق.. نهاية التمهيد وبداية التنفيذ

تقسيم العراق.. نهاية التمهيد وبداية التنفيذ



– ثلاث مراحل تمهيدية للتقسيم
– اكتمال التمهيد للتقسيم
– تقسيم العراق كارثة إقليمية

معذرة إلى كلّ من فاجأه قرار مجلس الشيوخ الأميركي الداعي إلى تقسيم العراق، أن نقول إنّ من السذاجة السياسية انتظار موقف آخر، وكذلك انتظار جواب آخر غير الجواب الرسمي من جانب بوش الابن بالقول إنّ هذا القرار غير ملزم، بمعنى أنّه لن يتحرّك لتنفيذه من خلال الحكومة الأميركية والجيش الأميركي.


"
قرار تقسيم العراق قائم منذ البداية، ليس من جانب بوش الابن ولا مجلس الشيوخ، وليس من جانب غالبية المحافظين ولا غالبية الديمقراطيين، بل هو قرار آليات صناعة القرار الأميركي عبر مراكز القوى الثابتة نسبيا، بغض النظر عن تقلّب البنية الهيكلية لأجهزة الحكم
"

ثلاث مراحل تمهيدية للتقسيم
قرار تقسيم العراق قائم منذ البداية، ليس من جانب بوش الابن ولا مجلس الشيوخ، وليس من جانب غالبية المحافظين ولا غالبية الديمقراطيين، بل هو قرار آليات صناعة القرار الأميركي عبر مراكز القوى الثابتة نسبيا، بغض النظر عن تقلّب البنية الهيكلية لأجهزة الحكم التشريعية والتنفيذية، وجلّ ما يصنعه تبدّل التشكيلة الحاكمة عبر الانتخابات الرئاسية والنيابية، هو أساليب التنفيذ ووسائله.

لا مبالغة في القول إنّ قرار التقسيم قائم من عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب على الأقل، وربّما أخّره قليلا عهد كلينتون على مدى ثماني سنوات، ولكنه لم يصنع شيئا مضادّا لما صنعته المرحلة التمهيدية الأولى في عهد سلفه.

بل على النقيض من ذلك رسّخ ما تحقق قبله من خلال المرحلة التمهيدية الثانية، أي من خلال الحصار الإجرامي وما كان يسمّى تقسيم "المجال الجوي" للعراق، ليمكن إيجاد معطيات أخرى على أرض العراق نفسه، كما رسّخ مسيرة التمهيد للتقسيم من خلال ما كان يمارس من سياسات إقليمية في المنطقة، تثبيتا لبذور المحاور التي ظهرت للعيان بشكل أوضح وأشدّ مفعولا مع نهاية عهد بوش الابن.

لقد بدأت معطيات القرار الأوّل للتقسيم مع نهاية الحرب الإيرانية العراقية، أو بتعبير أوضح فور نهاية المهمّة التي كانت مطلوبة من العراق القويّ عسكريا، المتقدّم على أكثر من صعيد علمي وتقني وصناعي وزراعي، بغض النظر عن اتجاه نظام الحكم فيه.

فليس السؤال المهمّ هو هل يوجد حكم استبدادي أم حكم عادل، وهل تُنتهك حقوق الإنسان والأقليات أم تُصان، ولا حتى مدى الارتباط التبعي أو غيابه تجاه الغرب وزعاماته، بل السؤال الأهمّ من وراء اتخاذ القرار هو هل ينسجم وضع العراق القوي المتقدّم الموحّد مع المشروع الصهيوأميركي أم لا ينسجم؟

في المرحلة التمهيدية الأولى توقفت الحرب الأميركية (الدولية) الأولى، أو ما سمّي حرب الخليج الثانية على العراق بمشاركة إقليمية، قبل إسقاط نظام الحكم القائم فيه، رغم أنّ المعطيات العسكرية لذلك كانت متوفرة، ومعها معطيات سياسية دولية وإقليمية، ولكن لم يكن ممكنا أن يؤدي إسقاط الحكم آنذاك إلى تقسيم العراق، ولا حتى القضاء على أسباب قوّته على الأصعدة العلمية والتقنية والصناعية والزراعية.

بل كان لا بدّ من الفترة التمهيدية الثانية عبر بضعة عشر عاما حصارا وحظرا جويا، وهنا أيضا بمشاركة دولية وإقليمية، إلى أن أصبح العراق داخليا في وضع يسمح بالانتقال إلى الخطوة التمهيدية الثالثة في اتجاه تنفيذ قرار التقسيم في عهد بوش الابن، بمشاركة محلية من خلال من تمّ تجنيدهم للدخول إلى العاصمة العراقية على ظهر دبابات الاحتلال، وبمشاركة إقليمية من خلال تحويل المنطقة من محور القضية المصيرية حول فلسطين، إلى محور اصطُنع في عهد بوش الابن.

والهدف من ذلك أن يصبح الاقتتال الطائفي بين السنة والشيعة أو بين إيران والمنطقة العربية والاقتتال القومي بين الأكراد والعرب، بديلا عن التطلّع إلى تحقيق هدف كريم على جبهة القضية المصيرية، وليس إلى تحقيق هدف التصفية بما يتفق مع المشروع الصهيوأميركي.


"
أي إعلان رسمي من جانب بوش وحكومته لتأييد عملية التقسيم يمكن أن يعرقل تنفيذها بدلا من أن يعجّل به، وهذا ما يكمن وراء المعارضة اللفظية الرسمية لقرار مجلس الشيوخ الأميركي
"

اكتمال التمهيد للتقسيم
إنّ أي إعلان رسمي من جانب بوش الابن وحكومته لتأييد عملية التقسيم يمكن أن يعرقل تنفيذه بدلا من أن يعجّل به، وهذا ما يكمن وراء المعارضة اللفظية الرسمية لقرار مجلس الشيوخ الأميركي.

ولكن سياسة الاحتلال في عهد بوش الابن كانت من اللحظة الأولى، وبتنفيذ مباشر من جانب الحاكم العسكري الأول بريمر سياسة ترسيخ معطيات التقسيم، لتصبح واقعا قائما على الأرض وإن لم ترتفع ثلاثة أعلام جديدة، ولم تُرَسّم حدود انفصالية رسميا.

وهي كذلك لتأخذ عملية التمهيد الثالثة للتقسيم صيغة ممارسات محلية من جانب الفرقاء العراقيين، كما لو كان الاحتلال بريئا ممّا يجري، مع أنّهم كانوا من اللحظة الأولى ولا يزالون ساسة تابعين للاحتلال الأميركي لا ساسة وطنيين عراقيين، ناهيك عن أن يكونوا ساسة وطنيين عربا ومسلمين، بل لا يمكن القول بانتماء "تشرذمي" قويم لهم على مستوى التقسيم المراد تنفيذه، بين شيعة وسنة وأكراد، فما يصنعون لا يخرج عن توجيه الضربات القاصمة للفئات الثلاث معا.

إنّ كل مشروع استعماري من حجم تقسيم دولة قائمة إلى دويلات ضعيفة، لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، إذا اتبع الطريقة المباشرة التي حاولتها على سبيل المثال دولة فرنسا الاستعمارية من قبل في سوريا عندما كان يراد لها أن تتحول إلى دويلات.

فالإقدام المباشر على التقسيم يوجد قوّة مضادة للتقسيم، وهذا بالذات ما تجنّبته الولايات المتحدة الأميركية شكليا، ومارسته واقعيا، سواء تحت عنوان الديمقراطية أو الفيدرالية أو إعلان أهداف مزيفة للحرب العدوانية، بل يكاد الانسحاب العسكري المنتظر يتحوّل إلى وسيلة من وسائل التمويه.

وأغلب الظن أن يجري تنفيذه بحيث يعطي أنصار التقسيم في الشمال والجنوب القدرة الأكبر على التحرّك في اتجاه تنفيذه، جنبا إلى جنب مع الاحتفاظ بقواعد عسكرية كبرى، لضمان استمرار التقسيم إن وقع.

إنّ الانسحاب العسكري جزئيا أو كليا قبل انتهاء وجود بوش الابن في السلطة، أو فور تبديله، يمكن أن يوجد لدى الساسة المحليين الذين صنعتهم الفترة التمهيدية الثالثة للتقسيم ذريعة للادعاء أنّه أمكن إنهاء الاحتلال، وأن قراراتهم آنذاك تقوم على أساس "السيادة" و"حق تقرير المصير" وما إلى ذلك من شعارات يدّعونها لأنفسهم، بل ولا يُستبعد أن تتبدّل الوجوه السياسية دون أن يتبدّل نهج التقسيم الذي يستحيل تنفيذه إلا بالقوّة، ولكن آنذاك بقوة السيطرة الاستبدادية المدعومة أميركيا وغربيا، المسكوت عنها أو المدعومة إقليميا أيضا، على حساب إرادة الشعب بمختلف فئاته وتوجّهاته.


تقسيم العراق كارثة إقليمية
إنّ أخبار العراق في اتجاه التقسيم تتوالى دون انقطاع ودون أن يظهر من خلالها بصيص ضوء لتبدّل مجرى الأحداث في الاتجاه الصحيح.

فمن الداخل العراقي تزداد سخونة المواجهات، وآخرها المواجهات المسلّحة والكلامية بين "القاعدة" التي فتح الاحتلال الأميركي أبواب العراق أمام مسلّحيها، وبين قطاعات من المقاومة العراقية المسلّحة ومن الأحزاب السياسية بما فيها الإسلامية، ومن خارج الحدود يعلن الرئيس الأميركي بوش الابن عن انسحاب جزئي قادم لا قيمة له من الناحية العددية أو المفعول ويليه تصريح وزير دفاعه غيتس بالإعلان عن انسحاب جزئي أكبر عددا ولكن دون أن يرتبط بجدول زمني لإنهاء الاحتلال بل على النقيض من ذلك يراد تثبيت الوجود الأميركي من خلال قواعد عسكرية، قد تخفّف من عدد القتلى الأميركيين ولكن لا توجد أسباب التحرّر ليمكن إيجاد حل سياسي مستقرّ عراقيا وإقليميا.

"
الأعمق مغزى فيما يكشف عنه قرار الكونغرس هو أن أي تبدل في السياسة العسكرية الأميركية بعد الانتخابات القادمة أيا كان الفائز لن يؤدي إلى تغيير الباقي من الهدف الإستراتيجي الصهيوأميركي لتقسيم العراق
"

بل الأعمق مغزى فيما يكشف عنه قرار الكونغرس الأميركي هو القول إن أي تبدل في السياسة العسكرية الأميركية بعد انتخابات أميركية قادمة، يرجح أن يفوز بها الديمقراطيون، لن ينطوي على تغيير الخطّ الأهم الباقي من الهدف الإستراتيجي الصهيوأميركي لتقسيم العراق على وجه الخصوص.

فالديمقراطيون هم الغالبية في مجلسي الكونغرس الأميركي حاليا، ولن يأتي منهم رئيس آخر يعترض كلاميا على قرار التقسيم، كما صنع بوش الابن في إطار لعبة صناعة القرار الجارية.

ولقد بدا في الآونة الأخيرة أنّ القوى الإقليمية الفاعلة، بدءا بإيران وسوريا وانتهاء بتركيا والسعودية، أصبحت وكأنّها تنتظر حدوث تبدّل في سياسة الاحتلال الأميركي بعد إخفاق آخر محاولات السيطرة العسكرية وازدياد الحملات السياسية داخل واشنطن لتعديل تلك السياسة.

وتأتي مواقف بوش وغيتس ومجلس الشيوخ بعد تقرير رجالاتهم من القادة السياسيين والمسؤولين الدبلوماسيين عن الوضع، لتؤكّد أنّ الاحتلال الأميركي لن يغيّر سياسته تغييرا يستحق الذكر، على الأقل إلى ما بعد انتهاء فترة ولاية بوش الابن.

فهل يمكن أن ينتظر العراق وتنتظر دول المنطقة عاما آخر، مع كل ما يحمله كأعوام الاحتلال السابقة، من نزيف على مختلف المستويات بشريا وماديا وأمنيا واقتصاديا؟

أما إن كانت المنطقة تنتظر تحوّلا حقيقيا بعد بوش الابن، في جوهر السياسة الأميركية تجاه العراق، فقد جاء قرار الكونغرس الآن ليؤكّد علنا استحالة ذلك.

وهنا يُلفت النظر إلى أنّ جميع التحركات والمواقف السياسية بشأن العراق وبشأن تقسيمه لا تواكبها أي مبادرة عربية أو إسلامية إقليمية أو جماعية، تضع القوى الدولية أمام مطالب محدّدة، وتعطي أطراف النزاع العراقي التشرذمي الناشئ بفعل الاحتلال أرضيةً أخرى خارج دائرة إملاءات الاحتلال، للخروج من نفق الاقتتال العسكري والسياسي.

ورغم انعقاد مؤتمر آخر لدول الجوار في العاصمة العراقية نفسها هذه المرّة، فإنّ ما يُطرح على بساط البحث لا يعدو معالجة بعض الظواهر الجانبية لقضية العراق، وهي -على أهميتها الكبيرة كقضية اللاجئين- لا يؤدّي التعامل معها إلى معالجة القضية نفسها من الجذور.

إن تقسيم العراق إن وقع كارثة إقليمية كبرى لا عراقية فقط، وليس من طبيعة الأحداث أن ينتهي أمر التقسيم إلى استقرار، بل ستشتعل أرض العراق أكثر ممّا هي مشتعلة في فترة الاحتلال، وستشتعل معها المنطقة بأسرها.

وليس مجهولا أنّ ما هو أقلّ من ذلك ممّا يجري في الأرض اللبنانية، يصنع على المستوى العربي من ألوان النزاع والمواجهات، ما قد يكون "لاشيء يذكر" بالمقارنة مع ما يمكن أن يصنعه تقسيم العراق.

إنّ ما شهدته أرض فلسطين ويراد ترسيخ مزيد من التقسيم فيها انطلاقا منه، وما شهدته أرض لبنان ويراد تنفيذ المزيد من التقسيم من خلاله، وما شهدته وتشهده أرض السودان.. والصومال.. وحتى باكستان في أقصى المشرق الإسلامي، جميع ذلك يؤكّد أنّ المنطقة بمجموعها مقبلة على أخطر مراحل تاريخها الحديث.

ولن يقف شيء من هذه التطوّرات عند أبواب هذه الدولة أو تلك، كمصر أو السعودية أو الأردن أو سوريا ما لم ترتفع الحكومات القائمة في هذه البلدان وسواها إلى مستوى المسؤولية الثقيلة الواقعة على عاتقها جميعا، وتنتزع نفسها من مختلف أشكال ارتباطات التبعية السياسية والأمنية والاقتصادية بالولايات المتحدة الأميركية خصوصا والغرب عموما.

وليس العجز عذرا، فهو عجز مصنوع من خلال اتباع سياسات متفرقة، وسياسات مرتبطة بالولاء الخارجي، وهو عجز يذوب ويضمحلّ فور العودة إلى الشعوب واستعادة ثقتها ودعمها وتعبئة طاقاتها، للخروج من نفق تلك السياسات التي لم تؤدّ في الماضي، ولن تؤدّي في الحاضر أو المستقبل، إلى أي شكل من أشكال الاستقرار، إقليميا شاملا أو قطريا ضيقا، ولا إلى أي شكل من أشكال التحرر والبناء والتقدّم، إقليميا أو قطريا.

وإن أي التقاء سياسي حقيقي، وأي خطوة عملية في الاتجاه الصحيح لتخفيف ما تصنعه الحدود المفرّقة والسياسات الأنانية القطرية الضيقة، علاوة على إنهاء الاستبداد وما يفرزه من معارك داخلية، من شأنه أن يفرض واقعا جديدا يضطر القوى الدولية رغما عنها إلى التعامل معه، ويسحب من بين أيديها القوة الحقيقية التي تعتمد عليها في تنفيذ مخططات الهيمنة على المنطقة، فقد كانت ولا تزال تعتمد على تشرذمنا ونزاعاتنا التافهة، وما كان يسري في الماضي يسري إلى اليوم: فرّق تسد.

والحري بالحكومات أن تُسقط بنفسها مفعول هذه القاعدة، قبل أن تُسقطها الشعوب بانفجار غاضب لا يبقي ولا يذر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.