مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية

عرض: إبراهيم غرايبة
يحاول الكاتب البحريني محمد جابر الأنصاري في كتابه هذا أن يقف على آثار هزيمة عام 1967 على الوجدان والكيان العربي، ويناقش تداعيات حرب الخليج الثانية والغزو العراقي للكويت عام 1990، وفي مراجعته التي يجريها للأحداث وتفسيرها يجد الأزمة العربية في التخلف، ويعرض لثقافة المراجعة وتشخيص بنية التخلف العربي وشيوع نقد العقل العربي الذي استحوذ عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري ليعيد الاعتبار لرواده الأوائل وصولا إلى أحمد أمين في "فجر الإسلام"، ويشخص الواقع العربي في مجموعة حالات وظواهر مثل الانفجار السكاني أو الظاهرة الإسلامية، والتخلف المسكوت عنه في قضية العرب الأولى وأساس نكبة فلسطين عام 1948 ثم هزيمة عام 1967.

undefined-اسم الكتاب: مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية
-المؤلف: محمد جابر الأنصاري
-عدد الصفحات: 158 صفحة
-الطبعة:الأولى 2001
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت

يعمل الأنصاري أستاذا لدراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر في جامعة الخليج العربي في البحرين، ومستشارا ثقافيا لأمير دولة البحرين، وقد حصل على الدكتوراه في الفكر العربي الإسلامي الحديث من الجامعة الأميركية ببيروت عام 1979 مع دراسات مكملة في كمبرج والسوربون. وهو من قيادات التيار القومي الناصري في البحرين والوطن العربي، وقد صدرت له عدة مؤلفات من قبل مثل "العالم والعرب سنة 2000 " و"تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي" و"التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام" و"الفكر العربي وصراع الأضداد: تشخيص اللاحسم في الحياة العربية" و"رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية" و"شواغل الفكر بين الإسلام والعصر".

رصد سيرة العقل العربي
ويقول الأنصاري عن كتابه هذا إنه يرصد سيرة العقل العربي في ثلث القرن الأخير لتكتمل صورة القرن العشرين وتصبح الرؤية أكثر اعتدادا وشمولا وملاحظة تحولات العقود الأخيرة. وربما كان القرن الماضي في التحليل النهائي هو قرن الارتطام الحقيقي للأمة بحقائق ووقائع العصر الحديث في أبعاده المختلفة. وأيا كان الأمر فإنا نجد أن أصدق ما ينطبق على الفكر العربي خلال الثلث الأخير من القرن العشرين ومنذ هزيمة 1967 بصفة خاصة أنه "فكر تحت الحصار" بأوسع معاني الكلمة.


كانت الأيدلوجيات الثورية قبل هزيمة حزيران قد حاصرت دول النفط العربي واخترقت بعضها وغيرت الأنظمة السياسية في بعضها الآخر وقسمت العرب إلى قسمين. ثم قسمتهم الثروة (النفط) أشد من قسمة "الثورة".. ثم شطرتهم حرب الخليج بين القوة النفطية العراقية ومن يقف معها والقوة النفطية الخليجية ومن يقف معها

وهذا لا يعني أن هذا الفكر تحرر تماما في الفترات السابقة من العهود الثورية والرجعية والاستعمارية ولكنه حقق انطلاقة نحو أهداف وطنية تاريخية منذ منتصف القرن بعد أن اكتسب قبسا من التنوير النهضوي والمعرفي في عهود سابقة، وأما بعد هزيمة حزيران 1967 فقد أصبح بامتياز فكرا تحت الحصار، فقد كانت هذه الهزيمة أقسى هزائم العرب، وتجاوزت البعد العسكري إلى مختلف الأبعاد الكيانية الأخرى.

كانت الأيدلوجيات الثورية قبل هزيمة حزيران قد حاصرت دول النفط العربي واخترقت بعضها وغيرت الأنظمة السياسية في بعضها الآخر وقسمت العرب إلى قسمين. ثم قسمتهم الثروة (النفط) أشد من قسمة "الثورة" – شطرتهم الثروة أولا بين من يملكون ومن لا يملكون، ثم شطرتهم حرب الخليج عام 1990 بين القوة النفطية العراقية ومن يقف معها والقوة النفطية الخليجية ومن يقف معها وبذلك يصفي النفط العربي نفسه بنفسه، وكفى الله "الآخرين" شر القتال، ولا يفل النفط إلا النفط. إنه زمن الحرب الأهلية داخل معسكر النفط العربي، هذا ما سيسجله التاريخ.

حصار إسرائيلي وإيراني وتركي
والواقع العربي يتعرض لحصار إسرائيلي، وإيراني وتركي. ونزاع داخلي يشكل حصارا إضافيا. والعقل العربي يتعرض لحصار الوعي الذاتي الملتبس برغم المعلوماتية الهائلة المتدفقة وإلى حصار أصولي هو أقسى أنواع الحصار لأنه إرهاب ذاتي داخلي، فالصحوة الإسلامية أو المرجو أن تكون صحوة جعلت العقل الإسلامي ماضويا معاديا للعقل منشغلا بمذهبيات وفتن تاريخية وكأنه لم يعد العقل الذي قدم عبقرية عمر السياسية وعبقرية جعفر الصادق الفقهية والفلاسفة العظام مثل الكندي وابن سينا وابن رشد، وأصبح الفلاسفة هؤلاء موضع اتهام وتهجم وامتد التجريم إلى المعتزلة والمصلحين والمفكرين مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد.

ويربط المؤلف بين عداوة العقل ومرحلة الصلح مع إسرائيل "ويبدو أنها ليست صدفة أن يتولى مشيخة الأزهر في ذلك الحين رجل كالشيخ عبد الحليم محمود، ولعله من مقتضيات عقد الصلح مع إسرائيل إعلان الحرب ضد العقل في الإسلام وتكريس القطيعة مع العقل الإسلامي ذاته وليس مع العقل المدني أو العلماني الذي يمكن سحب جواز مروره من الضمير الإسلامي بسهولة, ولكن المطلوب تحطيم العقل الإسلامي ذاته كرافعة للتقدم الحقيقي وبلوغ القوة الحضارية في العالم الإسلامي.. تلك هي المسألة".

ويرى أيضا رابطا بين الهيمنة الإسرائيلية والاستشراء الأصولي مع الإقرار بمقاومة بعض الفصائل الإسلامية للهيمنة الإسرائيلية (حماس في فلسطين والمقاومة الوطنية في جنوب لبنان) فأبشع المذابح التي تعرض لها العرب والمسلمون في السنوات الأخيرة جاءت من طرفين ليس من المألوف الربط بينهما، وهما الإرهاب الإسرائيلي، والإرهاب الأصولي (كما في الجزائر وأفغانستان) وهذه المذابح ليست سوى عنوان صارخ لهيمنة متزامنة من القوتين النقيضتين على مصائر العرب والمسلمين في هذه الحقبة. وهو ارتباط ليس تآمريا ولكنه من نوع أخطر، إنه ارتباط موضوعي وديالكتيكي تكاملي بينهما، فالضد يظهر كنهه بالضد. فلا يمكن لإسرائيل أن تسود وتهيمن إلا مع سيادة فكر ينفي العقل والتقدم في عالم العرب والإسلام من حيث المبدأ. والمشهد ليس جديدا في ذاكرة الأمة فقد حدث مثل هذا في أثناء الغزو الصليبي والمغولي.

أم الهزائم
تعد هزيمة 1967 أم الهزائم التي لحقت بالعرب في القرن العشرين التي مازالت جراحها مفتوحة وغائرة في الأعماق والتي يبدو أن العرب سيدخلون القرن الحادي والعشرين وهم يحملون أعباءها الثقال ولم يتخلصوا بعد من آثارها المضنية، وتبدو عبارة "إزالة آثار العدوان" التي رفعها عبد الناصر غداة الهزيمة عبارة حبلى ومثقلة بالآلام والظلال.


الغريب أن كتابا وأدباء مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وخليل حاوي وأمل دنقل وعبد الله القصيمي تنبؤوا بالكارثة قبل وقوعها

كانت هزيمة 67 كما وصفها رجاء النقاش "انكسار الروح" ولم يحدث أن هزت العرب مصيبة مثلها، وشخص نديم البيطار الهزيمة بقوله: "كانت هزيمة لعمارة المجتمع العربي ولبنيته المادية والعقلية معا وكشفت عن تأخره السياسي والاقتصادي والتقني والثقافي، فضلا عن تأخره العسكري" وقد جعلت المفكرين والمبدعين العرب يقومون بمراجعة قاسية للذات والأفكار وبعضهم ينتحر مثل الشاعر اللبناني خليل حاوي والأردني تيسير سبول.

الكتاب والأدباء تنبؤوا بالهزيمة
والغريب أن كتابا وأدباء مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وخليل حاوي وأمل دنقل وعبد الله القصيمي (سعودي) تنبؤوا بالكارثة قبل وقوعها، ففي قصيدته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" كتب الشاب أمل دنقل قبل الهزيمة بشهور قليلة:

"ويكون عام فيه تحترق السنابل والضروع
ويموت ثدي الأم.
تنهض في الكرى تطهو على نيرانها الطفل الرضيع"

وقد أمضى دنقل سنوات عمره المتبقية بعد الهزيمة كئيبا مريضا حتى توفي وهو في سن الشباب وفاة تشبه الانتحار أو لعلها انتحار بالفعل. وأما القصيمي الذي لجأ من السعودية هاربا من الاضطهاد الفكري والسياسي إلى مصر التي كانت في حالة عداء مع السعودية فقد أبعد من مصر أيضا -وكانت ومازالت من مفارقات الوضع العربي أن تتفق أشد المؤسسات الدينية محافظة مع أشد المؤسسات الثورية السياسية على مطاردة مفكر بعينه- فقد كتب محذرا من الطغيان والاستبداد وأشار بما يشبه الصراحة إلى عبد الناصر ودوره في تكريس التخلف والاستعداد للهزيمة "حتى التاريخ وحتى الأموات لا يريد أن يوجدوا ويذكروا أو ينسب إليهم خير حتى لا ينافسوه أو يشاركوه في إبداع الحياة والحضارة وفي صياغة التاريخ… يكره الأشياء المرتفعة، يكره الرؤوس المرتفعة.. والعقول المرتفعة، والأخلاق المرتفعة".

ومن خليل حاوي وأمل دنقل (الشعر) إلى عبد الله القصيمي (الفكر) إلى نجيب محفوظ (الرواية) إلى توفيق الحكيم (المسرحية) جاءت مثل هذه النماذج ظاهرة أو مبطنة لتعبر عن شعور عدد من كبار المثقفين العرب بالقلق والحيرة والإحباط في السنوات القليلة التي سبقت الهزيمة وتلت التراجعات الثورية المبكرة.

وبعد الهزيمة كان من الدروس المستفادة كما وثق ذلك محمد حسنين هيكل أنه لا يمكن خوض حرب عصرية بجنود وضباط ينتمون إلى تشكيلات مجتمعية تقليدية متخلفة، فالحرب التكنولوجية الحديثة تحتاج إلى كوادر متعلمة ومتدربة واعية من صميم المجتمع المدني المتحضر، وهكذا كان الإعداد لحرب رمضان، وأثبت الفرد العربي المتعلم والمتدرب كفاءته العالية في الحرب الحديثة.

التخلف نكبة العرب الأولى


إذا كانت قضية فلسطين قضية العرب الأولى فإن التخلف العربي هو نكبة العرب الأولى، وأي محاولة لإنكاره بأي عذر من الأعذار والمبررات لن تؤدي بنا إلا إلى المزيد من الضياع بل إلى فقدان الوجود والحضور في هذا العصر

وهكذا فإذا كانت قضية فلسطين قضية العرب الأولى فإن التخلف العربي هو نكبة العرب الأولى، وأي محاولة لإنكاره بأي عذر من الأعذار والمبررات لن تؤدي بنا إلا إلى المزيد من الضياع بل إلى فقدان الوجود والحضور في هذا العصر، وأية دولة أو حركة سياسية (قومية أو إسلامية أو وطنية) لا تضع التخلف ومعالجته في سلم أولوياتها وفي صميم مشروعها السياسي لن تجلب لنفسها ولأمتها غير المزيد من النكبات، ولعل أوجز ما قيل تعبيرا عن المأزق التاريخي العربي هو قول فهمي هويدي: "إذا كان التخلف كارثة فالكارثة الأعظم ألا ندرك أننا متخلفون" وكان صدور ذلك عن كاتب إسلامي ملتزم يطرح السؤال إذا كانت الحركة الإسلامية تستطيع التحول إلى معالجة حقيقية لأوضاع الحاضر بلا مخادعة للنفس.

السوفيات وراء الهزيمة!
كانت الثورية العربية واليسار أولى ضحايا الهزيمة، وقد يكون الاتحاد السوفياتي ساهم في صنع الهزيمة لدفع عبد الناصر إلى الاعتماد على السوفيات والابتعاد عن الولايات المتحدة، ويبدو أن القيادة السوفياتية كانت تتصور أن المعركة ستكون ضربة محدودة لتحجيم الناصرية وتقليل أثرها ولكنها كانت خلافا لتقدير السوفيات اختراقا إسرائيليا أميركيا حاسما للمنطقة قضى على المصالح السوفياتية، وتلاشت بسببها الكيانات والأحزاب الماركسية والقومية في المنطقة ثم تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه وانهارت الشيوعية.

وكتب المفكر "القومي السوري" هشام شرابي محللا للهزيمة: "ولم تدم نشوة الثورة طويلا، وأدركت أن الأمر ليس سهلا وأن التغيير لا يحصل لمجرد إيماننا بضرورة حصوله، وبدأت أعي أن التحول أمر معقد للغاية، ومنذ ذلك أخذ تفكيري اتجاها جديدا يدور حول واقعنا الاجتماعي وأسباب فساده وأخذت أتساءل حول تركيب مجتمعنا العربي وطبيعة السلوك فيه" وهكذا لم يكن من مفر أن يتحول التشخيص من إلقاء اللوم على صفقة الأسلحة الفاسدة (عام 1948) إلى تحميل "التركيبة الفاسدة" كلها مسؤولية الهزيمة.

اليسار ينقض على الناصرية


من عميق الدلالة أن يستشعر النظام الناصري خطر كتاب "معالم على الطريق" في حينه عندما رصدت مباحثه سرعة انتشاره بين الجماهير فيضغط الجناح اليساري المتطرف في النظام باتجاه إعدام سيد قطب بتهمة المشاركة في مؤامرة على أمن الدولة

وقد شهدت الشهور الأولى بعد الهزيمة انقضاضا أيدولوجيا يساريا على الناصرية شارك فيه الإعلام السوفياتي، وبدا كما لو أن الماركسية في صعود حتى أن صادق جلال العظم ختم كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" الذي صدر عام 1968 بعبارة سارتر: "الماركسية هي الفلسفة المعاصرة"، ولكن ذلك الصعود اليساري كان مؤقتا فقد توارى اليسار بسرعة أمام صعود إسلامي كاسح وبرغم أن الصحوة الإسلامية تجلت بقوة في أوائل السبعينات فإن كتاب سيد قطب "معالم على الطريق" الذي صدر عام 1965 إرهاصا لتحولات إسلامية كبرى أو "المنفستو" الأول للحركة الإسلامية الراهنة على امتداد الأفق الإسلامي من مصر إلى الجزائر إلى أفغانستان، وربما كان سابقا لأوانه مقارنته بالمنفستو الشيوعي
(1848) ولكنه على الصعيد الإسلامي كان كذلك، حتى إن غازي القصيبي الكاتب والشاعر والسياسي السعودي وصف الكتاب في روايته "العصفورية" معبرا عن تفاعلات المرحلة على لسان أحد شخوص الرواية إنه أعظم كتاب صدر خلال نصف القرن الأخير فيرد عليه محدثه مصححا: بل هو أعظم كتاب في خلال القرون الخمسة الأخيرة.

وإنه من عميق الدلالة أن يستشعر النظام الناصري خطر هذا الكتاب في حينه عندما رصدت مباحثه سرعة انتشاره بين الجماهير فيضغط الجناح اليساري المتطرف في النظام باتجاه إعدام سيد قطب في آب/ أغسطس عام 1966 بتهمة المشاركة في مؤامرة على أمن الدولة وأيا كانت ملابسات تلك المؤامرة فإن ذلك الكتاب المنفستو هو الذي حمل حيثيات إعدامه في واقع الأمر.

وعلى الطرف النقيض وفي العام ذاته (1965) كان جلال صادق العظم أستاذ الفلسفة اليساري سليل الأسرة الأرستقراطية يلقي في النادي الثقافي العربي –نادي القوميين العرب ببيروت- محاضرة بعنوان "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني" ومما قاله في محاضرته: إن الدين كما يدخل في صميم حياتنا وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي يتعارض مع العلم والمعرفة قلبا وقالبا، نصا وروحا.

المصدر : غير معروف