الأفلام الطبية والأخلاقيات والقتل الرحيم في ألمانيا النازية

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
اعتبرت الأفلام التعليمية أداة ملائمة "للتربية العنصرية" يمكن بواسطتها بث المواقف والأفكار الملائمة للنظرة النازية إلى جماعات اجتماعية وعرقية معينة في صيف العام 1993, كان الأطفال الذين يقطنون ضاحية سبانداو, وهي إحدى ضواحي العاصمة الألمانية برلين, يعثرون باستمرار على قطع من الأفلام بالقرب من بحيرة "ستوسنسي".


undefined-اسم الكتاب: الأفلام الطبية, والأخلاقيات, والقتل الرحيم في ألمانيا النازية
–المؤلف: أولف شميدت
-عدد الصفحات: 394
-الطبعة: الأولى 2002
الناشر: ماتثايسن فيرلاغ, ألمانيا

واستمر الأمر على هذه الحال حتى لفتت الظاهرة نظر شرطي محلي قام بإبلاغ السلطات المعنية التي سرعان ما بادرت إلى فتح تحقيق في تلك الظاهرة وأرسلت غواصين محترفين للتفتيش في قعر البحيرة الطيني.

استخرج الغواصون ما مجموعه 161 شريطا سينمائيا جمعت معا وأرسلت إلى دائرة الأرشيف الفدرالي الموحد لبرلين وكوبلنز من أجل فحصها وتقييمها ومن ثم حفظها في الأرشيف.

نشرت صحف الإثارة تكهنات عما يمكن أن تحويه تلك الأفلام، وتخيل بعضها أنها تحوي مشاهد لتسميم المرضى العقليين وقتلهم بالغاز على يد النازيين.

لكن خيال الصحفيين الجامح سرعان ما ارتد مدحورا عندما قامت دائرة الأرشيف الفدرالي بالدعوة إلى مؤتمر صحفي عرضت فيه تلك الأفلام.

لم تظهر صور في أغلب تلك الأفلام، أما تلك التي ظهرت فيها الصور فإنها لم تكن في الواقع سوى تسجيل لفحوص طبية سريرية أجريت على بعض المرضى وصورت في أفلام لأغراض تعليمية يفيد منها طلاب الطب والأطباء.

في نهاية المطاف أغلق التحقيق بعد التوصل إلى أن تلك الأفلام التي اكتشفت في البحيرة المذكورة لم تكن وثائق تكشف عن الفظائع النازية, إنما هي "مادة عادية غير سياسية لأغراض التعليم العلمي".


اعتبرت الأفلام التعليمية أداة ملائمة "للتربية العنصرية" يمكن بواسطتها بث المواقف والأفكار الملائمة للنظرة النازية إلى جماعات اجتماعية وعرقية معينة

الكتاب التحدي
يهدف الكتاب الذي بين أيدينا إلى تحدي النتيجة التي توصل إليها المحققون، فمؤلف الكتاب أولف شميدت يعمل حاليا محاضرا في مادة التاريخ الحديث في جامعة كنت في كانتربري بإنجلترا.

وفي السنوات التي أعقبت اكتشاف أفلام بحيرة ستوسنسي, قام شميدت بجمع كمية كبيرة من المصادر الأولية التي تعود إلى فترة الرايخ الثالث (1933-1945) التي بحث عنها واستخرجها من الأرشيف والمكتبات والمستشفيات والأقسام الجامعية والمجموعات الشخصية.

وكان موضوع بحثه هو نشاطات مكتب الرايخ للأفلام التربوية, ومعهد الرايخ للأفلام والصور العلمية والتعليمية. وكان المعهد الأخير قد خلف مكتب الرايخ في السيطرة على إنتاج وتوزيع الأفلام التعليمية في الرايخ الثالث.

وبالاستناد إلى معرفته الواسعة بالممارسات الطبية والثقافة السائدة في ألمانيا النازية إضافة إلى الدور الذي كان للأفلام في ذلك المجتمع, تمكن شميدت من أن يكون مقنعا في رأيه القائل بأن تلك الأفلام لا يمكن أن تعتبر مادة تعليمية "موضوعية" وغير سياسية.

فقد وجدها على العكس من ذلك تماما، حيث إن جميع الجوانب التي أحاطت بإنتاجها مشبعة بالأيدولوجية النازية، وكان الغرض منها هو تعليم الطلاب والأطباء كيفية ممارسة الطب تبعا للأفكار السياسية السائدة التي تضع قيمة "جسم الأمة" فوق قيمة جسم الفرد.

النازية والقتل الرحيم
تبعا للإطار الفكري للأيديولوجيا النازية, كان الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقلية أو أمراض وراثية أو أمراض ميؤوس من شفائها لا يعتبرون كائنات بشرية أقل قيمة من سواها فحسب, إنما كان ينظر إليهم بصفتهم تهديدا مباشرا لـ"الجسم القومي".

ويجادل شميدت بأن الافلام المعنية, رغم كونها لا تدعو صراحة إلى قتل الأشخاص "الأدنى مرتبة", فإنها توصل هذه الرسالة بطريقة ضمنية غير معلنة.

فهذه الأفلام التي صورت في أقسام الأمراض العصبية والنفسية في المستشفيات التعليمية التابعة لكبريات الجامعات الألمانية تتناول بعض الاختلالات العقلية والعصبية مثل الصرع ومرض باركنسون.

وفي هذه الأفلام غالبا ما يتم تصوير المرضى وهم في حالة العري التام على خلفية من جدران خالية أو في حالة الرقود على الأرضية تغطيهم قطع من قماش أسود, وقد جردوا من كل معالم الكرامة الإنسانية.

يظهر هؤلاء المرضى في الأفلام وهم يمتثلون بكل طاعة لأوامر الأطباء الذين يطلبون منهم أداء حركات وأفعال يفترض أنها توضح اختلالات سريرية معينة. ويتجاهل الأطباء الإزعاج والألم اللذين يشعر بهما المرضى وهم في هذه الوضعيات.

في هذه الأفلام يستخدم التشييء المفرط للكائن البشري واختزاله إلى مجرد اختلال مرضي أو عارض من أعراض حالة ما من أجل إيصال رسالة خاصة بالتربية الطبية العلمية على عهد النازية، وهي الرسالة التي يجدها المرء واضحة تمام الوضوح في هذه الأفلام.

وإضافة إلى تلك الرسالة, يتعلم الطلاب والأطباء من هذه الأفلام كيف ينظرن بدونية إلى مثل أولئك المرضى.

يضاف إلى ذلك, أن الغرض من هذه الأفلام في حالات معينة هو أن توثق للأجيال القادمة من الأطباء والعاملين في الحقل الطبي تلك الاختلالات التي كان يفترض لها أن تختفي من المجتمع الألماني بعد النجاح في تطبيق برامج "القتل الرحيم" و"آكتيون تي 4″ التي ترمي إلى تصفية المعاقين من الأطفال والبالغين بالتتابع.

لا ينحصر اهتمام شميدت بهذا الموضوع بجانبه التاريخي فقط، ففي الوقت الذي تم فيه إتلاف أو فقدان بعض الأفلام التي أنتجها معهد الرايخ للأفلام التعليمية, مثل تلك التي عثر عليها في بحيرة ستوسنسي, فإن أفلاما تعليمية عديدة أخرى اعتبرت من قبل الحلفاء في الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية "أفلاما غير دعائية" وبالتالي فهي صالحة للاستخدام العمومي.

معهد الأفلام العلمية الجديد في مدينة غوتنغن, الذي قام بعد الحرب والذي يمكن اعتباره بحق خلفا للقسم الجامعي الذي كان تابعا لمعهد الرايخ للأفلام التعليمية, استولى على الكثير من موجودات المعهد القديم وواصل توزيع هذه الأفلام على الكليات الطبية في ألمانيا. وهكذا ظلت الأفلام المنتجة إبان الحقبة النازية جزءا مرخصا به من المادة التعليمية في الجامعات حتى ثمانينيات القرن الماضي.

ويجادل شميدت بأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال استخدام هذه الأفلام للأغراض التعليمية، أولا -وكما تم توضيحه آنفا- لأنها تحمل أيديولوجية معينة تبثها من خلال تشييء المرضى الذين تصورهم وتجريدهم من معالمهم الإنسانية, وثانيا لعدم وجود أي دليل يثبت أن أولئك المرضى قد تطوعوا للمشاركة في تصوير تلك الأفلام بكامل إرادتهم وإدراكهم لمضامينها.

ويعترض شميدت أيضا على الموقف الحالي لمعهد الأفلام العلمية, الذي عمل بدافع من ازدياد الحساسية العامة إزاء الاستخدامات الأخلاقية في تاريخ الطب إبان الحقبة النازية, على سحب تلك الأفلام من الاستخدام العام وتقييد سبل الوصول إليها من قبل الباحثين والجمهور على حد سواء.

ونجده يؤكد على ضرورة الحصول على معرفة واسعة بالممارسات التي كانت سائدة في ذلك الماضي القريب من أجل إدراك أبعاد مواقفنا المعاصرة من الأشخاص الذين يعانون من الإعاقات والأمراض العقلية والاختلالات الوراثية.

ويذهب شميدت إلى اقتراح حفظ أسماء المرضى الذين يظهرون في تلك الأفلام وإعلانها على الملأ كي يتذكرهم الناس كضحايا للنظام النازي شأنهم في ذلك شأن أولئك الذين عذبوا أو أعدموا في معسكرات الاعتقال.


يجادل شميدت بأنه لا ينبغي بأية حال من الأحوال استخدام هذه الأفلام للأغراض التعليمية لأنها تحمل أيدولوجية معينة تبثها من خلال تشييء المرضى الذين تصورهم وتجريدهم من معالمهم الإنسانية

فصول الكتاب
الكتاب مقسم إلى سبعة فصول، في الفصل الأول يتم تعريف القارئ بالموضوع الرئيسي للكتاب, والوضع التاريخي الذي يتناوله ومصادر البحث ومنهجيته. في حين يقدم الفصل الثاني مراجعة واسعة لتاريخ علم تحسين النسل في مطلع القرن العشرين من جهة, وتاريخ الأفلام الطبية ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، كما يؤكد على ثراء وتنوع الأفلام العلمية في ألمانيا.

في الفصل الثالث يبين شميدت كيف قاد الصراع على النفوذ بعد العام 1933 والذي شمل مختلف أجزاء الدولة النازية الجديدة إلى ارتقاء مكانة معهد الأفلام العلمية والتعليمية الذي سرعان ما استلم السيطرة على كامل عملية إنتاج الأفلام التعليمية وتوزيعها في عموم ألمانيا.

أقام المعهد -الذي كانت تديره مجموعة مختلطة من الموظفين الانتهازيين والنازيين المتحمسين- شبكة واسعة من الفروع المحلية في المقاطعات والمحافظات والمدن، تولت توزيع الأفلام التعليمية على المدارس.

كانت وزارة الدولة للدعاية والتثقيف الشعبي في عهد النازية تحت إدارة جوزيف غوبلز وزير الإعلام النازي سيئ الصيت قد ركزت على الاعتماد على الأفلام كوسيلة لتعميم مبادئها السياسية بين أوسع الطبقات الاجتماعية، كما وجدت أن الأفلام أسهل التقاطا وأبعد تأثيرا من النصوص المكتوبة أو المحاضرات.

يدقق الفصل الرابع بكثير من العناية بعملية إنتاج الأفلام الطبية في القسم الجامعي التابع لمعهد الرايخ للأفلام العلمية والتعليمية خلال تلك الفترة, ويبين أن السنوات الأولى من عمر المعهد قد شهدت طغيان المعلومات الجراحية والتوليدية على بقية الموضوعات, لكن سنوات الأربعينيات تميزت بزيادة حصة الموضوعات العصبية والنفسية في تلك الأفلام.

وحسب ما يوضح شميدت فإن الفترة الأولى تمثل الاهتمام بتوجيه الأطباء وإحاطتهم علما بأساليب التعقيم الجراحي, وهي العملية التي اكتسبت أهمية كبيرة في الأوساط الطبية النازية بعد المصادقة على "قانون التعقيم" عام 1933 وهو القانون الذي يجيز عملية التعقيم الإلزامي في مجموعة واسعة من حالات الأمراض الوراثية المزعومة.

أما الفترة الثانية فتمثل التحول إلى الاهتمام بتصوير المرضى المصابين بالاختلالات العصبية والنفسية التي كان من المفترض أن يتم القضاء عليها عندما يتم تطبيق برامج "القتل الرحيم" وبرنامج "آكتيون تي 4" بنجاح.

يتركز مضمون الكتاب في الفصلين الخامس والسادس, وهما الفصلان الأكثر أهمية من بين جميع فصول الكتاب، ففي الفصل الخامس يحلل شميدت عملية إنتاج الأفلام في قسمين طبيين متخصصين بالأمراض العصبية والنفسية ويمتلكان تاريخا طويلا في مجال إنتاج الأفلام، هما قسم فرانكفورت الذي كان يعمل تحت إشراف كارل كلايست, وقسم تشاريتيه دي برلين الذي كان يعمل تحت إشراف ماكسيميليان فون كرينيس.

أما في الفصل السادس فيركز المؤلف على العلاقة القائمة بين الأفلام الطبية وبرنامج "القتل الرحيم" الذي تمت ممارسته على الأطفال الذي توخى القضاء على الأطفال الذين يولدون باعاقات بدنية أو وراثية.

وتكمن قوة الطرح في هذين الفصلين في المزيج الناجح والمؤثر لعدد من المصادر والأساليب المتنوعة, يبرز من بينها بشكل خاص تحليل مضامين الأفلام التالية "الوراثة ومرض الصرع المكتسب" (1935), و"مرض ويلسون سودوسكلوروسيس" (1938), و"مريضة عمرها أربع سنوات ونصف مصابة بصغر حجم الجمجمة", (36 – 1937), مع إيراد سجلات المستشفيات وغيرها من الوثائق ذات العلاقة بالمرضى الذين يظهرون في تلك الأفلام.

ومن بين التحليلات المؤثرة والمثيرة للأفكار ذلك التحليل المتعلق بحالة المريضة فالنتينا ز. التي يظهر وجهها المبتسم على غلاف الكتاب.

ولدت فالنتينا وهي مصابة بصغر حجم الجمجمة وهي حالة مرضية يسببها خلل في نمو الدماغ أو التعرض لضرر كبير أثناء عملية الولادة.

وكنتيجة لتلك الإصابة لم تكن فالنتينا قادرة على الكلام أو المشي أو الوقوف على قدميها, ومن المرجح أنها كانت عمياء أيضا. وعندما بلغت فالنتينا سن الرابعة أدخلت إلى قسم الأطفال في "تشاريتيه دي برلين", حيث قام مساعد فون كرينيس وخبير الأفلام العلمية والتعليمية الدكتور غيرهارد كوجاث بإنتاج فيلم عنها.

في هذا الفيلم أخضعت فالنتينا لسلسلة من التجارب والاختبارات المؤلمة, وكانت تعرّض أثناء ذلك إلى ما يثير لديها الصراخ والبكاء لأسباب تعليمية بالطبع.

لم تعش فالنتينا طويلا، فقد توفيت بعد ذلك بسنوات قليلة في "جناح الأطفال الخاص" في ويتيناو برلين, وهو معهد شارك في تنفيذ برنامج "القتل الرحيم" بحق الأطفال. ومن هنا فإن من المرجح أن تكون فالنتينا قد قتلت بجرعة عالية من مادة "الباربيتيورات" المهدئة وتبع ذلك تشريح دماغها.

يختتم المؤلف شميدت دراسته للأفلام الطبية في ألمانيا النازية بحكاية فالنتينا، أما في الفصل السابع والأخير من الكتاب فيتابع شميدت ما حدث لمعهد الأفلام العلمية والتعليمية بعد الحرب وماذا كان من أمر الأفلام التي أنتجت فيه.

وقد قام شميدت, لتحقيق هذه الغاية, ببحث مستفيض في الكتب الطبية الألمانية والنمساوية, وفي المجموعات التعليمية التي ظلت حتى عهد قريب تضم المعلومات البشرية الموروثة عن الفترة النازية.


محاولة المؤلف الجديرة بالثناء في ربط قضايا الأخلاقيات الطبية بتاريخ الطب وبتاريخ الأفلام الطبية كانت مصدرا لعدد من المشاكل في مجال تنظيم المادة, حيث تسببت في التكرار واضطراب التركيز في بعض الأحيان

الكتاب ما له وما عليه
إن هذا الكتاب الذي وضعه أولف شميدت وأودعه نتائج بحوثه الدقيقة والدؤوبة وكتبه بأسلوب متميز وشيق يعتبر كتابا عظيم الفائدة ليس للقراء المهتمين بتاريخ الطب أو بالسينما فحسب, إنما بالنسبة لجميع العاملين في ميدان التعليم الطبي المعاصر وغيره من الميادين الأخرى بالنظر لإبرازه عددا من القضايا الأخلاقية المهمة التي ما تزال مثار الاهتمام حتى يومنا هذا.

ولأن من الصعوبة بمكان العثور على كتاب خال من الهنات, فإن ما ضمه هذا الكتاب من هنات يعود بالدرجة الأولى إلى تقصير من المحرر أو من دار النشر وليس إلى المؤلف نفسه.

وكمثال على تلك الهنات نجد أن النسخة ذات الغلاف الورقي مطبوعة على ورق ذي نوعية رديئة, كما أن الكثير من الملاحق المفيدة مثل ملاحق الأفلام الطبية, والمختصرات, والمراجع, ومقتنيات الجامعات من الأفلام العلمية, مرتبة بطريقة متعبة. يضاف إلى ذلك أن الفهرس لا يتناسب من حيث الحجم والمادة مع كتاب على هذه الدرجة من الأهمية والطموح.

أما في ما يتعلق بمضمون الكتاب نفسه فإن محاولة المؤلف الجديرة بالثناء في ربط قضايا الأخلاقيات الطبية بتاريخ الطب وبتاريخ الأفلام الطبية قد كانت مصدرا لعدد من المشاكل في مجال تنظيم المادة, حيث تسببت في التكرار واضطراب التركيز في بعض الأحيان. لكن هذا يجب ألا يصرف الأنظار عن قيمة هذا الكتاب الذي لا غنى عنه لكل من يحمل اهتماما بقضايا الطب والأخلاقيات والإعلام.

المصدر : الجزيرة